كاترين دافيد: شبح الفيتشية يخيّم على الفن العربي

الناقد جو طراب ودافيد خلال ندوة الـ «ألبا» (ابراهام كالوستيان)

بعد مشاركتها في محاضرة حول «تاريخ الفن في بيروت خلال السيتينيات والسبعينيات انطلاقاً من أرشيف عارف الريّس»، التقينا المعدّة الفنيّة ومنسقة المعارض الفرنسية كاترين دافيد (1954) في «الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة» (ALBA) للوقوف عند نظرتها إلى واقع الفنّ في العالم العربي اليوم.
درست دافيد علم اللغات وتاريخ الفن في جامعة الـ «سوربون» و«معهد اللوفر» في باريس. بين 1982 إلى 1990 عملت أمينة لـ «المتحف الوطني للفن الحديث» في «مركز جورج بومبيدو». ومن عام 1990 حتى 1994، أشرفت على «المتحف الوطني للفن الحديث» في باريس. لم يقتصر عمل كاترين على باريس فحسب، بل شغلت منصب مديرة فنية لمعرض «دوكومنتا» العاشر في كاسل الألمانية (1994 إلى 1997).
زيارتها الأولى إلى بيروت كانت عام 1998 لحضور «مهرجان أيلول»، حيث تعرّفت إلى الأفراد والمؤسسات الفاعلة على الساحة الفنية اللبنانية. أطلقت في 2002 مشروع «التمثيلات العربية المعاصرة» الذي تمحور جزؤه الأوّل حول لبنان، ثم مصر، فالعراق، فيما تعمل حالياً على مشروع متواصل في بغداد. وتعليقاً على النشاط الثقافي في العاصمة العراقية، تقول دافيد لـ «الأخبار» إنّ «النشاط الثقافي المعاصر ما زال محصوراً ببعض الأفراد الذين يعملون بجهد في ظل غياب الهيكيلية التي تؤسس لنشاط دائم ومستمر».
لا تنكر دافيد محاولات معرض «آرت دبيّ» التأسيس لأنشطة تتخطى المنحى التجاري، رغم اعتقادها أنّ مشكلتها الأساسية تتمثّل في انعدام الاستمرارية. ذلك أنّ الفعاليات تغيب في دبي قبل «آرت دبي» أو بعدها، بحيث ينحصر كل شيء ضمن هذا المعرض السنوي. تثني دافيد على محاولة مديرة المعرض أنطونيا كارفر وفريق عملها لتكريس ذلك البعد الثقافي عبر الشراكة مع «منتدى الفنّ العالمي»، وجائزة «أبراج الفنيّة»، أو لناحية إطلاق قسم «دبي مودرن» هذه السنة. لكنّها تضيف أنّ الإشكالية تصبّ في خيار أيّ مؤسسة في حمل خطابي التجارة والثقافة معاًَ. وتشير إلى أنّ المشكلة في دبي تكمن في غياب المؤسسات الثقافية والمتاحف، ما يضطر «آرت دبي» لتأدية الدورين، فينجح حيناً ويخفق أحياناً. وإنّ هناك شكوكاً كبيرة بأن متاحف مثل «اللوفر» أو «غوغنهايم» ستساهم في سدّ تلك الثغرة في المستقبل.من بغداد انتقل الحديث إلى النشاط الثقافي الذي تطوّر بسرعة هائلة في منطقة الخليج العربي، وتحديداً إلى الدور الذي تلعبه المؤسسات الثقافية الكبرى هناك. تقول كاترين «يجب أن نكون واضحين أنه في الخليج تتوافر السوق والمال، وهذا ليس كافياً لتأسيس لثقافة». لكن «إذا ما نظرنا بالتفصيل إلى بعض المشاريع، يمكننا تمييز الدور الذي تقوم به «مؤسسة الشارقة للفنون» تحديداً على صعيد الديناميكية المحلية». وتوضح دافيد أنّ دور المؤسسة ذكي لناحية تجذره وتفاعله مع الفنانين ومتابعة أعمالهم. علماً أن «بينالي الشارقة» ليس مشروعاً جديداً، إذ يقدّم في العام المقبل دورته الـ 12. بالتالي، ما يحدث في الشارقة أكثر صدقاً من الفعاليات الثقافية الأخرى في أبوظبي أو في دبيّ التي تفتقر عملياً إلى الثقافة. وإذا تعمّقنا في البحث، نجد حوادث مهمة مثل معرض النحت الذي يقام على كورنيش مدينة جدّة منذ أواخر الثمانينيات. كذلك، هناك بعض الأنشطة الثقافية التي كانت تشهدها البحرين والكويت، في حين كانت الإمارات وقطر تفتقران إليها.
وبالعودة إلى قسم «دبي مودرن» (مخصص للفن الحديث) المستحدث الذي شاركت كاترين دافيد في لجنته الفنيّة الاستشارية، ترى أنه لطالما كانت الحاجة ملحّة لاستحداث ذلك القسم في ظلّ غياب المتاحف عن أرشفة وعرض حقبة الفنّ الحديث في المنطقة. من هنا تأتي محاولة «دبيّ مودرن» لإلقاء الضوء على هؤلاء الفنانين وتقديم أعمالهم للجمهور الذي تجاوب كثيراً هذه السنة مع القسم الجديد.
لا يمكننا الحديث عن الفن العربي المعاصر من دون التوقّف عند المخاض الذي تشهده بعض البلدان العربية. تجد دافيد أنّه من المبكر الحديث عن أثر تلك الحوادث على النتاج الفني، أو حتى التماس أعمال جديّة تحاكي الوضع السياسي الاجتماعي. تسقط معظم الإنتاجات الفنية اليوم في الإيكزوتيكية الذاتية أو المقاربات المباشرة، ما يصبّ بشكل مباشر في التجارة الفنيّة البائسة في زمن الحروب. تلك حالة شهدناها في لبنان وفلسطين وغيرهما، فيما تمتدّ بسهولة اليوم إلى بلدان أخرى في سياق الثورات. لعل الاستثناء الأكثر تميّزاً هو تونس، رغم أنّه لا يمكننا تشبيه التجربة التونسية بالمصرية أو السورية. هناك أعمال تونسية شبابية كثيرة، تحديداً في الرسم. يعود ذلك إلى البيئة الاقتصادية المتواضعة التي يعمل فيها التونسيون، يكفي هذا الجو لأن يولّد أعمالاً أكثر عضوية وصدقاً من الأعمال الضخمة المنتجة في العالم العربي.
تؤكد دافيد مجدداً أن علينا الانتظار قليلاً ريثما تجد التغييرات في العالم العربي الأشكال الفنيّة المناسبة لتجليها. أما بالنسبة إلى الساحة الفنيّة في لبنان، فتأسف لعدم اطلاعها الكافي على نتاج الفنانين الشباب اللبنانيين خلال العقد الفائت. وتختم بأنّ السوق الفنيّة تبقى الخطر الأكبر اليوم على الإنتاج العربي الصادق. برأيها أنّ السوق توسعت جداً في العالم العربي خلال السنوات الأخيرة، وتنامت الرغبة الأجنبية الإكزوتيكية في الانفتاح على الأعمال العربية، بما ينذر بسيطرة شبح الفتيشية تجاهها.

(جدة) أنيتا توتيكيان تطرّز التراجيديا الأرمنية




للوهلة الأولى، تخال أنّ ما تشاهده في Exbroideries الذي يحتضنه «مركز بادغير» حالياً، ليس سوى معرض لإحدى الجمعيات الخيرية تشجيعاً للعمل الحرفي! لكن حالما تقترب من تلك القطع، تلاحظ أنها ليست تطريزات عادية، بل هي كنز اكتشفته الفنانة اللبنانية عام ٢٠٠٩ خلال زيارة بيت جدتها في إسنطبول.
في معرض Exbroideries الذي يحتضنه «مركز بادغير» (راجع الكادر)، تعيد أنيتا توتيكيان (1961) بواسطة الخيوط والأقمشة التي طرزتها جدتها هريبسيم ساركيسيان، حبك قصة جدتها الشخصية ورحلتها مع الألم لتسرد عبرها التراجيديا الأرمنية.
عند مدخل المعرض، تستقبلك صورة هريبسيم ساركيسيان على طاولة خشبية صغيرة أمام مرآة محاطة بخيطان حياكة وزهور (تصميم وائل بطرس). حولها وفي الغرف الخمس، تتوزع عشر قطع مطرزة، ومعلقة في فضاءات الغرف. وعلى الجدران قرب كل قطعة صور فوتوغرافية (طارق مقدم) تُظهر تفاصيل التطريز في كل قطعة، وبعض الأشكال التي نجد صدى لها في التطريزات كرسوم على جدارن الكنائس أو أزهار من الطبيعة.
للوهلة الأولى، تخال نفسك في معرض لإحدى الجمعيات الخيرية تشجيعاً للعمل الحرفي. لكن حالما تقترب من تلك القطع لمشاهدتها عن كثب، تلاحظ أنها لا تشبه بتاتاً ما اعتدتنا على رؤيته في تلك السياقات. لا شك في أنّ الأعمال هنا لا تحترم المبادئ الكلاسيكية للتطريز في التصميم كالتوازي والتناسق أو حتى في اختيار المواد، لكنّها تتمتع بجمالية خاصة جداً، مشحونة بمشاعر معقدّة توحي بالفرح والألم في آونة واحدة.
تلك ليست تطريزات عادية، بل كنز فنيّ اكتشفته توتيكيان عام ٢٠٠٩ في بيت جدتها في إسنطبول. كنز يحمل مع كل عقدة فيه قصة مؤلمة لامرأة تدعى هريبسيم ساركيسيان، طرزت تاريخها ومأساتها، تاريخ ومأساة شعب بكامله من دون أن تدري.
في عام ١٩١٥، نجت هريبسيم صغيرةً من الإبادة الأرمنية، بعدما كانت شاهدة على مقتل أبيها، وأخيها وأعمامها. هربت إلى الجبال وعاشت بين الثلوج وفي الكهوف مع أمها وأخيها الصغير، واقتاتوا الأعشاب والسحليات. عملت كعبدة في الأرض التي كان يملكها أبوها سابقاً، وتزوجت، وهُجرت مع عائلتها مرّة أخرى عام ١٩٣٨، إلى أن عادت إلى إسنطبول حيث عاشت حتى مماتها عام ٢٠٠٠. في أواخر عقدها السادس، لجأت هريبسيم ــ رغم بدء فقدانها النظر ــ إلى تطريز قطع القماش والسجاد لتفريغ ألمها. تطريز يعتمد على حاسة اللمس أكثر منه على النظر. خلال زيارة قامت بها أنيتا توتيكيان عام ٢٠٠٩ لمنزل جدتها في إسطنبول، وقعت بالمصادفة على بعض تلك القطع، وأيقنت مباشرة أنّ ما تمسكه بيدها ليس مجرد قطعة مطرزة، بل «فنّ خام» بامتياز. والفنّ الخام مصطلح استعمله الفرنسي جان دوبوفيه للمرة الأولى عام ١٩٤٨، لوصف نتاج فنيّ ذي خصائص محددة. وينتج «الفنّ الخام» عن أشخاص عاديين خارج الساحة الفنية ومدارسها وتياراتها وتقنياتها. لا شك في أنّ هريبسيم ساركيسيان لم تحتك طوال حياتها بالساحة الفنيّة، وقد تكون المناخات الكنسية الفنّ الوحيد الذي اختبرته في حياتها. من هنا نجد تكرار التصاميم الكنسية في تطريزها. لكن الأهم أنّها لم تقارب يوماً أعمالها التطريزية كعمل فني. وإذا تفقدنا أعمالاً تطريزية أخرى لها، نلاحظ الفرق الواضح في مقاربة التطريز. في الغرفة الأخيرة من المعرض إلى جانب قطعة تتناثر فيها الألوان كلوحة تجريدية، تقدم أنيتا جورباً من الصوف طرّزته جدتها بتقنية كلاسيكية ومتقنة جداً. ذلك الجورب يؤكد مقدرة ساركيسيان على التطريز الكلاسيكي، ورسم الخطوط والأشكال المتناسقة والمتوازية في التصميم. والأهم أنّه يؤكد أنّ ساركيسيان تقصّدت كسر كلّ القيود الكلاسيكية في القطع الأخرى، محوّلةً التطريز إلى فعل ذاتي تمكن قراءته اليوم فنيّاً وعبر التحليل النفسي. كذلك نلاحظ أنّ القطع العشر التي عثرت عليها أنيتا لا وظيفة عملية لها بعكس الجوارب، ولا تتخذ شكلاً هندسياً واضحاً، ما يؤكد أنّ ساركيسيان اختارت تطريز تلك الأعمال بطريقتها الخاصة لأهداف شخصية بحت، وليس للتزيين أو للاستعمال. ذلك السياق بأسره يضعنا أمام أعمال فريدة تصبّ في ما يعرف بالفن الخام.
في المعرض، تحولت مداخلة أنيتا من تقديم أعمالها الخاصة إلى لعب دور القيمة الفنية. عبر اكتشاف تلك الأعمال، ثم الأبحاث، فالتحليل النفسي الذي أجرته، أعدّت أنيتا المعرض ضمن تجهيز فني وتحليلي وفق القصص التي يرويها كل عمل. قسمت الأعمال بين غرف تحمل كل واحدة موضوعها الخاص، ثم ركبّت التجهيز الفني المدعّم بلقطات فوتوغرافية مقرّبة للتفاصيل في التطريز، ملقيةً الضوء على طبقات المعاني الكامنة وراء كل عقدة: قطرات الدم، والمدافن والجثث واستعمال أكياس النايلون لاستكمال القطعة...
تقول أنيتا لـ «الأخبار» إنّها في أعمالها السابقة، تفادت التطرق بشكل مباشر إلى المجزرة الأرمنية. لم تجد صور القتلى والرؤوس المقطوعة مساحة في أعمالها. أما اليوم، ونحن على أبواب الذكرى المئة للمجزرة الأرمنية، فقررت عرض تلك الأعمال لجدتها. بألوانها المزركشة والفرحة، تحمل هذه الأعمال في خفايا عقدها مآسي جدتها التي تعكس ببلاغة مآساة شعب تعرّض لأفظع جرائم الإنسانية في التاريخ الحديث.
في قلب رج حمود
يقام معرض Exbroideries (لأنيتا توتيكيان) في الطابق الأعلى من «مركز بادغير». أسست أربي مانغساريان المركز منذ حوالى سنة وبضعة أشهر، في منطقة برج حمود. في الطابق السفلي، يوجد مطعم جميل ودافئ يقدم المطبخ الأرمني، وإلى جانبه تعمل أربي على إعادة تنشيط مشغل للحياكة والتطريز. أما في الطابق الأعلى، فصالة المعرض مفتوحة بحسب أربي لجميع الفنانين الذين يودون تقديم أعمال معاصرة تخاطب المجتمع المحيط بالمركز.

Exbroideries لأنيتا توتيكيان: حتى نهاية آيار (مايو) ـــ «مركز بادغير» (برج حمود) ــ للاستعلام : 01/240214

«عطيل» المعاصر يناشد العدالة على «أرصفة زقاق


على أرض «المعهد الفرنسي» في بيروت، فرشت «دوزيو» علم الإتحاد الأوروبي، وقتلت فوقه ديدمونة، وعطيل، وياجو وإميليا. عبر الأساليب الكلاسيكية المسرحية، قدمت الفرقة الفرنسية عرضاً ذكياً ينطلق من رائعة شكسبير، ليعيد تقديمها في قالب معاصر يحاكي الهواجس السياسية والإجتماعية والإقتصادية الراهنة.
قدمت فرقة «دوزيو» أخيراً عرض «عطيل» في بيروت ضمن مشروع «أرصفة زقاق 2014». عرض سياسي بامتياز لا يروي قصة رومانسية عن الحب والخيانة فحسب بل يسائل مفاهيم الحب والعدالة والحقيقة في الزمن المعاصر. على أرض «المعهد الفرنسي» في بيروت (مقابل مبنى القنصلية)، وأمام جمهور لبناني وفرنسي منه السفير الفرنسي وعقيلته، فرشت «دوزيو» علم الإتحاد الأوروبي، وفوقه قتلت كل من ديدمونة، وعطيل، وياجو وإميليا.
تقول مخرجة العمل نتالي غارو لـ «الأخبار»: «أنا لست ضد أوروبا، لكن ضد السياسات التي تعتمدها تجاه الآخرين، والجرائم التي تُرتكب في العالم باسم أوروبا والديمقراطية». كتب شكسبير نصّه عام 1604 عن علاقة الحبّ بين عطيل وديدمونة بشكل مواز مع حاجة أوروبا إلى عربي لمقاتلة الأتراك، وأنهى قصة الحبّ تلك بخيانة أوروبا له. إنّها ليست قصة حبّ، بل قصّة حيث تخلق الرأسمالية مساحة للحب متى تناسبت مع مصالحها، ثم تخنقه حين ينتفي دورها.
بالأمس، اختير العربي عطيل لتخليص البندقية من الأتراك في قبرص، وأعطيت له إبنة البندقية الراقية ديدمونة رغم معارضة أبيها أحد أعضاء مجلس الشيوخ، مع وعد بأن يصبح الحاكم على قبرص لو حرّرها. بعدما نجح عطيل في مهمته، أمرته البندقية بالعودة وتسليم الحكم إلى الملازم الفلورنسي كاسيو. قام عطيل بقتل نفسه بعد خيانة البندقية له، واكتشافه أنه قتل ديدمونة التي لم تخنه أبداً. بالأمس، كانت البندقية وقبرص وطريق الحرير. أما اليوم، فأصبحت أوروبا وأميركا وبغداد طريق البترول. بالأمس كانت البندقية معقل الرأسمالية، واليوم أصبحت السوق الأوروبية، و«وول ستريت». وتحت غطاء الديمقراطية الأوروبية والأميركية، تقود الرأسمالية الحروب، وتسوّى البلدان بالأرض، ويقتل البشر لتأمين تجارتها.
منذ القرن 17، تكلّم شكسبير عبر عطيل عن إنتاج الرأسمالية لعنصرية تجاه الغريب. تضمحل عند الحاجة إلى هذا الغريب، ثم تعود حين ينتهي دوره. من هنا كان اهتمام «دوزيو» بنصّ «عطيل» الذي ترجمه أوليفييه ساكومانو إلى الفرنسية، ثم أعاد كتابته ليناسب 3 شخصيات. يقدّم «عطيل» ثلاثة ممثلين يتناوبون بإتقان على شخصيات مختلفة ضمن ثلاثيات عدة. الجمهور موزع بشكل دائري حول ساحة العرض التي تتوسع أحياناً إلى ممرات ثلاثة تخترق دائرة المقاعد إلى دائرة كبرى حول الجمهور. أرادت غارو وضع الجمهور في موقع الشاهد على أحداث العرض التي تجري أمامه وحوله، من الحب إلى الخيانة والقتل. أما في إدارة الممثلين، فتم اعتماد تقنية القناع في تبديل الشخصيات بمساعدة أكسسوارات بسيطة. لا سينوغرافيا معقدة. هناك الممثلون ونصّهم فقط. مرّة أخرى، تعيد غارو و«دوزيو» تذكيرنا بأن المسرح المعاصر لا يعتمد بالضرورة على التقنيات المعقدة والمبهرة وإنتفاء الدراماتورجيا والنص والتمثيل. عبر الأساليب الكلاسيكية المسرحية، قدمت «دوزيو» عرضاً رائعاً وذكياً يتخذ من «عطيل» شكسبير أساساً ليعيد تقديمه في فحوى معاصر يحاكي التساؤلات السياسية والإجتماعية الراهنة. عبر تفاصيل بسيطة وذكية في تركيبة النص والدراماتورجيا والإخراج، تعيد الفرقة خلق سياقات مسرحية تطرح معضلات أساسية ومعاصرة. تقدم «دوزيو» مسرحاً سياسياً يعيد الأمل إلى دور الخشبة في معالجة قضايا إجتماعية وسياسية بلغة فنّية متقنة وذكيّة خارج الوعظ والمباشرة.
أما «عطيل» فهو جزء من ثلاثية تعمل عليها الفرقة بعنوان «الطيف الأوروبي» بهدف إنتاج عمل ينطلق من العروض الحالية المبنية على نص «عطيل» لشكسبير إلى كتابة نصّ جديد خاص بالفرقة. تحاكي هذه العروض موقع أوروبا اليوم من الغرباء. علماً أنه بحسب غارو، فإنّ الموقف في أوروبا تجاه العربي اليوم بعد الثورات، إزدوج بين الرغبة بذلك الإنسان الذي عرف الثورات والحروب، والخوف من ذلك «الأصولي» الذي يريد دخول الديار الأوروبية. من بين تلك الثلاثية، سنشاهد في المعهد الفرنسي أيضاً عرض «محاسن الربيع» في ١٢ من الشهر الحالي (مترجم إلى العربية) الذي قدم في بغداد وفرنسا. لا يتناول العرض النص الشكسبيري هذه المرة، بل يستعير منه شخصيتي عطيل وديدمونة فقط. في سياق العرض، ستتم دعوة ممثل عربي وممثلة فرنسية لتجسيد الشخصيتين. لكن غياب المخرجين عن التمارين سيضع الممثلين في تصادم مليء بالأفكار النمطية التي تعشّش في الأعمال الفنيّة المراد منها الحوار بين الغرب والشرق، ما يثير مجدداً الأسئلة حول العلاقة بالآخر المبنية على الرغبة والخوف.
في «أفينيون»
تندرج عروض «دوزيو» في بيروت ضمن مشروع «أرصفة زقاق ٢٠١٤». إلى جانب تقديم «عطيل» و«محاسن الربيع»، سوف تقود المخرجة نتالي غارو ورشة للممثلين في «إستوديو زقاق» (١٧/ ١٨ أيار)، للعمل على البحث والإرتجال والكتابة حول مفهوم الأجنبي في أوروبا والغوص في العلاقات القائمة بين أوروبا والشرق. أما عرض «عطيل» الذي جال على مدن وقرى عدة في فرنسا، فسيقدم هذه السنة في «مهرجان أفينيون» ضمن مساحات موزعة في المدينة، بدعوة من مدير المهرجان الجديد أوليفيه بي. أراد الأخير توسيع المهرجان هذه السنة ليخرج من خشبة المسرح إلى ساحات المدينة.
-----
* «عطيل»: 20:30 مساء الغد ـــ و«محاسن الربيع»: 20:30 مساء ١٢ أيار ـــ المعهد الفرنسي في بيروت (طريق الشام)

* ورشة عمل مع المخرجة نتالي غارو، ١٧ و ١٨ مايو ــ «إستديو زقاق» (العدلية) ـ للاستعلام: 70/910339

----



«مترو المدينة» يخوض مغامرة الإنتاج

بفضل خطوته الجديدة، ينحو «مترو المدينة» إلى تكريس خشبته للإنتاج المسرحي. اليوم، تستقبل مسارح العاصمة العروض. وإذا استثنينا الأعمال الخاصة بمدرائها الذين يكونون غالباً مخرجين وممثلين، تكاد تغيب قدرتها على إنتاج عروض خاصة. دفع هذا بمدير المسرح إلى ملء ثغرات رزنامته السنوية وفق العرض والطلب في السوق، من دون أن يستطيع لعب دور المبرمج الفعّال الذي يختار العروض تبعاً لبرمجة مدروسة وخيارات فنية صائبة.
ولا يخفى على أحد أنّ الخيارات تخضع لأسباب لوجيستية، كتوافر الوقت وكلفة إيجار الخشبة. رغم ضيق مساحة «مترو المدينة»، والمحدودية التقنية التي يفرضها حجمه، مقارنة بخشبات المدينة الأخرى، إلاّ أنه يفرض بخطوته الجديدة مكانة أساسية له ضمن الإنتاج المسرحي في لبنان سيمكّنه من تقديم أعمال أنجزت خصيصاً لخشبته.
منذ انطلاقته عام 2012، تميز «مترو المدينة» بالقدرة على تقديم برمجة متنوّعة، ينتج بعضها ويستقبل بعضها الآخر. في الآونة الأخيرة، أنتج «المترو» عروض الكباريه، منها «هشك بشك شو» الذي يواصل تقديمه اليوم، كما استضاف «بيروت... الطريق الجديدة» ليحيى جابر وزياد عيتاني الذي ما زال مستمراً، فيما اختتم أخيراً «من الآخر» لعايدة صبرا.
جمهور «المترو» كان أيضاً على موعد مع حفلات موسيقية وعروض سينمائية وغيرهما من الأنشطة. نجاح البرمجة الذي يبرهنه امتلاء الصالة طيلة أيام الأسبوع، يعود سوى إلى سياسة مدروسة توفّق بين القيمة العالية للأعمال، والحرص على التوجه إلى شريحة واسعة من الجمهور. باختصار، تميّز هذا المكان بفريق برمجة فنيّة حقيقي. أما الخطوة الجديدة، فستؤمن إنتاج عروض جديدة يكون فيها «المترو» والفنانون شركاء في الإنتاج.
يقول المدير الفني لـ «المترو» هشام جابر لـ «الأخبار» إنّ «المكان راكم خبرة في كيفية إنتاج العروض المسرحية، وتنفيذها وتقديمها، وحان الوقت لمشاركتها مع الجمهور». هكذا، يفتح «مترو المدينة» باب الإنتاج المسرحي أمام المقيمين في لبنان، وللعروض ذات الميزانية المحدودة التي لا يتعدى فيها عدد الممثلين الأربعة. بالطبع، يبحث الفضاء عن مقترحات في مختلف أنواع عروض المسرح والرقص، شرط أن تكون ذات مستوى فنيّ جيد، وصالحة لتقدم على خشبته (وفق خصائصه اللوجيستية والتقنية). سيتابع جابر تطور المشاريع المنتقاة لتقدم على خشبة «المترو» أولاً، قبل أن يعمل على تقديمها على خشبات أخرى في المدن والقرى اللبنانية، وحتى في الخارج. ويشير هنا إلى تفصيل مهم: «ستكون «شركة مترو المدينة» شريكاً في الإنتاج مع أصحاب المشاريع المسرحية، فيتحمّلان سويّاً تبعات الربح أو الخسارة». إلى جانب إنتاج الأعمال الجديدة، يرحب «المترو» أيضاً بإعادة إنتاج أعمال سابقة تعدّى تاريخ إنتاجها ثلاث سنوات. هذه الخطوة المهمّة ستؤمن لـ «مترو المدينة» استمرارية وخصوصية، لعلّ المسارح الأخرى في بيروت 
تفتح باب التنافس على الإنتاج المسرحي في لبنان.



للتقدم بطلب :