«مسرح لبيروت» في حمى المجتمع المدني



مرّت سنتان على إقفال «مسرح بيروت»، وما زلنا في مجموعة «ردوا المسرح لبيروت» نحاول تفعيل قانون الممتلكات الثقافية لإنقاذ المسرح من خطر الهدم، وإنقاذ ذاكرة بيروت الثقافية من تهديد الطمس. خلال السنتين الماضيتين، التقت المجموعة مراراً بوزير الثقافة كابي ليون وبفريق عمله الوزاري، ما أدى إلى تراكم النقاشات والملفات.
أما اليوم، فقد قرّر الوزير إحالة الموضوع على «هيئة التشريع والاستشارات» (هيئة قضائية في وزارة العدل) بهدف إصدار قرارها الاستشاري بشأن الخطوات القانونية الإجرائية المناسبة الآيلة إلى إعادة فتح المسرح وتفعيل الآليات المنصوص عليها في قانون الممتلكات الثقافية بناءً على طلب وزارة الثقافة (حسب القانون 37/2008). مواكبةً لهذه المحطّة الدقيقة التي قد تصدر نتيجتها الإيجابية أو السلبية قريباً، وحرصاً منّا على إشراك أكبر عدد من الأشخاص والهيئات المعنية بهذه القضية لتحقيق الأهداف المشتركة، تدعوكم المجموعة إلى الحضور والمشاركة في تأسيس جمعية غير حكومية ثقافية مستقلّة جامعة، تهدف إلى تنظيم تحركنا عبر إضفاء الصفتين التمثيلية والقانونية لإطار عملنا؛ والإعلان رسمياً عن تأسيس الإطار القانوني المناسب لجهة تفعيل آلية إعادة فتح المسرح وإدارته في موازاة درس «هيئة التشريع والاستشارات» لملفّ القضية. بين الخامسة والسادسة والنصف من مساء غد، ستكون المهلة الأخيرة للراغبين في الانضمام لمؤسسي الجمعية، إذ سيُعلن عن تأسيس جمعية «ردّوا المسرح لبيروت» بمن حضر. لذلك، أحضروا نسخة عن بطاقة الهوية وسجلاً عدلياً لا يتعدى تاريخه ثلاثة أشهر، ولاقونا إلى «زيكو هاوس» (سبيرز ـ بيروت)، فمسؤولية إعادة إحياء «مسرح بيروت» والحفاظ على الممتلكات الثقافية تقع على عاتقنا جميعاً، خصوصاً أنّ المجموعة لم تعد قادرة على متابعة المسار بمفردها. والأهم أنّنا لا نريد احتكار إدارة المسرح لدى افتتاحه، بل تهمنا أكبر مشاركة فاعلة من الأفراد والمؤسسات الثقافية. لا يمكننا غض الطرف عن الدور الرئيس والأعزل الذي يؤديه المجتمع المدني في إحياء الحياة الثقافية في لبنان وازدهارها. لذلك، لنكن كثراً، ولنغمر صفحات وثائق تأسيس الجمعية بتوقيعات مَن يصنعون فعلاً ثقافة لبنان. ولنقل لوزارة الثقافة أيضاً، إنّنا ــ المجتمع المدني ــ مستعدّون للقيام بدورنا وإدارة مسارحنا، شرط أن تلاقينا عند منتصف الدرب وتتحمّل مسؤولية حماية الذاكرة الثقافية، وإلا فلتزل كلمة «ثقافة» عن مكاتبها وحقائبها.

"مجموعة الدكتافون" ... هذا القطار لي!



من الأملاك البحرية في عرضها السابق إلى مصلحة السكك الحديدية اللبنانية في «تصريح». قدّمت مجموعة الدكتافون  محاضرة أدائية عن القطارات الثلاثة التي كانت تعبر لبنان منذ عام 1891 حتى اندلاع الحرب الأهلية. لركوب القطار المتّجه شمالاً لحق الجمهور بتانيا الخوري. أما المتوجهون شرقاً، فمع بترا سرحال، وجنوباً مع عبير سقسوق. هكذا انطلق عرض «تصريح» الذي قدمته مجموعة «مجموعة الدكتافون» لليلتين في فضاء «أشكال ألوان» (جسر الواطي ــ بيروت). من محطة قطار مار مخايل في بيروت، اتجهت تانيا نحو العبودية، وبترا نحو رياق، وعبير نحو الناقورة. المسارات الثلاثة تقاطعت عند نقطة النهاية على الحدود اللبنانية.
داخل الصالة، توزعت المقاعد على ثلاثة خطوط بحسب وجهة انطلاق القطار. على الأرض، خريطة كبيرة للبنان حيث تتجول المؤديات الثلاث فوقها خلال العرض، كل بحسب مسارها. أما في الخلفية، فيرافق فيديو رحلة كل منهن (تصوير كرم غصين، دانا أبو رحمة، وتوليف علي بيضون). ينقل الفيديو تفاصيل الرحلة عبر مشاهد من داخل السيارة، وأخرى لمحطات القطار، ومشاهد التقطت خلسة حيث يمنع التصوير. خلال المسارات الثلاثة، تحدثنا كل مؤدية عن تجربتها الشخصية خلال الرحلة، مستغلة توقفها عند محطات القطار كي تقدم لنا المعلومات التي حصلت عليها خلال البحث. عرض يفضح الفساد المتفشي في الطبقة السياسية الذي أدى إلى إبقاء السكك معطلة بعد مرور أكثر من 20 عاماً على انتهاء الحرب الأهلية، علماً بأنّ للمصلحة موظّفين لا يزالون يقبضون رواتبهم حتى اليوم. يُختتم العرض بسرد شهادات سائقين قادوا آخر ثلاثة قطارات.


من الأملاك البحرية في العرض السابق «هذا البحر لي» إلى مصلحة السكك الحديدية اللبنانية والقطارات الثلاثة التي كانت تعبر لبنان منذ 1891 إلى أن توقفت أثناء الحرب الأهلية. من الواضح التزام المجموعة بمقاربة مواضيع تعني كل لبناني بعيداً عن النخبوية. بالطبع، ليس خيار تقديم عرضين في فضاء «اشكال ألوان» الأفضل، لكنّ المجموعة أكّدت لـ«الأخبار» أنّها تنوي تقديم العرض في مناطق لبنانية أخرى، ربما في طرابلس ورياق. لكن النقطة الأهم في تراكم أعمال المجموعة تبقى في التجريب ضمن قالب المحاضرة الأدائية الذي اختارته كوسيلة عرض. تنطلق «مجموعة الدكتافون» في عملها دائماً من بحث معمّق، ويهدف العرض إلى إيصال معلوماته ضمن قالب فني. في «هذا البحر لي»، كانت المؤدية تانيا الخوري تجول ضمن زورق مع أربعة مشاهدين/ مشاركين في موازاة شاطئ بيروت. خلال الرحلة البحرية، قدمت للجمهور كل المعلومات، لكنّه شاركها في تظاهرة بحرية وخرق الأملاك «الخاصة» وسبح فيها.

أما في «تصريح»، فلا وجود لطاولة تجلس المؤديات خلفها ليتوجّهن إلى الجمهور، رغم توفر الصالة المقفلة والكراسي والفيديو، وهي العناصر المعتمدة عادة في المحاضرات الأدائية. كما تم تقسيم الجمهور وتوزيع مقاعده ربطاً بالموضوع المطروح، ووزعت ورقة عليه تظهر مسار القطارات وإرشادات السفر التي تتوسع لتطال التعامل مع الراكب (المشاهد) المجاور والابتسام له. خلال العرض، كانت المؤديات يكتبن ملاحظات على الخريطة الموضوعة على الأرض ويلصقن إشارات تُمكّن الجمهور من تفقدها في نهاية العرض، وكتابة حكاياته الخاصة عليها. في بعض المحطات، طلب من أفراد من الجمهور المشاركة في أداء بعض النصوص، رغم أنّه يمكن استثمار تلك العناصر وغيرها أكثر وتوظيفها بشكل أعمق ضمن تركيبة العرض، إلا أنها تفتح المجال أمام تجريب أوسع في قالب المحاضرة الأدائية. تبقى الموسيقى (تأليف أحمد خوجا وخيري عبيش) وبعض اللحظات الشاعرية في النص النقاط الأضعف، فالموضوع بحدّ ذاته يحمل كمّاً كبيراً من النوستالجيا الكامنة في مشاهد محطات القطار المهجورة، علماً بأن المجموعة نجحت في تفادي لحظات البكاء على الأطلال، وحوّلت المشروع إلى بطاقة سفر على طول السكك الحديدية في المنطقة لإعادة ربطها ولو بالخيال. يبقى العرض الذي قدم في بيروت المرحلة الأولى في المشروع الذي سوف يتم توسيعه من خلال بحث ميداني إضافي، إذ تنوي المجموعة تطويره ونقله إلى المناطق والبلدان التي شهدت امتداد السكك الحديدية.



"بي إس لاب" يحاور الفضاءات




تأسست شركة "پي إس لاب" PSLAB في بيروت بهدف تطوير مفهوم الإضاءة المستعملة في الفضاءات الخاصة كما العامة. اليوم، أصبحت مشاريع الشركة موزعة ما بين منازل غالباً ما تكون في لندن، ومعارض فنية في بيروت، ومطاعم في روما، وفنادق في باريس، ومكاتب في برلين، وفي مساحات عامة حول العالم. لا تقتصر مشاريع پي إس لاب على اختيار الضوء المناسب للمكان المناسب، بل تأتي نتيجة لحوار مطوّل ما بين فريق العمل والزبون الذي يتحول إلى شريك في عملية الخلق. هكذا، تقدم الشركة خدمة متكاملة وخاصة لكل فرد وفضاء ومشروع، تبدأ بدراسة الفضاء، ثم الخلق، ثم التصنيع، وتنتهي بالتركيب.


منذ تأسيس الشركة في 2004، استطاع ديمتري الصدّي، مؤسسها ومديرها، أن يوسعها، حتى بات فريق الشركة اليوم يضم أكثر من 100 موظف، إضافة إلى مكاتب موزعة في كل من بيروت وشتوتغارت، بولونيا وأوسلو، هيلسنكي وسنغافورة. علماً أن عملية التصنيع بمجملها تجري في بيروت. في إطار مشاريعها المختلفة، تتعاون "پي إس لاب" مع أسماء معروفة في عالم الهندسة والتصميم. هكذا، تعاونت مع المعماري اللبناني برنارد خوري لإضاءة درج يتوسط مساحة بيت خاص في بيروت. فجرى تصميم إضاءة تتدلى من وسط السقف على شكل دائري بموازاة الأدراج، مع وصلات معدنية متفاوتة الطول، موحية بشكل لولبي يحاور شكل الدرج.



كذلك في مطعم پيار لويجي Pier Luigi في روما، كان الهدف مجاراة إعادة ترميم المطعم على يد المعماري بيار جيورجيو أنطونيتي Pier Giorgio Antonetti. هكذا تمت المحافظة على خصوصية الأقسام الجانبية في المطعم وحميميتها بالرغم من كثافة الإضاءة المستعملة. لإبراز أهمية طاولة رفيعة طويلة تتوسط المطعم، وبارَهُ، جرت إضاءتهما عن قرب بخط موازٍ لهما مؤلف من مصابيح كثيرة متدلية من السقف. 


أما في كافيتريا مركز باربيكن للفن في لندن، حيث القوانين المحافظة على القيمة المعمارية للمكان تمنع ثقب الجدران، فقد جرى استحداث رفوف معدنية تتوسط المساحة العامة وتفصلها إلى أقسام وُزِّعت عليها جِرارٌ زجاجية تستعمل عادة لتخزين الزيتون، بحيث تم تطويعها لتحتوي الإضاءة. خلال أسبوع التصميم الذي احتضنته ميلانو في عام 2009، تعاونت پي إس لاب مع پيوأرش ميلان PIUARCH (ستوديو معماريين وتنظيم مدني) لإعداد تجهيز ضوئي مؤلف من حوالي 750 غالون تمت إضاءتها من الداخل لتشكل جداراً ارتفع أمام واجهة أحد المباني في ميلانو. أرادت پي إس لاب أن يسائل هذا الطرح أهمية تصميم وتصنيع قوالب جديدة للإضاءة، مقابل إعادة تدوير واستعمال مواد وأدوات موجودة، من خلال إعطائها حياة أخرى عبر استعمالات جديدة. اليوم، وبعد أقل من عشر سنوات على تأسيس پي إس لاب، يتطلع ديمتري الصدّي إلى توسيع أفق العمل والبدء بتصميم المفروشات أيضاً!


رائد ياسين مقلّباً ألبوم العائلة


قبلة، عيد ميلاد، حفلة تنكّر، رحلة في الطبيعة... لقطات اختار الفنان اللبناني أن يعيد تطريزها على لوحات أشبه بالصور الفوتوغرافية القديمة. معرضه الجديد Dancing Smoking Kissing في «غاليري رانينغ هورس» عبارة عن فسحة تجمع بين الواقع والذكريات والخيال
صور العائلة المطرّزة على القماش المزركش تحتل المعرض المنفرد الجديد Dancing Smoking Kissing للفنان اللبناني رائد ياسين (1979) في «غاليري رانينغ هورس». هكذا اختار ياسين أن يعيد تجسيد لحظات من تاريخ العائلة ضمن كل عمل: قبلة، عيد ميلاد، حفلة تنكر، رحلة عائلية في الطبيعة... لقطات اختار الفنان أن يعيد تطريزها على لوحات أشبه بالصور الفوتوغرافية القديمة. يمثّل القماش المزركش بالزهور والأنماط، المساحة الخلفية للوحة. فوق القماش، قام الفنان بتطريز المشاهد. طرح بسيط ومباشر ولا حاجة إلى فلسفته، ولّد أعمالاً فنيةً جميلة. عند دخولك المكعب الأبيض لصالة «رانينغ هورس»، تجد اللوحات موزعة على الجدران الثلاثة حولك، كما كانت توزَّع الصور الفوتوغرافية قديماً داخل ألبومات الصور. تتداخل اللوحات مع بعضها بعضاً في مساحة الجدار بطريقة غير متماثلة، لكن متناسقة. حتى إنّ ياسين أعطى أعماله شكل الصور الفوتوغرافية القديمة، المستطيلة والمربعة ذات الزوايا المدورة. لكل لوحة قماشها، وفوقها التطريز المنفذ بواسطة ماكينات مبرمجة على الكومبيوتر.
يستعيد رائد ياسين تلك الصور الفوتوغرافية من ماضٍ تلاشى. لا وجود لتلك الصور الفوتوغرافية حالياً، فمنها ما ضاع خلال تنقل العائلة من بيت إلى آخر، ومنها ما احترق خلال الحرب، ومنها ما لم يكن في الاصل. في تلك المساحة بين الواقع والذكريات والخيال، يجول رائد ياسين لينتج صوراً في الحاضر عن ماضٍ اختفى أثره. بعض اللحظات يتذكرها، أو يتخيلها، أو يستعين بقصص اقاربه عنها ليعيد تركيبها اليوم في أعماله.
تلك الرحلة من الصور الفوتوغرافية إلى التطريز في أعمال فنية، تعيدنا إلى تجربة فنانين تشكيليين حول العالم في الرسم الـ «ما فوق واقعي» Hyper Realistic. فنانون لجأوا إلى تقديم لوحات زيتية تتميز بالدقة التي تحملها عادة الصورة الفوتوغرافية. حتى إنّ أحد أشهر الفنانين من الذين اعتمدوا ذلك الأسلوب، أي الفنان الألماني غيرهارد ريختير، قام أخيراً بإعادة التصوير فوتوغرافياً للوحات كان سبق أن رسمها عن صور فوتوغرافية، ليعيد مساءلة جميع تلك الوسائط. وإن كان الرسم بالألوان الزيتية يتضمن مشقة أكبر بكثير من التقاط صورة فوتوغرافية، فإنّ التطريز كذلك، لكنّ رائد ياسين اختار أن يطرّز صوره عبر آلات مبرمجة على الكومبيوتر، تطريزاً إلكترونياً يحيلنا على الصورة الرقمية.

تتحوّل الحبكات غير المنتهية في كل عمل إلى ما يشبه Pixels الصورة الرقمية، التي تدعوك إلى الاقتراب منها لتكتشف تفاصيلها، كما اختار رائد ياسين أن يقدم في معرضه لوحتين مكررتين ومتطابقتين. خيار يعيدنا إلى مفهوم الصورة الفوتوغرافية التي يمكن سحب نسخ عديدة من النيغاتيف الواحد العائد إليها، لكنّه في الوقت ذاته ينتقد قدسية العمل الفني، الذي لا يمكن تكراره، وخصوصاً أنّ الأعمال المقدمة في المعرض جرى تطريزها بواسطة برمجة على الكومبيوتر، ويمكن تنفيذ نسخ عديدة منها.
جميع تلك القراءات وغيرها جائزة في معرض «رقص وتدخين وتقبيل»، لكن تبقى قوة العمل الجديد لرائد ياسين، أنه يمكن لزائر المعرض أن يتناسى جميع تلك التفاصيل المفاهيمية، وأن يستمتع فقط بجمالية الأعمال المعروضة... فعل أصبح نادراً في عالم الفن المعاصر.


نشر في جريدة الأخبار 




الأقصى أم فلسطين؟




ما زالت القضية الفلسطينية تنعكس في أعداد هائلة من الصور الإعلامية المتلفزة والإلكترونية والفوتوغرافية التي تقدم إلى الرأي العام العربي والعالمي دليلاً موثقاً عن إجرام الإسرائيليين، وفيها يظهر العنف الجسدي والمعنوي ضد الفلسطينيين، ونجد صوراً تعتمد الرمزية في إشارتها للقضية وأحقيّتها. لكن صورة فلسطين اليوم التي اختار تداولها العرب، صورة مختزلة.

نبحث في محرك غوغل ضمن قائمة الصور عن فلسطين، بعد تخطي صور الأعلام الفلسطينية، وصوراً لإسرائليين يعنفون فلسطينيين، نجدها متجسدة في صورة لمسجد قبة الصخرة، مع بعض النواحي لمدينة القدس في الخلفية التي تبقي المسجد في بؤرة الصورة، كما يظهر في بعضها الجامع القبلي. أما نتائج بحث كلمة ”القدس“ فمختزلة بصور لمسجد قبة الصخرة. إنه الصورة وهو المشهد الفلسطيني الإلكتروني. يعتبر مسجد قبة الصخرة مع الجامع القبلي من أهم معالم المسجد الأقصى، الذي يمثل معلماً مقدساً لدى المسلمين، لكونه أولى القبلتين، وأحد المساجد الثلاثة التي يشدّ المسلمون الرحال إليها مع المسجد الحرام والمسجد النبوي الواقعين في المملكة العربية السعودية. علماً أنه إذا بحثت في محرك غوغل عن ”المملكة العربية السعودية“ فلن تجد صوراً تُذكر للمسجدين الحرام والنبوي، خلافاً لصورة المسجد الأقصى التي تختزل فلسطين والقضية الفلسطينية.

منذ سنوات طرحت فرضيّة أن إسرائيل وراء نشر وتداول هذه الصورة لأنها تريد أن تقنع العالم  بأن مسجد قبة الصخرة هو المسجد الأقصى. فيختلط الموضوع على الرأي العام، ويسهل بذلك على إسرائيل هدم أسوار المسجد الأقصى المتبقية، لإعادة بناء هيكل سليمان. لكن في الواقع كثير من العرب والمسلمين يختلط عليهم الأمر، وذلك لأسباب عدّة، منها أن القبة الذهبية لمسجد قبة الصخرة هي الأكثر بروزاً بين ما تبقى من آثار المسجد الأقصى، لذا يسهل تحديدها، بالإضافة إلى لجوء ”قناة الأقصى“ التلفزيونية وكتائب "الأقصى“ إلى اتخاذ مسجد قبة الصخرة شعاراً لهما. حتى لو كانت إسرائيل فعلاً وراء نشر الصورة، فإن العرب قد أمسكوا بها، تلقفوها، تبنوها وتداولوها.

قد تحاول الصورة بطريقة أو بأخرى تحفيز المسلمين على مناصرة القضية الفلسطينية والدفاع عن أحد أهم المعالم المقدسة في الإسلام. بذلك يتمّ استثمار البعد الديني لأرض فلسطين وكونها أرض مقدسة، لجعل القضية الفلسطينية، قضية مقدسة. علماً أن المسجد الأقصى ليس المعلم المقدس الوحيد على أرض فلسطين، ولا حتى في القدس. بنى المسيحيون  أولى المعالم المقدسة في تلك الأرض التي ولد وعاش وبشر ومات فيها السيد المسيح وأهمّها كنيسة القيامة. لكن لا نجد صوراً تستثمر البعد الديني المسيحي لنصرة القضية الفلسطينية.  وذلك قد يعود إلى تاريخ الكنيسة بقطبيها الأكبرين :الكاثولكية والأرثوذكسية مع القضية الفلسطينية، وإسرائيل، بمنأى عن دور مسيحيي فلسطين والشرق المقاومين الذين كانوا دائماً وما زالوا جزءاً أساسياً من مقاومة إسرائيل.

إن الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان، التي قادت الحروب الصليبية في القرون الوسطى والتي كانت تهدف إلى تحرير الأرض المقدسة من سلطة الدولة الإسلامية، تتخذ اليوم موقفاً مشابهاً لموقف أوروبا من إسرائيل، بحيث تعتبر نفسها مسؤولة جزئياً عن اضطهاد اليهود في أوروبا. من هنا يأتي موقفها من القضية الفلسطينية ممزوجاً بشعور الذنب. ففي العام 1998، تقدم البابا يوحنا بولس الثاني باعتذار رسميّ من اليهود ودولة إسرائيل لعدم قيام الكنيسة بحمايتهم عقب المجازر التي تعرضوا لها في أوروبا كما قام بزيارة إسرائيل وعمل على بناء علاقات ديبلوماسية وطيدة بين دولة إسرائيل ودولة الفاتيكان. أما الكنيسة الأرثوذكسية في القدس، التي تعتبر من البطريركيات الخمس الأولى المؤسسة للكنيسة الأم، فلا يزال يجلس على كرسيها منذ القرن السادس عشر بطريرك يوناني وليس عربياً فلسطينياً، ما يعيدنا إلى السياسة الأوروبية تجاه القضية الفلسطينية وإسرائيل. علماً بأنه في العام 2005، وإثر مجمع مقدس لبطريركية الروم الأرثوذكس في القدس، تم عزل البطريرك إيرينيوس الأول إثر فضيحة بيع أراضٍ لمستثمرين إسرائيليين في القدس القديمة، تعود ملكيتها للكنيسة. إن اشكالية العلاقة  ما بين سلطة الكنيسة والقضية الفلسطينية، قد تكون السبب في غياب استثمار البعد الديني للأرض المقدسة كجزء من القضية. أمّا مسيحيو فلسطين والشرق، فكانوا في معظم الأحيان قادة ومنضوين في صفوف المقاومة الوطنية ولم يلجأوا إلى استثمار الدين في حركة المقاومة.

في المقابل نجد رابطاً وثيقاً ما بين الدين الإسلامي والقضية الفلسطينية. وذلك الربط، القديم الجديد، منذ عصور الفتوحات الإسلامية، مرّ بغلبة النزعة القومية العربية على منطق الدفاع عن أرض فلسطين في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، إلى أن عادت النزعة الدينية  إثر هزيمة الدول العربية في وجه إسرائيل وتبدد حلم الوحدة العربية. فتحول الدافع وراء تحرير فلسطين بشكل كبير من كونها أرض عربية، إلى كونها أرض مقدسة. حتى إن أبرز حركات المقاومة اليسارية والقومية، مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية تراجعت لتحتل الصدارة مكانها، فصائل الأقصى والمقاومة الإسلامية. 

بالطبع إن تلك التحولات من الدافع القومي إلى الدافع الديني، هي نتيجة لعوامل اجتماعية وسياسية واستراتيجية كثيرة ومعقدة لا مجال للدخول فيها الآن. أمّا هيمنة صورة مسجد قبة الصخرة على أي صورة أخرى لفلسطين، فتثير الكثير من الأسئلة حول موقع القضية الفلسطينية اليوم عند العرب، وربطها بالدافع الديني. هل غلبت صفة الأرض المقدسة على ما عداها كمثل صفة الظلم الذي يتعرض له الإنسان الفلسطيني، وحقّه بأرضه؟ ماذا يحصل إذا تمّ التوصل يوماً إلى اتفاق يحيّد أرض المسجد الأقصى عن الصراع؟ أم أن قضية تحرير فلسطين وصلت إلى حائط مسدود فوجب استعمال الورقة الأخيرة، ورقة الدين، والأرض المقدسة، لتبقى واجباً دينياً وحاضرة في وجدان المليار ونصف مسلم في العالم؟ أسئلة في رسم العرب،  مسلمين ومسيحيين ويهود ومواطنين.

نشر في رصيف ٢٢

سعيد بعلبكي... ذاكرة في «حقيبة»



منذ عام 2009، لا ينفك التشكيلي اللبناني يكدّس الحقائب في إحالة على الحرب الأهلية التي شهدت الكثير من حزم الأمتعة. معرضه في «غاليري أجيال» يحافظ على هذه العناصر، فما الذي دفع هذا الفنان إلى تكرار موضوعات الحرب والهوية والديكتاتورية؟
تحت عنوان Belts (أحزمة)، يقدّم التشكيلي اللبناني سعيد بعلبكي (1974) معرضاً فردياً في «غاليري أجيال» يتوزع بين 14 لوحة تحمل عنوان Heap (كومة) ولوحتين تحملان عنوان Belt (حزام). تمتدّ هذه اللوحات من عام 2009 حتى 2013. عند دخول المعرض، سوف يلاحظ المتابع لأعمال بعلبكي أنه أمام لوحات جميلة جداً اعتادها، لكن الحقائب ما زالت تتكدس في «كومة»، وما زالت تلك السترة، بلا رأس، تتوسط لوحات «حزام» مع تغييرات في الألوان والأشكال والأحجام وتفاصيل أخرى. منذ عام 2009، بقيت الحقائب والسترة عناصر حاضرة ومتكررة في أعمال سعيد بعلبكي. وقد يكون المعرض الحالي في «غاليري أجيال» خاتمة لتلك السلسلة، وخصوصاً أنّه ظهر فيها عمل منفرد بعنوان Mon(t) Liban كان بعلبكي قد قدّمه أخيراً ضمن أعمال أخرى (منحوتات وتجهيزات فنية) في معرض حمل عنوان «جولة في تراثنا» أقيم في «مركز بيروت للمعارض». أعمال يبدو أنها تكرّس منحى جديداً في مسار الفنان، إذ تعيد مقاربة رموز لبنانية مثل تمثال الشهداء، وشجرة الأرز، واللباس التقليدي ضمن قوالب تعيد النظر وتسائل المعنى الحقيقي لتلك الرموز بوصفها أشياء حفرت مكانها في الذاكرة الجماعية اللبنانية، محافظاً على منحى مساءلة الظاهرة المتحفيّة التي بدأها في «براق».
يبقى اللافت للنظر في تلك المسيرة، توقف الفنان عند موضوع واحد فترة زمنية طويلة وتناوله في لوحات عديدة قاصداً التكرار والتكرار. يبدو ذلك واضحاً وملموساً جداً في «كومة» و «حزام» المعروضين في «غاليري أجيال». ذلك الخيار الفني نجده أيضاً عند زملاء لسعيد بعلبكي، أمثال أيمن بعلبكي، وحسين بعلبكي، وتغريد درغوث، كل مع موضوعاته وعلى طريقته، لكن أعمال سعيد بعلبكي، وخصوصاً المعروضة هنا، تثير في تكرارها أسئلة كثيرة حول جدوى ذلك التكرار، وتوقيت المعرض في بيروت. وهنا نتوقف فقط عند الموضوع وفعل التكرار والتراكم المقصود في أعمال الفنان، لا في أسلوب الرسم.

عندما بدأ سعيد بعلبكي برسم الحقائب والثياب والأغراض المتكدسة في «كومة» كان ولا يزال ينطلق من تجربة شخصية عاشها مع عائلته خلال طفولته. خلال الحرب الأهلية اللبنانية، تنقّل بعلبكي مع عائلته كثيراً بين القرى اللبنانية. تجربة شهدت الكثير من حزم الأمتعة، وتكديسها وتحولها إلى أكوام سرعان ما ظهرت في لوحاته. في المرحلة الأولى من عرض تلك الأعمال، تمكّن بعلبكي من إثارة أسئلة حول النزوح خلال الحرب الأهلية اللبنانية، والبحث عن الهوية. وبالرغم من كثرة تداول هذه التيمات ومرور أكثر من 20 سنة على انتهاء الحرب، إلا أنّ بعلبكي استطاع أن يقدم عبرها طرحه وتساؤلاته الفنية الخاصة. كذلك في «حزام»، شاهدنا تلك السترة من دون رأس تتوسط لوحات عديدة وتدير لنا ظهرها، تجسيداً للسلطة الديكتاتورية التي يتغير رأسها من دون أن يتغير فعلها. وفي ظل تغيّر السلطات في العالم العربي، ونزوح السوريين من بلدهم إلى شتى بقاع الأرض، يسهل إسقاط الكثير من المعاني على تلك اللوحات إلى درجة الابتذال حتى، لكن ما الذي يدفع بفنان تشكيلي إلى تناول موضوعات مثل الحرب الأهلية والهوية والسلطة الديكتاتورية في أعماله ضمن طرح موحّد تتغير فيه التفاصيل، لمدة تفوق 5 سنوات من العمل المتواصل وتقديم المعارض في عواصم عالمية عديدة؟ ولماذا يعود ليقدم اليوم هذه الأعمال ومجدداً في بيروت ضمن معرض فردي، بدلاً من تقديم أعمال جديدة؟ إذا وضعنا جانباً النظريات النقدية التي ترى في خيارات فنية مماثلة استسلاماً لعملية الطلب في السوق الفنية والمواضيع المطلوبة في السوق الأوروبية (الحرب والهوية والديكتاتورية العربية)، لا نجد في خيار سعيد بعلبكي سوى فعل تحويل لوحاته بحد ذاتها إلى كومة من اللوحات المتكدسة مثل الحقائب في لوحاته. لعل بعلبكي يحاول عبر هذا التكرار والتراكم أن يعالج لوحاته كما يعالج تراكم الحقائب في «كومة»، كما لو أنه يطرح نوعاً من الانطباعية الجديدة التي تحول سلسلة الأعمال إلى عمل واحد، لا يختفي فيه التفصيل، لكنّه لا يكتمل سوى مع اللوحات الأخرى. ويبقى السؤال حول جدوى خيارات المواضيع المطروحة اليوم في عام 2013، على أمل أن يكون ذلك المعرض فعلاً ختاماً لتلك السلسلة، وانطلاقة نحو أعمال جديدة.


زمن البراق
ولد سعيد بعلبكي في لبنان، وانتقل عام 2007 إلى برلين، حيث أكمل دراسته وحاز جوائز وقدم معارض هناك، إلى جانب كل من باريس ونيويورك ولندن ودبي، فيما يقيم حالياً بين بيروت وبرلين. في 2007، أطلق مشروع «براق» الذي هو عبارة عن تجهيز فني قدمه على مراحل. في هذا العمل، ساءل بعلبكي كتابة التاريخ والعلم المتحفي والانتروبولوجيا من خلال تقديم أعمال صنعها بذاته ونسبها إلى تاريخ يعود إلى بداية الألفية الأولى، زمن البراق.

بمترو المدينة تعا فرفش وسلّينا



اشتهرت الكباريهات في مصر خلال القرن الماضي. هي فضاءات شهدت ولادة فنانين كثر أصبحوا نجوم الفن المصري، كما كانت عنواناً أساسياً للفرح والمرح والفن الشعبي الجميل. سلطانة الطرب منيرة المهدية كانت تغني في إحدى تلك الكباريهات، إلى أن أسست ملهاها الخاص "نزهة النفوس" في أوائل القرن الماضي. من أشهر الكباريهات التي عرفتها القاهرة "كباريه بديعه مصابني". مصابني ممثلة ومغنية وراقصة من أصل لبناني - سوري، هاجرت إلى مصر مع والدتها حيث افتتحت الكباريه في عام ١٩٢٩. احتل "كباريه بديعة مصابني" سريعاً مركزاً مهماً في القاهرة، وأصبح مقصداً لأهم الشخصيات، ولم يكن الملك فاروق وأسرته سوى أحد الزوار الدائمين. كان يقدم أهم العروض الاستعراضية من غناء ورقص، ليتخرج منه كل من تحية كاريويكا وسامية جمال وفريد الأطرش ومحمد عبد المطلب ومحمد فوزي ومحمود شكوكو وغيرهم الكثير. ثم استلمت إدارة الكباريه الممثلة والراقصة ببا عز الدين وحولت إسمه إلى "كباريه شهرزاد"، ومن بعدها استلمته فتحية محمود، ثم زوجها. تواصل العمل فيه حتى الثمانينيات، ليشهد ولادة جيل جديد مثل سهير زكي وفيفي عبده وأحمد عدوية. بالمقابل، ظهرت العديد من الكباريهات، وانتشر الجديد منها في شارع الهرم، ولكنها اليوم ولأسباب عديدة لم تعد تحتل المكانة ذاتها.



أما في بيروت، في شارع الحمرا، وتحديداً تحت الأرض بطابقين، فقد ظهر منذ حوالي سنة كباريه جديد يدعى "مترو المدينة". ليس لمدينة بيروت قطار يتنقل ما بين محطة جغرافية وأخرى، لكن هناك مترو ينقل جمهوره من محطة فنية إلى أخرى. إنه فضاء يستقبل زواره بحانة اتخذت من هندسة مقصورة القطار شكلاً لها، وفي نهايتها، نرى باباً يؤدي إلى مسرح صغير يتسع لحوالي مئة كرسي مع طاولاتهم، موزعة على مدرج من ثلاثة مستويات. اللون الأحمر المخملي يضيء أجواء المسرح، وتتمايل الستارة ما بين الأخضر والذهبي. 


اليوم وبعد مرور حوالي سنة على افتتاح مترو المدينة، أصبح فضاء يعجّ ليلياً بجمهور متنوع، وبرمَجَة غنية جداً. ترتكز برمجة المترو على عروض الكباريه التي اتخذت أسماء عديدة مثل "عالم التفنيص" و"العميل الملتهب والراقصة المزدوجة". تعتمد تلك العروض على تقديم لوحات فنية، من غناء وعزف ورقص حتى السحر، يؤديها فنانون شباب، هواة ومحترفون. يربط اللوحات عريف الحفل روبرتو القبرصلي، وهي شخصية اختلقها ويؤديها بنفسه المدير الفني لمترو المدينة هشام جابر، الممثل والمخرج اللبناني. هي شخصية تستقبل الجمهور وتربط اللوحات الفنية عبر مشاهد من الستاند أب كوميدي، مرددة دائماً أبداً مذهب الكباريه: "بمترو المدينة تَعا فرفرش وسَلّينا، تعا فرفش تعا طقّش كاسات وملينا". ذلك النوع من العروض الذي يجمع الذوق الرفيع، والموسيقى الشعبية الجيدة، والاحتراف الفني بالفرح والمرح، كان هدف الفريق المشرف على مترو المدينة. تقديم عروض يقصدها الجمهور من مختلف الطبقات الاجتماعية للاستمتاع بوقته وتذوق فن جميل والتعرف على مواهب جديدة. 




في أحد العروض الذي ما زال مستمراً على خشبة مترو المدينة، "هشّك بشّك شو"، تم اختيار حوالي 20 أغنية تعود إلى الفترة ما بين عشرينيات وسبعينيات القرن الماضي. أغنيات من التراث الشعبي المصري المتنوع لزكريا أحمد وعزيزة المصرية وسيد درويش وليلى نظمي و شاديا وسعاد حسني. فرقة موسيقية تعزف الموسيقى الحية على المسرح، مع مغنين، وراقصة، و"الواد بتاع الفرقة". يقدم "هشك بشك شو" تحية إلى زمن الكباريه المصري، والفن الشعبي ضمن سياقات وديكورات متنوعة من الكباريه إلى الصعيد، مع ثيابها وأكسواراتها وفيديوات في الخلفية. إلى جانب تلك العروض، لا تتوقف السهرات الفنية في المترو، إذ يستقبل وينظم دائماً حفلات للفنانين الشباب العرب والأجانب ومن جميع الأنواع الموسيقية، لاسيما البديلة منها. كما يقدم "شرقي حاف" عروضاً تعيد التوكيد على جمالية الرقص الشرقي والاستمتاع به مع راقصين محترفين وهواة، نساء ورجال. كما لجمهور المترو موعد ثابت مع عرض الأفلام، وكذلك لعشاق الفوتبول مباراة تعرض على شاشة كبيرة، بالإضافة إلى سهرات قراءات نصوص روائية وشعرية. و"مترو بازار" يفتح أبوابه من فترة إلى أخرى للجميع لشراء وبيع الأغراض المستعملة. دون أن ننسى العروض المسرحية والنشاطات والمهرجانات الفنية المختلفة التي تتوزع على فضاءات بيروت. سهرات وفعاليات فنية وثقافية وترفيهية لا حدود لها في مترو المدينة أصبحت جزءاً أساسياً من الروزنامة الثقافية لمدينة بيروت، استطاع عبرها المترو في فترة وجيزة أن يثبت له مكانة خاصة. كذلك سدّ ثغرة غياب هكذا فضاءات تؤمن فناً محترفاً من الشعبي إلى البديل ضمن سياق وإطار ترفيهي. 



قد لا يستطيع مترو المدينة بسهولة إيصال مواهب جديدة إلى الشهرة التي نالها الفنانون في كباريه بديعة مصابني، وذلك لأن حيتان الإنتاج الفني تسيطر على السوق الفنية في العالم العربي اليوم، ولكنه بالتأكيد يلعب دوراً مهماً جداً في تأمين مساحة تواصل خلاقة وممتعة، ما بين الجمهور والمواهب الجديدة أو الفنانين المستقلين.    


تماثيل الحكّام كما هدمها الفنانون





رفْعُ التماثيل في الساحات العامة، إحدى الظواهر التي رافقت الأنظمة الديكتاتورية. كلما جلس ديكتاتور على كرسي الحكم، عمد إلى زرع تماثيل تجسده في جميع أنحاء بلاده، علامة على تأكيد سلطته على الأرض، وتذكيراً للشعب الذي يحكمه بأنه السلطة العليا. كان من الطبيعي إذاً على الشعوب العربية التي خلعت حكامها أن تخلع تماثيلهم، وتحرر ساحاتها العامة من ذكراهم. بسبب استحالة وصول الشعوب المقموعة إلى تهشيم الديكتاتور بذاته، لجأت إلى تهشيم وتحقير تماثيله. أفعال تكررت كثيراً منذ إسقاط تمثال صدام حسين في العراق، متخذة أشكالاً مختلفة في كل من تونس ومصر والبحرين واليمن وسوريا، أمّا في ليبيا فقصة أخرى. مشاهد التقطتها عدسات الكاميرات العالمية، وتدوالتها وسائل  الإعلام، كما الشعوب العربية على مواقع التواصل الاجتماعي، علامة انتصار.


تلك الظاهرة لم تكن بعيدة عن انشغال الفنانين المعاصرين العرب في ترجمة تفاعلهم مع ما يجري من حولهم.  الفنان اللبناني علي شرّي، قدّم خلال السنوات الأخيرة أعمالاً عديدة تناول فيها موضوع التماثيل في سوريا. انطلق شرّي في أعماله من قرار الرئيس السوري الحالي بشار الأسد إزالة تماثيل أبيه الرئيس حافظ الأسد من المناطق التي قد تقع تحت سلطة الثوار، خوفاً من تحقيرها. فقدم تجهيزاً فنياً تحت عنوان "أنبوب الأحلام". على الحائط في الخلفية يعرض فيديو لعملية إنزال أحد التماثيل الضخمة للأسد الأب. يظهر في الفيديو عمال يقومون بواسطة رافعة كبيرة بإنزال التمثال، برفق شديد، وحمله على ظهر شاحنة كبيرة، ثم تغطيته بالقماش قبل نقله بعيداً. أمام الحائط، وضع شرّي تلفيزيوناً صغيراً يلقي بظله على الفيديو الخلفي. على شاشة التلفاز، يعرض المقابلة التي أجراها الرئيس الراحل الأسد مع رائد الفضاء السوري "محمد أحمد فارس". حوار يظهر عظمة الرئيس، وافتتان رائد الفضاء به، ووصف الأخير للأرض سوريا مثلما يراها من الفضاء، (رغم استحالة ذلك). رائد الفضاء السوري ظهر في عمل آخر لشري، "أبطال النهوض والسقوط". تمثال من الكروم بارتفاع 55 سم لرائد فضاء بلا رأس. إسوة بالتماثيل التي نصبها الرؤساء لذاتهم، قرر شرّي صنع تمثال من الكروم لرائد فضاء، ولكن هذه المرّة بلا رأس. خيار يمكن ترجمته على ضوء إعلان محمد أحمد فارس انشقاقه عن النظام مؤخراً، كتمثال يجسد فارس بذاته، ولكن أيضاً يتسع لأن يُرفع فوق أكتافه رؤوس كل من ثار على النظام. بالإضافة إلى تقديم لوحة لصورة رقمية تحت عنوان "غبار وهموم أخرى" حيث  تظهر أرض صحرواية رملية نقية في مقدمة الصورة، إلى أن يبدأ الغبار يلفّ تمثالاً للرئيس الراحل حافظ الأسد. صورة أشبه بتلك الصور التي تلتقط للصواريخ قبل اطلاقها. تلك العلاقة ما بين تماثيل الرئيس حافظ الأسد والفضاء في أعمال شرّي، تعيد قراءة عملية رفع وإنزال التماثيل، في مقارنة مع الحلم السوري في غزو الفضاء الذي كان بدأ يتفاعل ضمن الشراكة السورية السوفيتية، والذي اندثر فيما بعد. حلم اندثر، وتماثيل لا تنتظر أحداث التاريخ لتسقطتها، بل يتم إنزالها بهدوء استباقاً للتاريخ، وضجته.  


اختار الفنان اللبناني "فارتان أفاكيان"، من جهته، أن يصنع تماثيل لقادة لم يحالفهم الحظ في صنع تماثيلهم الخاصة. "تأريخ الموجز" ، عمل فني قدمه أفاكيان مؤخراً في معرض دبي الدولي 2013، كحائز على جائزة أبراج الفنية. سبع كرات بلورية بقطر 13 سم. كل منها يحتوي على تمثال بطول 5 سم مصنوع من الذهب، بثقل أونصة ذهب لكل تمثال. التماثيل هنا فليست للحكام الديكتاتوريين، بل لقادة في العالم العربي حاولوا مرّة الانقلاب على الحكام وفشلوا. شخصيات نسيها التاريخ، أو تناساها، ومُنع الحديث عنها. هكذا خصص أفاكيان سبعة تماثيل لسبع شخصيات، لو نجحوا في انقلاباتهم لكانوا نصبوا تماثيلهم. ورغم أنه اختار أن يحفر تماثيلهم بأغلى المعادن، الذهب، لكنه حكم عليهم بعدم الانتصاب عبر وضعهم ضمن بلورات زجاجية. بلورات تتشقلب دائماً، وتشقلب معها التماثيل رأساً على عقب في دوران لا متناه.


حظيت التماثيل والنصب المقامة في الساحات العامة على اهتمام الفنانة المصريةإيمان عيسى، حتى قبل الثورة في مصر وخلع الرئيس حسني مبارك. خلال عامي 2010 و2011 عملت عيسى على مشروع فني تحت عنوان "المواد من أجل"، حيث قدمت اقتراحات لنصب تذكارية جديدة تحتل مكان تلك المتواجدة في الساحات العامة، دون الإشارة المباشرة إليها. فعيسى تعتقد أن النصب الحالية فشلت في تمثيل أشخاصها أو موضوعاتها، لذا وجب البحث عن أشكال أخرى لها. مجموعة من 9 اقتراحات، تقدم أعمالاً تجريدية لنصب تذكارية، ترافقها نصوص مشكلة العنوان، وجزءً من النصب في الوقت نفسه. في عام 2007، قدمت عيسى كذلك عملاً بعنوان "مقترح لنصب تذكاري لحرب العراق" عبارة عن فيديو بمدة 5 دقائق، يبرز حالة اللامبالاة التي اكتسحت المشاهد أمام دفق الصور العنيفة. فيديو مبني على مشاهد من الحرب على العراق، ومن أفلام سينمائية تظهر بغداد، يضاف إليه صوت معلّق على المشاهد، غير مبالٍ بفظاعة ما يصف.


تلك ليست سوى أمثلة قليلة عن موضوع لطالما شغل فناني الفن المعاصر. إن كانت جميع النصب والتماثيل التي رفعها الحكام يوماً في الساحات العامة، من صنع فنانين، فإنه من الطبيعي أن يكون الفنانون المعاصرون أول من يسائل تلك النصب، ويحاول هدم المفاهيم التي تختزنها. أعمال فنية، رغم أنها محصورة في صالات العرض، ولجمهور نخبوي، لكنها تقدم طرحاً فكرياً وتحليلياً عن مسافة نقدية في المكان والزمان. طرح ضروري يضاف إلى الفعل العفوي الذي دفع بالشعوب إلى تهديم تماثيل ونصب الحكام المخلوعين.