علي شحرور: رقصة البحث عن «فاطمة»


رانيا الرافعي ممددة وأمامة حميدو في مشهد من العرض (حائرة سليم)
على خشبة «مسرح المدينة»، تأخذنا رانيا الرافعي وأمامة حميدو إلى عرض طربيّ قاسٍ، موشّح بالسواد والحزن. الكوريغراف الشاب يعرّف عمله بأنّه ينطلق من الحميمي والخاص ليطرح تساؤلات عن علاقة الجسد بالدين والمجتمع والموروث الثقافي.
الليلة، ترقص فاطمتان وتندبان وتفرحان بجسديهما على خشبة «مسرح المدينة». «فاطمة» عرض طربيّ قاسٍ، موشّح بالسواد، سيسكرنا بالحزن من توقيع الكوريغراف علي شحرور (1989). تكمن أهمية العرض في أنّه يقترح بحثاً في لغة رقص بعيدة عن مفردات الرقص المعاصر ومدارسه الأوروبية والأميركية. عرض يبحث عن لغة وحركة جسد نابعتين من مجتمعنا وثقافتنا.
لذلك، اختار علي شحرور هذه المرة العمل مع راقصتين غير محترفتين بحثاً عن حركة عفوية نابعة من التجربة الخاصة لجسدي الراقصتين. تخصّصت رانيا الرافعي في السينما. أما أمامة حميدو، فتخرجت من كلية المسرح في الجامعة اللبنانية. هكذا، يستعير العرض لغته من الحياة اليومية بحثاً عن الجماليات الكامنة فيها. «فاطمة» يتكلم عن النساء، وأجسادهن، وحركتهن. كان طبيعياً أن يتوجه البحث إلى حالات يتجلى فيه جسد المرأة المشرقية بعيداً عن القيود الاجتماعية والدينية. حرية جسد المرأة نجدها عادةً في سياقات مثل الفرح، وخصوصاً في الرقص البلدي وما يتضمنه من إيحاءات جنسية متفلتة ومكبوتة في آونة واحدة. كذلك نجده في العزاء، حيث لا رقيب بطريركياً على امرأة تتفجع نواحاً ولطماً ولو وصل بها الأمر إلى الكشف عن رأسها وتمزيق ثيابها. في الحالتين، نشهد تحرر جسد المرأة ضمن الحيز العام، وعلى مرأى من العين البطريركية التي تحرم ذلك التحرر في أغلب السياقات العلنية الأخرى. أهمية فعل شحرور أنه لم يبحث عن حركة جسد غريبة عن ثقافتنا، بل نقل المفردات الحركية التي ينتجها تحرّر جسد المرأة المشرقية في سياقات محددة إلى الخشبة، ثم عمل مع الراقصتين على تكرار تلك الحركات بحثاً عن الجماليات الكامنة فيها وتظهيرها ثم تطويرها.
عبر نزع تلك اللغة الجسدية من سياقات اجتماعية علنية، ونقلها إلى سياق علني آخر يدعى خشبة المسرح، ألغى شحرور السياق الاجتماعي وما يلحق به من مبررات وتحفظات، ووضع الجمهور في مواجهة مباشرة مع لغة حركية صافية. أصبح المشاهد في مواجهة مباشرة مع حركة مثل اللطم، قد يكون اعتاد علاقة تربطه بها كمتفرج أو مساهم في سياقات معينة، لكن وضع الحركة الآن تحت الضوء وخلف الجدار الرابع يعيد التركيز على خصائص أخرى في الحركة كجماليتها ونوعيتها وأثرها على جسد الراقص وجسد المتفرج. 
في «فاطمة»، تنطلق الراقصتان بحركة اللطم الاعتيادية وتصعدان سرعة الحركة والتكرار، ثم تستعيران من الدراويش حركة الدوران حول الذات، وتتبرجان وترقصان الرقص البلدي، وتنتحبان، وتندبان وتلطمان وتفرحان. لا يلغي العرض الإحساس المرافق لكل حركة، محوّلاً إياها إلى حركة ميكانيكية، بل على العكس تنقل الراقصتان الإحساس المرافق لكل سياق بحد ذاته، فتَنتج مشاهد بليغة بإحساسها وتأثيرها على الجمهور أكانت حزينة وقاسية أم مفرحة. تكرار الحركة وتصعيدها يوصلان الراقص والمتفرج إلى النشوة. وكما نغرق في جمالية التفاصيل في الأغنية الطربية الشرقية، كذلك في «فاطمة»، حيث نغرق في أصغر التفاصيل الحركية لتكتسب الحركة جمالية خاصة تصل إلى النشوة.
تلك العلاقة بالحالة الطربية، تتجسّد في خيارات الكوريغرافيا عبر مشاهد منفصلة، كما في تركيبة الأغنية الطربية، تقدم الراقصتان الحركة الأساسية في كل مشهد، ثم تعمدان إلى التكرار والتطريب على الحركة، كمن ينتشي في تنويع «العِرب» الحركية. وإذا كانت لحظات الصمت من العناصر الأساسية في الأغنية الطربية لبناء التصعيد، ففي «فاطمة» مساحة أساسية للصمت المتجسد في لحظات أيقونية صامتة تقدمها الراقصتان أحياناً. تلك الصورة الأيقونية في سكونها تتساوى مع الحركة المتكررة. في الحالتين، تشعر بأن الوقت توقف أو امتد إلى ما لا نهاية. من هنا، كان طبيعياً أن يقع الخيار الموسيقي على أغنيات لأم كلثوم.
في روايته «سينالكول»، يقول إلياس خوري كمن يكتب دراماتورجيا عرض «فاطمة»: «لم يرَ كريم والده يبكي إلّا في لحظات الطرب حين يصير صوت المغنية المصرية (أم كلثوم) رحماً كبيرة تتّسع لجميع الرغبات والأحزان». بكاء، رحم، رغبات، وأحزان، تلك هي عناصر عرض «فاطمة». وفي أي أغنية يمكن أن نجدها مجتمعة غير عند «كوكب الشرق»؟ هنا أيضاً يأتي الخيار الموسيقي (توليف ساري موسى) جزءاً لا يتجزأ من البحث في تفاعل الجسد المشرقي مع إنتاجاته الموسيقية. خلال العرض، تلطم الراقصتان على أغنية «أنا وإنت ظلمنا الحبّ» وترقصان البلدي على «ألف ليلة وليلة» وتدوران على «الأطلال»، فيما تشارك أمامة غناءً في بعض المشاهد. وكي تتخذ الحركة مداها وثقلها في انفلاتها أو انحصارها، وتبقى نقطة الارتكاز الوحيدة تحت الضوء (علاء ميناوي)، اختار شحرور ترك خشبة المسرح فارغة إلا من عنصر سينوغرافي (نتالي حرب) في الخلفية.
يقول شحرور عن «فاطمة»: «إنه عرض راقص ينطلق من الحميمي والخاص ليطرح تساؤلات عن علاقة الجسد بالدين والمجتمع والموروث الثقافي»، إضافةً إلى تلك التساؤلات الأساسية والضرورية، نجح شحرور مع رانيا الرافعي وأمامة حميدو في تقديم اقتراحات للغة رقص نابعة من ثقافتنا. وبرغم أنها ما زالت في أولى مراحلها وتحتاج إلى تراكم وتشارك مع تجارب فنانين آخرين تسهم في تطوير مفرداتها وصقلها كي تصب في خلق لغة رقص معاصر شرقية، إلاّ أنها بداية مهمة في هذه المرحلة من تطور عمل الكوريغراف اللبناني الشاب.
--------
نجح علي شحرور في رهانه بالعمل مع راقصتين غير محترفتين. قدمت رانيا رافعي وأمامة حميدو في ”فاطمة“ أداءً ممتازاً في التقنية والإحساس والحضور. ما من لحظة في العرض نشهد فيها أجساداً غريبة عن الفعل والحركة المقدمة على الخشبة، بل نجدنا نتفاعل مع حركة رانيا وأمامة العضوية والنابعة من إنسجامهن مع أجسادهن ونتأثر بإحساسهن الصادق طوال العرض. 
--------
«فاطمة»: 20:30 مساء اليوم وغداً، و1و2 شباط (فبراير) ــ «مسرح المدينة» (الحمرا ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/341470


الجسد الأنثوي ينضح بهويته (الحضارية)

رانيا الرافعي ممددة وأمامة حميدو في مشهد من العرض (حائرة سليم)
زرنا فريق عمل «فاطمة» في «هُنا سنتر» (الحمرا) قبل انتقاله لإجراء الاستعدادات الأخيرة على المسرح. هناك، شاهدنا العرض من دون العناصر السينوغرافية من إضاءة وديكور وفيديو، بل مع الراقصتين فقط بأزياء العرض (ريّا مرقص) والموسيقى المرافقة. علماً أنّ ظروف مماثلة تفضح غالباً عيوب العمل، إذ تظهره عارياً من أي مؤثرات خارجية، وتلقي الثقل على الراقصتين.كان واضحاً أننا أمام تجربة مهمة.
يخبرنا علي شحرور عن بدايات المشروع، التي انطلقت مع فكرة تصميم عرض راقص على أغنيات لأم كلثوم. المخزون الكبير من المشاعر الكامن في الحالة التي تمثلها المطربة وأداؤها وأغنياتها كلاماً ولحناً، دفع الكوريغراف إلى اختيار أغنيات «كوكب الشرق» نقطة انطلاق للعرض. خيار العمل مع راقصتين غير محترفتين، رانيا الرافعي وأمامة حميدو، نتج عن رغبة شحرور في البحث عن حركة الجسد العفوية ضمن موروثنا الثقافي والشعبي. تؤكد رانيا وأمامة أن خلفيتهما الدينية والثقافية أدت دوراً أساسياً في مساهمتهما في العرض. الارتجالات خلال التمارين كانت مبنية على تجربتهما الجسدية الشخصية النابعة من ثقافة ومجتمع إسلامي ولدتا وكبرتا فيه، وخصوصاً أنّ العرض لا يطرح أسئلة مجردة عن ثقافة حركة الجسد في الحيز العام، بل عن حركة جسد المرأة في المجتمعات الإسلامية المشرقية. العنصر الديني ليس جديداً على عروض علي شحرور. في عرضيه السابقين مع الراقصة إيميلي توماس «على الشفاه، ثلج» (٢٠١١) و«دنس، موت صغير، حركة أولى» (٢٠١٢)، كانت العلاقة بين الجسد والحركة والدين وحتى أم كلثوم، محور اهتمام الفنان.لكن في «فاطمة»، نشهد انتقال الكوريغراف إلى مرحلة أكثر نضجاً. قراره بالعمل مع راقصتين غير محترفين، والبحث خارج لغة الرقص المعاصر الأوروبية والأميركية، دفعا به إلى استكشاف مساحات أكثر عضوية وتواصلاً مع الثقافة التي ينبع منها فريق العرض والجمهور. حتى الحركة القاسية التي قد تصل إلى «العنف» النفسي والجسدي وكانت مبالغة أو مسقطة أحياناً في العروض السابقة، وجدت في «فاطمة» مكانها وتفاعلها مع ثقافة ندركها جيداً. يقول شحرور إنّ البحث خلال تركيب العرض استند إلى مراجع في الميثولوجيا الإغريقية كميديا وأنتيغونا، لكن البحث الحقيقي تمحور حول فاطمات تمتد من خسارة فاطمة الزهراء لوالدها الرسول إلى فاطمات أخرى عبر التاريخ.

مع «فاطمة»، ينضم شحرور إلى البحث عن الحركة في الرقص المعاصر الذي يجريه ألكساندر بوليكيفيتش في حركة الرقص البلدي، وخلود ياسين في العلاقة الصافية بين الجسد والإيقاع، ودانيا حمود في بحثها عن الحركة في اللاحركة. تجارب مهما تعثرت أحياناً، إلاّ أنها تبحث في جوهرها عن الحركة لا عن تصميم عرض مبهر، مما يضمن تطور لغات الرقص المعاصر العربي.



نجح المنتج ”عمر راجح“ وأخفق الكوريغراف


تجدون هنا النسخة الكاملة من مقالتي (عذراً، غير المنقحة) التي نشرت في جريدة الأخبار تحت عنوان : "أجساد عمر راجح على سطح مائل". (تم إختصار المقالة في جريدة الأخبار لأسباب تقنية تتعلق بالمساحة القصوى التي تستوعبها الصفحة الورقية للجريدة)     

قدم عمر راجح عرضه الجديد ”وتدور“ على خشبة مسرح المدينة. ميا حبيس وبسام أبو دياب يرقصان على موسيقى شريف صحناوي الحية فوق منصة مستديرة (ناصر السومي)، لا تدور ولكنها تتحول من الوضعية الأفقية إلى العامودية، فيما تعرض على المنصة رسومات مازن كرباج الحيّة أيضاً.
كان من الممكن التغاضي بعض الشيئ، والتركيز ضمن هذه المقالة على الجوانب الإيجابية للعرض، متخذين بعين الإعتبار الظروف الصعبة للإنتاج الفني في لبنان، وتجارب الرقص المعاصر العربي الفتيّ. ومن شاهد العرض يعلم أن لا مشاكل إنتاجية كبيرة وقفت في وجه تصميم السينوغرافيا الضخمة أو التنفيذ التقني. ثم أننا أمام العرض الثالث عشر للكوريغراف والراقص عمر راجح، والمقدم ضمن النسخة العاشرة من ”مهرجان بيروت للرقص المعاصر“. وإحتراماً للدور الرئيسي والمهم الذي لعبه عمر راجح في تأسيس وتطوير الرقص المعاصر في لبنان، وإحتراماً للجمهور اللبناني، وجب تقديم قرائة نقدية، حتى ولو كانت قاسية بعض الشيئ، ولكن قد تكون ضرورية، خاصة بعد ما قرأناه في الصحف اللبنانية حتى اليوم. صوت مختلف مع الأصوات الباقية يحاول طرح الأسئلة، أليست تلك مهمة النقّاد في تلك العلاقة التي تربطهم بالفنانين؟
قبل الولوج إلى العرض مباشرة، لا بد من التوقف عند نقطة أثارت إستغرابنا. في النص المقدم للعرض يلجأ عمر راجح إلى توصيف عرضه الخاص بعبارات مثل ”فريد في مفهومه“ و“مبتكر“ و“جريء“. فمن المؤكد أن هكذا توصيفات لا يستعين بها الفنان (الراقص والكوريغراف)، بل المنتج المروج لعرض فنّي بعبارات طنانة تهدف إلى بيع المنتج على أنه فريد من نوعه ومبتكر وجريء. وإن كان المقصود بذلك السينوغرافيا أو المنصة المتحركة، والعمل مع تخصصات فنية مختلفة، وموسيقى ورسم حيّ على المسرح، وإذا ما تناسينا التجارب العالمية وبعضها المحلّي، فإن الفنان وراء العمل بحد ذاته يعلم أنها ليست المرة الأولى التي يفعلها. فمنذ العرض الأول ”بيروت صفرا“ (٢٠٠٢) جمع عمر راجح موسيقيين مع راقصين وممثلين على المسرح. حتى أن الموسيقيين كانوا يومها على الخشبة فوق منصة متحركة، ويؤدون الموسيقى الحيّة خلال العرض. الموسيقى الحيّة والتجريبية شهدناها أيضاً في عرض ”كونشيرتو ١٣“ (٢٠٠٦) مع رامي وبشار خليفة. أما السينوغرافيا المبتكرة فشهدناها في تعاون راجح مع فادي يانيتورك في الحوض المليئ بالماء في ”إستمناء فكري“ (٢٠٠٤)، والمنصات المتحركة في عدد كبير من عروضه منذ ”بيروت صفرا“ مروراً ب ”حرب على البلكون“ (٢٠٠٣) حتى ”كونشيرتو ١٣“ و“إغتيال عمر راجح“ (٢٠١٠) وغيرها، حيث كان أيضاً دائماً نصيباً كبيراً للفيديو وتفاعل الراقصين مع الصورة، مرسومة كانت أم مولّفة. فهل غلبت شخصية المنتج على الفنان في صياغة النص المقدِم لعرض ”وتدور“؟ 
صراحة، لما كنا قد توقفنا عند ذلك التفصيل اللغوي التوصيفي، لو لم نشعر أن تلك العلاقة الشائكة ما بين المنتج والكوريغراف قد إمتد أثرها على العرض. وهنا لا نقصد المنتج المالي للعرض، بل المنتج الفنيّ. فلنحاول قرائة عرض ”وتدور“ من بابين : الإنتاج الفني، والكوريغرافيا، بهدف الوصل إلى مكامن الضعف في العرض. 
من زاوية الإنتاج الفني، نجد قرار خلق عرض حول فكرة المستحيل. يقول عمر راجح في نصه ”أداء يلعب حول فكرة "المستحيل"، الأوضاع الغير المعقوله، اللتي لا تصدق، واللتي نصادف في حياتنا اليومية. كل شيء يتحرك، يتغير، ويتحول من حولنا“. فكرة العرض آنية، تحاكي الحاضر في تحولاته الكبيرة التي نشهدها في لبنان ومن حولنا منذ إندلاع الثورات في العالم العربي، كما تطال مقاومة العيش في ظل ظروف مستحيلة من الحروب والإنفجارات. عرض يحاكينا، ويحاكي واقعنا بإمتياز. من هنا أيضاً نجد التعاون الذكيّ مع الفنان الفلسطيني ناصر السومي الذي إقترح منصة مستديرة تتحرك من الوضعية الأفقية إلى العامودية، من السطح إلى الهاوية، من الطبيعي إلى المستحيل. سينوغرافيا ليست فقط مبهرة في حجمها وحركتها، وإنما والأهم موظفة في خدمة فكرة العرض، وعبر تأمين الإسقاطات الفكرية والمفاهيمية على قصة العرض الدرامية. أما التعاون مع ناصر السومي بحد ذاته فقيمة مضافة إلى العرض. فالسومي يعتبر من أوائل وأهم الفنانين العرب الذين عملوا في النحت والتجهيز الفني، ولطالما كانت علاقة الفرد بالفضاء المحيط به أحد هواجسه الأساسية. ثم أتى التعاون مع شريف صحناوي ومازن كرباج. إن المتابع لمهرجان ”إرتجال“ أو ”بيروت، صوت وصورة“ وأعمال وعروض الفنانين، لا بد أن ألِف مقاربة الفنانين المميزة للصوت والصورة. وهنا نتكلم عن جمهور خاص ومحدود جداً نسبة للجمهور الذي تستقطبه عروض عمر راجح الراقصة. ومن هنا تأتي أهمية ذلك التعاون الثاني ما بين راجح وصحناوي وكرباج. فمن جهة يؤمّن التعاون تقديم مادتي الصوت والصورة بشكل حيّ بدلاً من أن تكون موسيقى مسجلة أو مشاهد مولفّة. ثانياً يستفيد العرض من عنصر الإبهار الذي يؤمنه مقدرة شريف صحناوي، بشكل حيّ على المسرح تحت الضوء، على إصدار أصوات وتأليف جمل موسيقية لا متناهية من جراء اللعب على الغيتار عبر الطريقة التقليدية أو جميع الطرق الأخرى التي يجدها مناسبة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن شريف صحناوي قدم عرضاً موسيقيّاً قيماً جداً، إمتد على مدة ساعة من الوقت، تميّز في تطور تقنياته وتأليفه الموسيقي الذي إعتمد بشكل أساسي على جمل موسيقية ثابتة تخللها بعض من الإرتجال، وأتت متناغمة مع عناصر العرض الأخرى. أما مازن كرباج فلجأ إلى رسم أشكال مجردّة بواسطة الحبر الصيني، التي كانت تنقل حيّة لتعرض على المنصة المستديرة. بالرغم من أننا عرفنا أعمالاً أخرى لكرباج أهم وأبلغ وأجمل، ولكن بعضاً من الغموض والتجريد لا يضرّ بتركيبة عرض تحاكي ”المستحيل“! تلك العناصر بالإضافة إلى التعاون مع مصمم الإضاءة البريطاني ”جوناثين سامويلز“، كانت جميعها موفقة وناجحة. من هنا نؤكد أهميّة الخيارات الإنتاجية الفنية وراء العرض، الذي إستطاع أن يجد موضوعاً مناسباً، توليف تركيبة مميزة من الفنانين وتوظيف طاقاتهم في خدمة الفكرة الأساسية. المادة الإنتاجية كانت جاهزة لتقديم عرضاً مميزاً لولا إخفاق عنصر الكوريغرافيا.     

تثير كوريغرافيا ”وتدور“ الكثير من الأسئلة. إختار عمر راجح أن يقدم العرض مع راقصين محترفيين: ميا حبيس، وبسام أبو دياب. الراقصان فوق المنصة المستديرة، يرقصان أحياناً معلقين في الهواء بواسطة ونش كهربائي، أو مباشرة فوق المنصة المتحولة من الوضعية الأفقية إلى العامودية. تتمحور الكوريغرافيا حول تفاعل الراقصين فيما بينهما ومع المنصة المتحولة بشكل أساسي، بالإضافة إلى الموسيقى والرسومات. 
لكن للأسف وبدلاً من أن نشهد تصميم كوريغرافي يحاكي سياق العرض، وعناصره الخاصة به وموعوقاته، وجدنا أنفسنا أمام إعادة تدوير لكوريغرافيات سابقة، وجمل حركية وراقصة سبق وشاهدناها مراراً في عروض عمر راجح السابقة. تغير كل شيئ من حول الراقصين بشكل جذريّ، ما عدا الكوريغرافيا. ها هو بسام أبو دياب ضمن صولوهاته خلال طوال العرض يعيد تشكيل والتنويع على الصولو الذي قدمه في ”ذلك الجزء من الجنة“ (٢٠١٣): لا يقوى على الوقوف، جسده يرتجف ويتخبط على الأرض ويلوّن جمله الراقصة ببعض حركات الدبّكة. قد تبدو حالة صولوهات ميا حبيس أكثر إبتكاراً، لكنها لم تتوصل إلى خلق لغة جديدة، ويبقى الفارق أن حبيس تتمتع بتقنية ونوعية حركة أدق وأجمل من زميلها.
لطالما لجأ عمر راجح في كوريغرافيا الصولوهات إلى خلق معيقات داخل جسد الراقص، فنراه يرتجف ويتخبط وتتعطل أجزاء من جسده كترجمة لجميع المعوقات التي تحيطنا في حياتنا اليومية والتي تحولت إلى معوقات داخلية، تسيطر على أجسادنا وحركاتها. لكن في ”وتدور“ ألا يجسد العرض تلك الإستحالات والمعوقات عبر السينوغرافيا المتحدية للجاذبية والموسيقى التجريبية والرسم التجريدي، فلما إعادة توكيد إستحالة الرقص (الفعل) عبر التخبط وعدم القدرة على الوقوف؟ 
ألا يطرح العرض تحدي إستحالة العيش ضمن تلك التحولات؟ إذاً لماذا يظهر الراقصان كمن يعاني ويجاهد للوقوف والرقص فوق سطح مائل؟ 
أما المشاهد المبنية على الثنائي الراقص، فإعتمدت تقنية ال ”Danse Contact“، حيث تتوزع الجاذبية ما بين ثلاث نقاط: جسد الراقصين والأرض. وبما أن الأرض في ”وتدور“ متحركة، فكان لا بد من تطويع الكوريغرافيا في تواصل مختلف ما بين أجساد الراقصين والأرض. لكن الأجساد في ”وتدور“ ظهرت في محاولات دراميّة لإلتقاط توازنها والوقوف على الأرض المائلة، في حالات الإلتصاق كما المتباعدة، وعلى المستوى الأفقي في معظم الأحيان  بدلاً من أن يكون على المستوى العامودي حيث يتشكل تحدي جاذبية الأرض محفزاً لإكتشاف لغة جديدة تتفاعل فيها الأجساد فيما بينها ومع السطوح المائلة / المستحيلة. ولماذا ترفع الأجساد في الفضاء عبر الونوش؟ خاصة أن في ذلك تعارضٌ مع دراماتورجيا العرض المبنية على تحدي المستحيل، فتأتي الونوش كيدّ إلهيّة تنتشل الأجساد لقسط من الراحة، فتعلقها في الهواء بعيداً عن الخطر وعن الإستحالة. ومن ناحية الكوريغرافيا، لم يساهم ذلك الرفع في إضافة ما يذكر على العرض. 
شهد الرقص المعاصر مع أمثال الفرنسي ميشال دوكوفليه، والبلجيكي سيدي العربي الشرقاوي وغيرهم من الكوريغراف العالميين، تقديم كوريغرافيا فوق منصات متحركة تتحدى الجاذبية، أو مع راقصين معلقين في الهواء، وليس بذلك بفريد من نوعه أو مبتكر، ولكنهم بذلك قدموا لغة تتحدى تفاعل الأجساد مع الجاذبية.
وإن كان العرض يطرح تحدي المستحيل، فالكوريغرافيا وقعت في إستحالة الرقص. أما إن كان الهدف إظهار إستحالة الرقص، ألم يكن من الأبلغ تصميم كوريغرافيا كلاسيكية فوق السطح الأفقي وإختبار إستحالتها شيئاً فشيئاً، بدلاً من تمثيل إستحالتها عبر إرتجاف وتخبط مصطنع. ذلك التخبط والإستحالة في الرقص، سبب إستحالة تثبيت العرض في نقطة إرتكاز ما، وتوصلّه إلى لغة فنية محددة وواضحة. أصبح كل شيئ معلّق ومتغيّر ومتخبطّ. لدرجة أنه يمكنك الشعور أن أي حركة كان من الممكن إستبدالها بحركة أخرى، أو أن تتموقع في مكان آخر على المنصة. 

في عرض ”وتدور“ لحظات قليلة شهدنها فيها إختبار مختلف للحركة. مثل عندما إستلقت ميا حبيس على أرضية المنصة على ظهرها، ورفعت رجليها في الفضاء. جسد حبيس فوق المنصة نصف مائل ومعلق في فضاء المسرح، أما رجلاها الخارجان عن المنصة فيتحركان ببطئ محركان الفضاء المسرحي من حولهما، ومتحديان ”عبر خدعة بصرية“ جاذبية الأرض، وإستحالة الرقص والوقوف والسير، إستحالة الفعل ضمن هكذا قيود ومعوقات. تلك هي اللحظات القليلة التي إنتصر فيها جسد الراقص على المستحيل.    

هكذا نجح المنتج الفني وراء عرض ”وتدور“ في جمع جميع العناصر التي كان بإمكانها تقديم عرض مميّز، لكن الكوريغراف أخفق هذه المرة.


          

المجتمع اللبناني عارياً أمام الكاميرا

يقترح علينا محمود حجيج في «طالع نازل» إطاراً محدداً لمجريات الفعل الموزَّع بين عيادة طبيب نفسي في أحد مباني بيروت، ومصعد المبنى. سبعة أشخاص يتوافدون على العيادة في يوم ٣١ كانون الأول (ديسمبر) في محاولة منهم لتقويم أحداث السنة الفائتة. ترافق الكاميرا تلك الشخصيات بين العيادة والمصعد، حيث تلتقي (ونلتقي) شخصيات أخرى من سكان المبنى، والناطور (فادي أبي سمرا) المرحِّب والمودّع لكل واحدة.
باستثناء بعض المشاهد القليلة التي تدعونا إلى التعرف أكثر إلى بعض شخصيات الفيلم في لحظات محددة من حياتها الخاصة، اختار المخرج تثبيت كاميرته وراء مرآة المصعد، ووراء كتف الطبيب. أمام الطبيب والمرآة (الكاميرا)، ستتعرى كل شخصية، لتسرد هواجسها ومشاكلها ورغباتها. كمشاهدين، نجد أنفسنا أمام سيل من الاعترافات لشخصيات لا يجمعها سوى مبنى واحد في بيروت، وفيلم «طالع نازل». أما خيار الاقتضاب في حركة الكاميرا، فيفسح المجال أمام الغوص الأعمق والأسلس في رواية الفيلم وقضايا شخصياته. لا شك في أنّنا أمام فيلم مميّز من حيث لغته السينماتوغرافية نصاً وإخراجاً، وأمام مخرج مدرك وجديّ في خياراته السينمائية، لذلك، اخترنا عدم الانجرار وراء موجة تشجيع السينما اللبنانية في ظل الظروف الإنتاجية الصعبة، وعدم تقويمه مقارنة بالإنتاجات اللبنانية الأخيرة، لأن في ذلك ظلماً لعمل فنيّ يستحق قراءة نقدية في مستوى الطرح الفنيّ. على مدونته، يقول حجيج عن فيلمه: «حين تبقى الكاميرا ثابتة في مكانها، تزهر وتزدهر». بالفعل، اختار المخرج الثبات لكاميرته ملقياً ثقلاً كبيراً على النص والممثلين. ذلك لا يعني أنه أهمل حركة الكاميرا، والإطارات، والصورة (مدير تصوير فيليب فان لو)، بل وظّفها في خدمة لعبة البوح بالمكنونات التي تحتاج إلى بعض السكينة كي تتوطد العلاقة بين المرسل والمتلقي، برغم أن بعض اللقطات، وخصوصاً تلك المأخوذة من خلف كتف الطبيب التي تكررت طوال الفيلم، أتت ثقيلة بعض الشيء. ليس بمعنى تركيبة الصورة، فوجود جزء من كتف الطبيب ورأسه في مقدمة الإطار، أعطى عمقاً للصورة، لكنها أتت غير منسجمة مع بساطة لغة الفيلم السينمائية.
عودة إلى مركز الثقل في الشريط. يعالج حجيج حالات اجتماعية متنوعة عبر شخصياته المتعددة. يغوص في تفاصيل تطاول المجتمع اللبناني والأفراد، من دون أن تخلو مقاربته من النقد. يبني تركيبة السيناريو وشخصياته عبر تفاصيل مثيرة وإطار جدّي تاركاً مجالاً واسعاً للفكاهة، لكن النقطة الأضعف في الفيلم تكمن في التفاوت الكبير بين أبطال الفيلم وقصصهم وتمثيلهم. مشاهد الطبيب (كميل سلامة) والناطور (فادي أبي سمرا) اللذين يؤديان دور حلقة الوصل بين شخصيات الفيلم ورواياته، قدّمت بإتقان وسلاسة اعتدناهما عند الممثلين. أما مشاهد الشخصيات التي قصدت العيادة، مثل عايدة صبرا، يارا أبو حيدر، منذر بعلبكي، زياد عنتر، ومنال خضر، فقد جاءت متقنة في جميع تفاصيلها، من حيث تفاصيل انسياب النص، وتركيب الشخصية، وهمومها ومشاكلها وطريقة البوح بها والتفاعل مع الطبيب، وحركة الجسد. جميعها عناصر كانت سلسة ومقنعة من دون تكلف ولا مبالغة. مثلاً، في أحد مشاهد عايدة صبرا الذي لا يتعدى الدقائق القليلة في الفيلم، نجد بلاغة واضحة في السيناريو الذي صاغه حجيج وفي أداء صبرا نفسها. أمّ ترافق ولدها إلى جلسة عند الطبيب النفسي، فيما هي التي تحتاج إلى جلسة خاصة. بضع كلمات، وردات فعل كلامية وجسدية ــ أكان تجاه ابنها أو الطبيب أو الناطور ــ كانت كفيلة بتظهير تركيبة معقدة لشخصية امرأة بائسة ومعنّفة تتظاهر بالسعادة لحماية صورتها الاجتماعية. يكمن نجاح تلك المشاهد في أنّها تطرّقت إلى مشاكل تلك الشخصيات خلال الجلسات التي يلتقي فيها الطبيب مريضه، حيث لا يقال كل شيء. لقد كانت تركيبة تلك المشاهد ذكية بطريقة ظهّرت العناصر الضرورية لتواصل المشاهد مع الشخصية أمامه على الشاشة. يأتي ذلك على عكس المشاهد التي تابعنا فيها ندى أبو فرحات، وحسان مراد، وحسام شحادات، وديامان بو عبود، التي حشرت الكثير من التفاصيل لشخصيات معقدة التركيب، عارضةً المشكلة والمواجهة وأحياناً الحلّ. حتى إنها أضحت، عبر النص والمبالغة في التمثيل وتركيبة الشخصية أمام الكاميرا، ركيكة تستند إلى الاستعجال في تظهير تعقيدات الشخصية كما إلى بعض الكليشيهات (مثل سرد بعض التفاصيل الدرامية عبر مونولوجات للمرآة)، حتى إنّ بعضها أتى مسرحياً في التركيبة والأداء، مما أدى إلى الإحساس بأنّ تلك المشاهد لم تتخذ مساحة كافية، فيشعر المشاهد بأنها اختُزلت، أو بأنّها مشروع لفيلم آخر، مثل قصة شخصية حسان مراد ووحدته وخوفه من المجتمع الذي تحوّل إلى علاقة مرضيّة مع «مانيكاناته». هكذا، ألقت مشاهد مماثلة بثقلها على إيقاع الفيلم، بعكس المشاهد الأخرى التي تنساب برغم التعقيدات الكامنة في شخصياتها، لكنها تعبر وترحل لتضيف إلى تركيبة الفيلم من دون أن تأسر المشاهد في عالم مختلف خارجه. ليس التوقف عند تلك التفاصيل سوى لأنّ «طالع نازل» للمخرج محمود حجيج فيلم يستحق المشاهدة والنقد.

ريما نجدي: «مدام بومبا» تفجّر شوارع بيروت

تصوير "ماريّا كسّاب" 

نهار الأحد الماضي، توقفت سيارة قرب كورنيش عين المريسة، وترجّلت منها إمرأة زنّرت نفسها بأصابع كبيرة من الـ T.N.T، قبل أن تتوجّه بخطوات واثقة نحو درابزين الكورنيش. وقفت هنالك تدير ظهرها للبحر، وتنظر إلى الناس حولها. لا شكّ في أنّ لحظة وصولها وسيرها بين الجموع، أثارت إستغراباً وتيقظاً ملحوظين. لكن دقائق قليلة كانت كفيلة بأن تبدأ الهواتف الذكية بالإرتفاع في فضاء الكورنيش، ولتنهال الكاميرات ملتقطةً الصور لتلك المرأة المزنرة بالديناميت.
وإن كان الحاضرون في بادئ الأمر حافظوا على مسافة بضعة أمتار تفصلهم عن هدف الصورة، إلا أنهم ما لبثوا أن توافدوا واحداً تلو الآخر، وإتخذوا أمكنتهم الأنسب ليلتقط لهم أصدقاؤهم الصورة الأجمل إلى جانبها. ثم بدأ بعض الأهل يشجعون أولادهم لفعل المثل، كمن يطلب من ولده الوقوف قرب شجرة العيد أو الجلوس في حضن بابا نويل لإلتقاط صورة. وفي المقابل، بقي البعض متخوفاً، ورافضاً الإقتراب، فيما إستنفر البعض الآخر طالباً منها الرحيل بعيداً، منبهاً الموجودين من الإقتراب منها.
إنها ريما نجدي، فنانة لبنانية، تخرجت من فرع المسرح في الجامعة اللبنانية، وتابعت دراستها في فنون العرض في مدينة نيويورك قبل أن تستقر حالياً في برلين. خلال عطلة رأس السنة، عادت نجدي إلى لبنان لزيارة الأهل والأصدقاء، لتشهد إنفجارين خلال إقامتها القصيرة في بيروت. مثل كل اللبنانيين، أثارت الإنفجارات وتفشي حالة الإنتحاريين في البلد، أسئلة كثيرة لدى نجدي. ضاعفتها خلال الفترة الأخيرة، الرسائل المحذرة من سيارت مفخخة هنا، وعبوة هنالك، وشائعات عن تهديدات لتلك المنطقة أو أخرى. هكذا قررت قبل مغادرتها إلى برلين، أن تشارك مجتمعها أسئلتها الكثيرة على طريقتها الخاصّة: فنون العرض. خلال أيام قليلة جداً، طلبت نجدي من أصدقائها مساعدتها في تنفيذ المشروع، فصممت لها ريّا قزعون الزيّ المزنر بأصابع ديناميت ضخمة. وقد أتى قرار تصميم زيّ كاريكاتوري ومبالغ فيه بعض الشيء، بهدف إيحاء الفكرة لا إخافة الناس فعلاً. أما أحمد نجدي وماريّا كسّاب وساندي شمعون ودانا ضيا، فقد تناوبوا على قيادة السيارة وتوثيق المداخلة الفنية في الشارع عبر الفيديو والصور الفوتوغرافية. هكذا ولدت «مدام بومبا». الهدف كان التنقّل في أرجاء بيروت بين كورنيش عين المريسة/المنارة، ثم «زيتونة باي» قبل التوجه إلى وسط البلد، فشارع الجميزة، ثم الأشرفية، مروراً بتقاطع بشارة الخوري راس النبع قبل أن تختتم الرحلة في شارع الحمراء.
قد يكون هذا الخيار الجريء والصادم في شكل المداخلة الفنية في الشارع، خلافياً بعض الشيء. لكن أليس هذا المطلوب في ظل وضع كالذي نعيشه اليوم في لبنان؟ مداخلة فنية في الشارع تهدف إلى خضّ الواقع، وطرح الأسئلة، المؤلمة منها قبل المهادنة. كيف تتفاعل مع ذعرك اليومي حين يتجسد على شكل إمرأة «مزنرة بالديناميت» تسير بقربك في الشارع؟
طبعاً منع الحراس الأمنيون دخول مدام بومبا إلى «الزيتونة باي». بإبتسامة مهذبة تتوافق مع السياسة الإعلانية للمكان، أبلغ أحد الحراس الفنانة أنها ممنوعة من الدخول، لأن «الزيتونة باي» "ملك خاص»، ودخولها للسير على الكونيش البحري «قد يثير الذعر في نفوس الزبائن، خصوصاً الأجانب، مما يضرّ بمصلحة الشركة» المستملكة لإحدى الواجهات البحرية العامة لمدينة بيروت. الرفض ذاته واجهته في أسواق بيروت، رغم أن الحراس الأمنيين أحضروا في بادئ الأمر كلباً متخصصاً لشمّها من دون أن يتمكن من العثور على أي مادة متفجرة في حوذة «مدام بومبا»، لكن ما لبث مدير الشركة الأمنية أن حضر بنفسه ليمنعها من الدخول إلى الأسواق الخاصة. فما كان من ريما نجدي إلى أن تابعت سيرها في شوارع أسواق بيروت، حيث قام أحد العناصر الأمنية بالتغزل بها قائلاً «لو كل الإنتحاريون متلك، كنت هلأ بتفجر». أما أحد أفراد الشرطة أمام مبنى بلدية بيروت، فهتف بها «يلاّ، ١، ٢، ٣، بوم» وضحك مع رفاقه. في شارع فوش، لم يعترض أي مقهى على إستقبالها وتقديم القهوة. كذلك في شارع الجميزة حيث دخلت إلى إحدى الحانات، وإحتست كأساً، ثم نرجيلة في أحد مقاهي الحمرا، قبل أن تصطدم بدعوة أخيرة للخروج من أحد المحلات التجارية.
حيثما حلت «مدام بومبا»، كانت ردات الفعل تتفاوت بين الرفض والإستقبال، الخوف والسخرية، إلتقاط الصور لها أو معها أو التنبه والإبتعاد عنها. لكن لحظات قليلة على كورنيش عين المريسة كانت كفيلة بطرح جميع الأسئلة. هناك، أحضر شاب رجلاً مسناً على كرسي مدولب ووضعه إلى جانب المرأة المزنرة بالديناميت، وتركه هناك لبضع ثوان ليلتقط له صورة معها. كانت على وجه ذلك الرجل، المقعد والصامت والمتجمد، نظرة مؤلمة، نظرة تطرح أسئلة كثيرة ومخيفة: لماذا تلتقط لي صورة مع إمرأة مزنرة بالديناميت؟ لماذا تسلمني أيها الشاب إلى الموت بهذه السهولة؟ منذ متى أصبح الإقتراب من الموت بهذه السخافة؟ وأنتم إلامَ تنظرون جميعاً؟ ما الذي تنتظرونه؟ اللقطة الأجمل، الأفضل، الأفظع، الأقوى، الأبلغ، ألا تعلمون أنكم لن تستطيعوا يوماً إلتقاط صورة الموت؟ وأن الموت أسرع من عدسات كاميراتكم مهما كانت ذكية؟

أكرم زعتري: عن «استثناء» بقي مخلصاً للعالم


معرض جريء ومركّب، يجمع بين اللقطة واللقطة المقابلة، عند الحدود الملتبسة بين الوثائقي والروائي، ذاك الذي يقدّمه الفنان اللبناني حاليّاً في «صفير زملر» بعنوان «هذا اليوم عند العاشرة». بعد «البندقية» و«دوكيومنتا ١٣» تستقبل بيروت أعماله التي ترصد بصيص الأمل في ليل الهمجيّة، ضمن رحلة بحث «فرديّة» عن العدالة المستحيلة.
يقدّم أكرم زعتري معرضاً فردياً في «صفير زملر» بعنوان «هذا اليوم عند العاشرة» أنجزت أعماله خلال العقد الأخير وتنقل بين «بينالي البندقية»، و«دوكيومنتا ١٣» وغيرهما من المعارض والمتاحف. معرض مهم جداً في طريقة طرحه للواقع/ الوثائقي، وكيفية تشريع الباب على تساؤلات كثيرة عبر الخيال/ الروائي ضمن إطار خيارات الأفراد مقابل واقع الأوطان والصراعات والحروب. يطرح المعرض البيروتي الحالي عدداً من التساؤلات الصحيّة: كيف يمكن أن ننظر إلى الجريمة من خلال الاستثناء الذي يؤكّدها؟ هل من تفاعل ممكن بين فرد في موقع الضحيّة، وفرد في موقع الجلاد «يرفض» سياسة الجلاد ويدينها؟
تجرأ زعتري على مقاربة الحدود التي تفصله عن آفي مغربي أو هاغاي تمير، من دون أن يترك مكاناً للالتباس «التطبيعي» طالما إنّه لم يسامح الجلاد ولم يؤنسنه. بل إن معرضه الحالي يستعيد الجريمة كفكرة تأسيسيّة من صلب الكيان الإسرائيلي.
في كتابه «محادثة مع مخرج إسرائيلي مُتخيّل يُدعى آفي مغربي» (٢٠١٢)، يقول زعتري «تماماً كما يفكر السجين فى الحرية، ففي أوقات الحرب لا مفرّ من التفكير في السلام. لكننا نعلم أن من غير الممكن محو التاريخ. من غير الممكن الرجوع في الزمن لمحو الظلم، والعنف، والاحتلال، والحرب». بذلك يثبّت الواقع/ الوثائقي. أيضاً، يقدم زعتري في المعرض البيروتي فيديو «صيدا، ٦ حزيران/ يونيو ١٩٨٢» (٢٠٠٢ ــ ٢٠١٣) المؤلف من كولاج لصور فوتوغرافية توثّق قصف الطيران الإسرائيلي لتلال صيدا في أزمنة مختلفة. جمع الفنان الصور في فيديو واحد يعرض بشكل متواصل، مجسّداً استمرارية العدوان في حركة لا تنتهي. ويتضمّن المعرض صوراً فوتوغرافية كبيرة بالأبيض والأسود توثّق تحليق الطائرات الحربية الإسرائيلية في سماء لبنان. لكن في المقابل، يتابع زعتري في كتابه «ولهذا فلا يمكننا إلا أن نكون صوتين فرديين، مُتخيّلين لأننا لا نمثل أحداً أو ننوب عن أحد. والحقيقة أننا نسيء التمثيل والإنابة. نحن شخصيتان مُتخيلتان لأننا غير منسجمين مع الكيان الوطني لكلّ منا. صوتنا خيال الوطن، وليس بحقيقة الوطن». هنا يستدعي زعتري الفرد، والخيال، ليطرح عبرهما أسئلة تنتقل من الواقع/ الوثائقي لتصب في الخيال/ الروائي. أسئلة تستند إلى الماضي وتصبّ في المستقبل. بذلك، فإنّ معظم مواد معرض «هذا اليوم عند العاشرة» تطرح أسئلة ضمن رواية مستقبلية رغم أنها وقعت في الماضي وتتخذ شكل التوثيق. من هنا، يعيد زعتري قيمة الفرد إلى الواجهة، إيماناً منه بأنّ أفعال الأفراد وخياراتهم هي الوحيدة القادرة على إنتاج الأمل وتحقيق العدالة.
يمكن قراءة انتقال أعمال زعتري من اللقطة إلى «اللقطة/ اللقطة المقابلة» (Champ /Contrechamp)، لأن معنى الصورة لا يكتمل بعرض جهة واحدة من اللقطة. كذلك في اللقطة المقابلة، أصبح للإستثناء الإسرائيلي صوت في أعمال زعتري. مع آفي مغربي، أنتج كتاباً، ثم وجه فيلم «رسالة إلى طيار رافض» إلى الطيار الإسرائيلي هاغاي تمير الذي رفض قصف «ثانوية صيدا الرسمية للبنين» خلال الاجتياح الثاني للبنان.
في ذلك اليوم من صيف ١٩٨٢، قصفت طائرة حربية إسرائيلي ثانوية صيدا للبنين… لكن التفصيل الهامشي الذي بنى عليه أكرم رؤيته، والذي عرفه بالمصادفة، أنه قبل تفرغ طائرة العدوّ حمولتها بقليل، كان طيار آخر يدعى هاغاي تمير قد تلقّى الأمر بقصف الهدف المذكور، لكنّه شكّ أن الهدف مدرسة أو مستشفى بسبب همدسة المبنى، فرمى بحمولته الصاروخية في البحر وعاد إلى قاعدته. رغم هذا الموقف الانساني فإن المدرسة هُدمت في النهاية، وواصلت إسرائيل أفعالها الإجرامية. ما يلتقطه زعتري في «رسالة إلى طيار رافض»، أنّه، ضمن تلك المنظومة القائمة على العنف والعدوانيّة، هناك فرد قرر رفض قصف المدرسة. فرد اختار العدالة، كما قال ألبير كامو في «رسائل إلى صديق ألماني» (عدوّه خلال الحرب العالمية الثانية): «بالمختصر، أنت اخترت الظلم واتخذت جانب الآلهة. أنا، في المقابل، اخترت العدالة كي أبقى مخلصاً إلى العالم». في مقابل فيديو «رسالة إلى طيار رافض»، يعرض زعتري عمل آخر بعنوان «صيدا، ٦ حزيران ١٩٨٢»: اللقطة واللقطة المقابلة. عندما قُدّم العمل للمرة الأولى في «بينالي البندقية» (٢٠١٣) ممثلاً لبنان، وضع زعتري كرسياً واحداً فارغاً للطيار (الرافض) أمام «صيدا، ٦ حزيران ١٩٨٢»، بحيث يدير هذا الأخير إذا جلس ظهره للعمل الآخر، أي الرسالة الموجّهة إليه. وكان أن حضر هاغاي تمير فعلاً إلى المعرض، وجلس ليشاهد القصف الإسرائيلي لتلال صيدا. أما في صالة «صفير زملر» في بيروت، فقد استبدل زعتري كرسي الطيار بعدد من الكراسي في مواجهة «رسالة إلى طيار رافض» داعياً جمهور المعرض إلى إكمال اللقطة المقابلة للطيار الإسرائيلي.
من شائعة (روائي) سمعها خلال طفولته، ثم اكتشف قبل سنوات قليلة أنّها حقيقة (وثائقي)، أعاد زعتري تحويل الواقعة إلى رسالة مزج فيها الوثائقي بالرواية. في الرواية يكمن الخيال الذي لا يمكن أن ينتجه سوى الأفراد. خيال يحاول البحث عن قراءة مختلفة للصراع. قراءة لا تلغي الحقائق، لكنّها تبحث عن بصيص أمل ـــ ولو شحيح ــــ في المستقبل.
أما في فيلم «في هذا المنزل»، فننتقل إلى رحلة بحث عن «رسالة» من نوع آخر… رسالة كتبها فرد هو علي حشيشو، من مجموعة محاربين ضمن «الحزب الديموقراطي الشعبي» كانوا قد احتلوا منزلاً في عين المير (جنوب لبنان) لخمس سنوات. قبل مغادرتهم البيت عام ١٩٩١ بعد اتفاق الطائف، طمر حشيشو رسالة في حديقة المنزل داخل بيت قذيفة مدفعيّة، علّ أصحاب البيت المهجّرين يجدونها بعد عودتهم. في الرسالة، قدّم كاتب الرسالة نفسه، وشكر أهل البيت وأهل عين المير على احتضانهم، مطمئناً إياهم بأنهم حاولوا قدر المستطاع المحافظة على المنزل وحديقته وشجر الزيتون فيها. هنا أيضاً فرد يبحث عن العدالة.
في غرفة أخرى، عرض زعتري ثلاث مجموعات من الصور. المجموعة الأولى عبارة عن أربع صور فوتوغرافية لمشروع «مصلحة التعمير» الذي صممه وشيده المخطط والمهندس الفرنسي ميشال إيكوشار في صيدا في حيّ الدكرمان، قرب مخيم عين الحلوة حالياً، كأحد أول مشاريع المساكن الشعبية في لبنان بين ١٩٥٧ و١٩٦٧. إيكوشار كان وراء مشاريع تخطيط مدني لمدن بيروت طرابلس وصيدا، وكانت مخططاته ومشاريعه دليلاً على انطلاق الحداثة المعمارية في لبنان. وتجدر الاشارة إلى أن «ثانوية صيدا الرسمية للبنين» التي قصفهتها اسرائيل. كانت جزءاً من مشاريع «مصلحة التعمير». المجموعة الثانية كناية عن خمس صور لطائرات حربية إسرائيلية تعبر سماء لبنان. والمجموعة الثالثة ست صور لهاغاي تمير غير معروضة، لكن هناك وصف تفصيلي مذكور لكل واحدة تحت الفراغ على الحائط. تغييب صور الطيار الرافض ضمن ثلاثية الإعمار وآلات التدمير ورفض المشاركة في الجريمة، يفتح مجالاً لملء فراغ الصور بهويات أفراد كثر يمكنهم أن يتخذوا مكان ذاك الطيار.
مرّ على نكبة فلسطين 65 عاماً، وتمت مقاربة الصراع ضد الاحتلال الاسرائيلي فنياً بطرق وأساليب مختلفة. اليوم، يعيد زعتري تذكيرنا بأنّه حتى في زمن الحرب، هناك دائماً خيارات يمكن للفرد أن يتخذها.






zoom | كبسولة الزمن
«كبسولة الزمن» (الصورة) مشروع استوحاه أكرم زعتري من حادثة صبّ الآثار بالاسمنت في المتحف الوطني خلال الحرب الأهلية لحمايتها من القصف. هكذا، قرر صبّ صناديق خشبية تحتوي على أعمال فنية بالباطون ودفنها تحت الأرض، فلا يبقى ظاهراً منها سوى قضبان حديدية فوق الأرض. فعل يأتي كمساءلة عكسية لعملية البحث عن الأعمال الفنية، وحفظها وعرضها، ومساءلة للعمل المؤسساتي، وخصوصاً بعدما ترك زعتري «المؤسسة العربية للصورة» حيث أمضى ١٥ عاماً من حفظ وتوثيق الصور الفوتوغرافية. في المعرض الحالي، يقدم زعتري عيّنات عن «كبسولة الزمن» التي تظهر بعضها فوق الأرض، وأخرى مطمورة، إضافة إلى «مخططات الكبسولة» على خمس صفحات، ضمن غرفة كبيرة تتوزع على جدرانها مجسمات لطائرات ورقية مصنوعة من مادة البولياميد. في غرفة ثانية، يعرض فيلم وثائقي (٢٠١٢) عن عملية صنع الكبسولة وصبّها في حديقة في كاسيل في ألمانيا ضمن معرض «دوكيومنتا ١٣». وفي قبالته يعرض فيديو «عين عار» (٢٠٠٢) الذي يظهر عملية النبش عن رسالة علي حشيشو. نبش وطمر، اللقطة واللقطة المقابلة. بين الشاشتين، يُعرض في الوسط على الأرض تجهيز «هيكل كبسولة الزمن» (٢٠١٣) المؤلف من القضبان المعدنية المؤلفة للكبسولة.
«هذا اليوم عند العاشرة»: حتى 22 آذار (مارس) ــ «صفير زملر» (الكرنتينا ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/566550