«أورباكرافت»... معاً نعيد تصميم المدينة


ربيع كيروز ومارك بارود وساندرا داغر ونبيل غلام ومنى الحلاق غيبة ومروان رشماوي وشريف صحناوي ونديم كرم ونصري الصايغ وأبراهام زيتون وندى دبس ونادين لبكي وابنها وآخرون... انخرطوا في نظام تعميري مصغر ابتدعه قيصر عريضة وزوجته المنسقة الفنيّة سابين دو موسيون. معرض «مساحات بيروت اللامتناهية» يعكس ذلك الوعي تجاه طرح تصاميم مدينية معاصرة، وفي الوقت ذاته نقدية للواقع.
عندما لاحظ المعماري والمصمم المديني قيصر عريضة وزوجته المنسقة الفنيّة سابين دو موسيون أن طفلتيهما الصغيرتين تلعبان بأغراض توحي بأجواء هوليوودية أو إنكليزية، قررا خلق أدوات لعب أكثر التصاقاً بالواقع والحاضر. هكذا انطلق مشروع Urbacraft من حاجة شخصية إلى اختراع أدوات لعب تتوجه إلى الأطفال من عمر ٧ سنوات كما إلى البالغين والمحترفين.
«أورباكرافت» عبارة عن نظام تعميري مصغر (قياس نسبته ١ على ٦٤) يتألف فقط من وحدتين هما قطعتان تتداخلان لتشكلا مجسمات لمدن كاملة: أوربس (Urbs). بتشابكهما، تؤلف هاتان القطعتان حيطاناً عمودية وأرضيات وأسقفاً من مادة بلاستيكية غير مؤذية للأطفال. إلى جانب «أوربس»، توفر اللعبة عناصر «الكيتس» المؤلفة من أدوات لتركيب الواجهات والدرابزين وإضافة النباتات والأشخاص من مواد ورقية أو كرتونية. أما جميع تلك المواد، فتم تصميمها وتصنيعها في لبنان من دون الاستعانة بالمعامل الصينية كما هي حالة الألعاب المتوافرة في لبنان. 
عبر «أورباكرافت»، قصد قيصر وسابين الاعتماد فقط على قطعتي «أوربس» بسيطتي التصميم لأنهما أرادا تجنّب فخ الفولكلور وتأمين مواد تصميم لبيوت مع أسقف قرميد وقناطر، بل أرادا دفع التصميم نحو هندسة معمارية أكثر عالمية. محدودية شكل القطعتين تؤمّن معوقات أمام الاستسهال في بناء بيوت تقليدية، وتدفع اللاعب إلى تحديها من أجل التفكير في منطق معماري معاصر وأقرب إلى ما نشهده في مدننا اليوم.
لإطلاق «أورباكرافت» في لبنان، يقدّم قيصر عريضة وسابين دو موسيون معرض «مساحات بيروت اللامتناهية» في الطابق الثاني لـ«مركز بيروت للفن». يضمّ المعرض مجسمات وتصاميم صُنِعت بواسطة «أورباكرافت» من قبل معماريين وفنانين ومصممين. عمل بعضهم بمفرده أو مع أفراد عائلته الأطفال. من الأعمال المعروضة «درج إلى الجنة» للمصمم ربيع كيروز، ومشروع عمارة يمتد من كورنيش الروشة فوق المياه حتى فوق صخرة الروشة لـ «مكتب شارل حديفة للهندسة المعمارية» بعنوان «زدنا الاستثمار».
أيضاً، قدّمت نسرين خضر وناجي زهار مبنى يرتفع فوق وحول صخرة الروشة فيما نرى أشخاصاً يقفزون من المبنى إلى المياه للسباحة أو الانتحار. أما المشروع فيحمل عنوان «شركة بلّوطة العقارية القابضة تقدّم تحت قدميك وفي متناول يديك»، كتهكم على المشاريع الاستثمارية التي تستولي على الأملاك البحرية العامة، آخرها المشروع المزمع إقامته في منطقة الدالية. أما مارك بارود وساندرا داغر، فقاما بتوزيع مرايا داخل عمارتهما، ما خلق وهماً شيقاً في المنظور. وقدم المعماري نبيل غلام مجسماً لمبناه «بلاتينيوم تاور» المقابل لـ «فندق فينيسيا». في المقابل، قدمت ماريا غروب «مبنى عاماً أتوبياً لمدينة بيروت»، وأرزة لمنى الحلاق غيبة، بالإضافة إلى مشاركة آخرين كمروان رشماوي وشريف صحناوي ونديم كرم ونصري الصايغ مع أبراهام زيتون، وندى دبس... معظم تلك التصاميم تضعنا أمام إحتمالات لا تحصى يمكن صنعها من تلك القطعتين. وبما أنّ المدعوين لتصميم وتنفيذ تلك المجسمات بواسطة «أورباكرافت» من المعماريين والمصممين والفنانين المحترفين، ومعظمهم من العاملين أو الناشطين في مجال الهندسة المدينية، نلاحظ ذلك الوعي تجاه طرح تصاميم معمارية وهندسة مدينية معاصرة، وفي الوقت ذاته نقدية للواقع. لكن هل فعلاً «أورباكرافت» دفعتهم إلى ذلك التوجه أم أنّها خلفياتهم واهتماماتهم الشخصيّة بفارق النظر عما تقدمه أولاً «أورباكرافت»؟ يقول مخترعا اللعبة أنّهما يعتقدان بأنّ ««أورباكرافت» مثاليّة لجعل الجيل الجديد أكثر تحسساً بمدنيّته وبيئته ودوره في تحسينها». لكن المشارك الوحيد من الجيل الجديد في المعرض هو وليد مزنر ذو الخمس سنوات الذي صمم ونفّذ مع والدته المخرجة نادين لبكي «محطة أم وليد». إنه المجسم الوحيد الذي تزينه الألوان واستُعملت في تنفيذه أصابع شوكولا وحلويات. تظهر فيه بيوت صغيرة بسقوف قرميدية، وقطار ومحطة. مجسم يعيدنا إلى ما اعتاد الأطفال تصنيعه بواسطة أي لعبة تركيب أخرى أكانت «الليغو» التقليدية أم غيرها من الألعاب الأكثر تعقيداً. لكنّها هنا منفذة بواسطة «أورباكرافت». هل فعلاً «أورباكرافت» تطرح تحدياً مختلفاً أمام الجيل الجديد وتحثّه على التفكير أكثر في مدنيّته وبيئته ودوره في تحسينها؟ أم أنّها فقط لعبة تضاف إلى سلسلة ألعاب التركيب العالمية الأخرى، لكنها هذه المرّة لبنانية التصميم والتنفيذ؟
* «مساحات بيروت اللامتناهية»: حتى 5 تموز (يوليو) ــ «مركز بيروت للفن» BAC (كورنيش النهر) ـ للاستعلام: 01/397018
* تقام اليوم ورشة عمل تحت إشراف رين محفوظ وزياد حلواني بعنوان «هيا نحتل أورباكرافت» (من الساعة الثالثة حتى الخامسة). وسيبني المشاركون حيّاً صغيراً بواسطة «أورباكرافت»، ثم سيتخيلون مشاهد من حياتهم اليومية داخل هذا التصميم. وستلتقط كاميرا «نوماديم ستودي» لمحفوظ وحلواني هذه المشاهد.


ادعموا مسرح «زقاق»... صناعة محلّية 100%


في عام 2006، انطلقت تجربة كان أبطالها خريجون من «معهد الفنون الجميلة» فاحتلت مكانتها على الساحة، وقدّمت مسرحاً لبنانياً معاصراً تقوده ممارسة تميزت بالتزامها السياسي والاجتماعي. بعد ثماني سنوات، تواصل هذه الفرقة التوسع في المشاريع والرؤى. وهي تدعوكم بعد غد للمساهمة في ضمان استقلاليتها عن أجندات صناديق الدعم الرسميّة والخاصة.
إنه عام ٢٠٠٦. مجموعة من الأصدقاء من خريجي «معهد الفنون الجميلة» (قسم المسرح ـ الجامعة اللبنانية) اجتمعوا واتفقوا على أنهم لا يريدون العمل في قطاعات التلفزيون أو الإعلانات أو الإنتاج. ما يهمهم كان المسرح، وكي لا ينتظروا مخرجاً هنا أو هناك لدعوتهم للمشاركة في عمل مسرحي، أسّسوا فرقة، فكانت «زقاق» التي أبصرت النور على يد: لميا أبي عازار ودانيا حمّود ومايا زبيب وجنيد سري الدين وعمر أبي عازار وكاتب هذه السطور، قبل أن ينضم هاشم عدنان لاحقاً إلى الفرقة. كما كانت هناك وما زالت مجموعة من الأصدقاء الملتفين حول الفرقة مثل مايا الشامي ورندا ميرزا، ممن أسهموا في دعم أنشطة الفرقة حتى اليوم.
انطلقت الاجتماعات الأولى في منازل الأعضاء إلى أن استطاعت الفرقة استئجار استديو متواضع في منطقة العدلية في بيروت، فتحول إلى مركز الاجتماعات والتمرينات وإقامة الورش، وغرفة تستقبل ضيوف الفرقة في إقاماتهم الفنيّة. في بادئ الأمر، نشطت الفرقة في تنظيم وإدارة وتنشيط المداخلات النفسية/ الاجتماعية بإدارة لميا أبي عازار المتخصصة في المجال عقب حرب تموز ٢٠٠٦، ثم في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين على جميع الأراضي اللبنانية، وعقب تدمير مخيم نهر البارد ونزوح أهله إلى مخيم البداوي. مداخلات ما زالت الفرقة تجريها حتى اليوم، منها في السجون اللبنانية، ومع مختلف الجمعيات المدنية. تلك الأنشطة كانت تؤمن لأعضاء الفرقة بعض الدخل الذي يسمح لهم بالتفرّغ للبحث والعمل الفني. لكن المرحلة المفصلية كانت في الإقامة الفنية التي انخرطت فيها الفرقة لمدة شهر بين قرية في كتالونيا وأخرى في الباسك في إسبانيا. هناك، بدأ التوجه الفني للفرقة يتخذ مساراً أوضح، وتبلورت فكرة العمل الجماعي المسرحي الذي يقوده في كل مرّة مخرج أو اثنان من الفرقة بالتداول. إثر تلك الإقامة، بدأ العمل على عرض «هاملت ماكينه» (٢٠٠٩) الذي أخرجه عمر أبي عازار، ثم كرّت السبحة. واتفقت الفرقة منذ البدء على إنتاج أعمال جماعية، وإفساح المجال للأعضاء لإنتاج أعمالهم الخاصة المدعومة من الفرقة مثل «علبة الموسيقى» (٢٠٠٨) لمايا زبيب، وعرض الرقص «محلّي» (٢٠١١) لدانيا حمّود. وفي جميع تلك الحالات، حافظت المجموعة على انفتاحها على التعاون مع فنانين خارج الفرقة، مثل عرض الرقص الأخير لدانيا حمود «يداي أكبر سناً منيّ» (٢٠١٤) الذي تعاونت فيه مع خلود ياسين ومنذر بعلبكي، وقدم أخيراً في باريس.
لا شكّ في أنّ «زقاق» كرسّت اليوم مكانتها ضمن المسرح اللبناني الحديث. والأهم أنها أثبتت بعد ٨ سنوات من العمل أنّ منهج الفرقة المسرحية ما زال ممكناً وصالحاً ومثمراً، في وقت يعاني المسرح اللبناني من قلة الإنتاج والتحديث. خلال السنوات الأخيرة، حدّثت الفرقة في المسرح اللبناني، لناحية أسلوب توليف النصوص والإخراج، ضمن المنهج المسرحي الذي ما زال يستند إلى عناصر كلاسيكية مثل الممثل، الشخصيات والنص الدراميّ والحائط الرابع (وكسره). وإذا كانت تجربة الثنائي ربيع مروّة ولينا صانع تعتبر من أهم التجارب في المسرح اللبناني الحديث مع الثورة على المسرح الكلاسيكي واقتراح قالب عرض المحاضرة، فإنّ «زقاق» تقدم مسرحاً لبنانياً معاصراً جديراً بالتوقف عنده عبر العناصر الكلاسيكية للمسرح. في مثل هذا التاريخ العام الماضي، توجهنا إلى مقهى «ة مربوطة» لدعم «زقاق». وهذه السنة أيضاً، تدعونا الفرقة إلى دعمها في مقهى «مزيان» الجديد. سياسة يعتمدها العديد من الفرق العالمية سنوياً بهدف تأمين بعض الدعم المادي من جمهور الفرق المسرحية، ما يضمن استقلاليتها عن أجندات صناديق الدعم الرسميّة والخاصة. إذاً، لقاؤنا يوم الاثنين مع «زقاق» في «مزيان» حيث سنشاهد عروضاً قصيرة من أعمالها في «مزيان»، وندعم مشاريعها وخطواتها نحو سنة جديدة، ونكون ضمن مجموعة الممولّين الأصدقاء.
هو الذي رأى كل شيء
إثر دعم «زقاق» العام الماضي، تمكنت الفرقة من إنتاج عروض «أليسانة، تدريب على الطاعة» عن نصّ إبسن، و«فصول مدرسيّة» الذي قدم على خشبات المدارس، وعرض «جنّة جنّة جنّة» الذي ما زال يقدم في المدن والقرى اللبنانية. كما انطلق مشروع «أرصفة زقاق» الذي استقبل في كل شهر من 2013 فناناً عالمياً جديداً، ضمن إقامة فنيّة يقدم فيها عرضاً مسرحياً أو أكثر، ويدير ورشة مفتوحة للراغبين. وأخيراً شاركت الفرقة في ورشة عمل، نتج منها عرض «هو الذي رأى كل شيء» لمايا زبيب وعمر أبي عازار وقدِّم في أحد أعرق المهرجانات المسرحية العالمية، أي «مهرجان لندن الدولي للمسرح».
«حفل، حفلة، احتفال» برنامج دعم «زقاق» في سنته الثانية: 19:00 مساء الاثنين 30 حزيران (يونيو) ـــ مقهى «مزيان» (بناية راسامني ـ شارع الحمرا ـ بيروت)

حرب الآخرين على أرضنا؟


للوهلة الأولى، وعند دخولك صالة معرض إيلي أبو رجيلي في «المعهد الفرنسي في بيروت»، تخال نفسك تدخل مقبرة أو قاعة تنتظر فيها التوابيت موعد الدفن. لكنها هنا معلّقة في حالة انتظار. ٢٤ صندوقاً خشبياً، وزعت في القاعة بشكل متوازٍ ومرفوعة عن الأرض على طاولات. داخل هذه تلك الصناديق (ما عدا واحداً)، تجد في الوسط قناعاً شفافاً وملوناً، وعلى يمينه ويساره مادتان: الأصل والمتحول (مياه/ ملح ــ خشب/ أقلام رصاص ــ حبر/ نصوص على ورق...).
فوق هذه الصناديق الـ ٢٣، ترتفع قصبة تحمل مستطيلاً بداخله مرآة أمامية وأخرى خلفية. أما في الصندوق الـ ٢٤، فلا مرآة ترتفع فوقه، بل هي موضوعة داخل الصندوق. في مواجهة تلك الصناديق، على حائط المعرض جدارية كبيرة تغطيها آثار عجلات ملونة مرّت عليها، وفي أسفلها رسم الفنان وجهه وأقنعة أخرى. وقدم في الغرفة الداخلية للمعرض فيديو عن اختلاط المواد، والذاكرة، والهروب.
في كتيب صادر مع المعرض، قدم إيلي أبو رجيلي نصاً يعلن فيه عدم مسؤوليته عن أي شيء. الحديث عن المسؤولية هنا يقع في إطار الحرب الأهلية اللبنانية. أبو رجيلي المولود عام ١٩٦٠ في شارع غندور سمعان في منطقة عين الرمانة، عاش وكبر في المنطقة التي شهدت اشتعال الحرب الأهلية مع حادثة بوسطة عين الرمانة. تلك البوسطة التي تركت أثر عجلاتها على حياته، وعلى الجدارية التي تملأ فضاء المعرض. أما عن تلك الأقنعة الموزعة في الصناديق، فيقول أبو رجيلي إنّه أرادها شفافة لأنها عديمة التأثير، بل تعكس أفعالاً ليست مسؤولة عنها. تبقى تلك الأقنعة بألوانها المتعددة مجهولة الهوية. لا تجسد أحداً، لكنها أيضاً تمثّل الجميع، من مات ومن نجا، ومن مات وهو ما زال حياً في الجسد. أما المواد التي وزعها على يمين الأقنعة ويسارها، فتجسد مسار الحياة التي تخترقها حرب، من الأصل إلى المتحول، ليتساءل: «ماذا فعلت في حياتك في ما بعد؟ هل مثالك هو البناء أم الرماد؟ التفكك أم التجميع؟». عبر تلك المرايا في كل مكان، تجد صورة وجهك منعكسة في تلك المرتفعة فوق الصندوق، وصورة مؤخرة رأسك منعكسة في مرآة أخرى فوق صندوق خلفك. مواجهة مفروضة عليك أينما تحركت بين تلك الصناديق داخل المعرض، إلى أن تصل إلى الصندوق الأخير، حيث تنعكس صورة وجهك داخل الصندوق كأنه سيطبق عليها ليحبسها بداخله إلى الأبد. داخل صناديق ذخائر كانت بالأمس تحمل الموت. أما اليوم فأصبحت تحمل ذكرياته.
المادة الأصل، وتلك المتحولة، أقنعة، وآثار العجلة، جميعها مواد حرب يدعونا عبرها إيلي أبو رجيلي إلى مواجهتها في المرآة وفي حياتنا وذاكرتنا. لكن عن أي مواجهة يتحدث حين يعلن أنه غير مسؤول، ورافض للأحكام؟ ألا يعيدنا رفض المسؤولية تلك إلى خطاب «حرب الآخرين على أرضنا» الذي يعفينا من المواجهة؟ لا إنها ليست عجلات بوسطة عين الرمانة التي رسمت انطلاق الحرب، وليست «البوسطة تابوت براءتنا»، بل إنه الرصاص الذي أطلقته أيدينا على تلك البوسطة ومن فيها. نعم كلنا مسؤولون. حتى من ولد بعد الحرب الأهلية مسؤول عن استمرارها، في ظلّ ذلك الانتهاء الوهمي للحرب. لا لسنا ضحايا، بل نحن الجلادون، ونحن من نرقص اليوم فوق المقابر الجماعية، وعلى أنغام أحزاننا، ونرفع مجرمينا فوق أكتافنا.
أما حروبنا الأهلية، وذاكرتنا ومسؤوليتنا، فلا تواجه على الأراضي الفرنسية. كيف لفنان أن يقدم معرضاً سياسياً يعلن فيه عدم مسؤوليته عن حرب شعبه، أن لا يتنبّه إلى خيار سياسي في مكان تقديم المعرض؟ أليس حريّاً بابن منطقة عين الرمانة ومدير قسم الفنون التشكيلية في «معهد الفنون الجميلة» في الجامعة اللبنانية في فرن الشباك التي شهد مبناها الحرب أن يختار مكاناً أكثر التصاقاً بسياق المعرض وبجمهوره؟ تلك ليست تفاصيل لوجستية صغيرة. كما أنّ الكتيب المرافق للعرض والمنشور باللغة الفرنسية فقط والمتضمن لنصوص مكمّلة للمعرض ليس خياراً عفوياً.
قد يختلف كثيرون مع الفنان وليد صادق في مقاربته الفنيّة والفلسفيّة للحرب الأهلية اللبنانية، ولكنه في خياراته الفنيّة والسياسية واللوجيسيتية يعلم من يخاطب وكيف. أما الفنان إيلي أبو رجيلي فقد اختار إعلان عدم مسؤوليته عن حربه الأهلية باللغة الفرنسية وعلى أرض فرنسية، ربما تلك ليست مصادفة، وإنما خيار سياسي.
«ذاكرة 75»: حتى 27 حزيران (يونيو) الحالي ــ «المعهد الفرنسي في بيروت»، للاستعلام: 03/498051

جوان باز : رحلة (مركبة) إلى فلسطين


في دردشة مع والدة الفنانة جوان باز، تقول سميرة باز إنّه عندما تصفحت الكتيب الذي صدر مع العدد الأخير من مجلة The Outpost، لم تتخيل أنّه من هذا الكتيب الصغير، والبسيط بمفرداته ورسوماته، يمكن إنتاج ذلك المعرض بتفاصيله كلها. ما لم تعرفه والدة باز، أنّها تلك هي الحالة في «دار قنبز» مع نادين توما وسيفين عريس، حيث كل تفصيل يتحول مادةً شيقة للاستكشاف، وطبعاً بتنفيذ وتقنية عالية، فكيف لو كانت تلك التفاصيل متعلقة برحلة مركبة إلى فلسطين مع جوان باز؟
ضمن «أسبوع بيروت للتصميم» في منطقة «الصيفي فيلاج»، حطت باز و«دار قنبز» رحالهما في معرض «ذهبت أبحث عن فلسطين فوجدت». في البداية، يستقبلك كتيّب أرقام حيث تخصّص باز لكل رقم (من الواحد إلى العشرة) رسومات لأشياء وجدتها خلال رحلتها بحثاً عن فلسطين. وانطلاقاً من مقولة محمود درويش «السخرية تساعدني على تخطّي قساوة الواقع الذي نعيشه»، أعادت جوان تسمية ما وجدته في رحلة البحث تلك ضمن قالب ساخر يجعلنا نعيد التفكير في تفاصيل تعدّ من المسلّمات. هكذا تحولت الألغام الإسرائيلية إلى «ألعاب» في إشارة إلى أشكالها التي قصد عبرها الإسرائيلي إغراء الأطفال للعب بها. وبذلك، تحولت الأشلاء وأطراف الأجساد المبتورة إلى «أخطاء». أما الدبابات الإسرائيلية المهزومة والموجودة في الجنوب اللبناني، فتحولت إلى «آثار». من ذلك الكتيب، استوحت باز تجهيزاً فنياً يحمل عنوان «حائط». في الحائط الخشبي الموجود وسط الصالة، عشرة ثقوب صغيرة تدعونا إلى النظر عبرها إلى عشرة فيديوهات. وإلى جانب كل ثقب طابعة حبرية تحمل رسم أحد الأشياء المذكورة في الكتيب، وعلى المتفرج طبع الرسم على الحائط جنبه كلما شاهده يعبر في الفيديو. ذلك الحائط مع فيديوهاته الملتقطة بأسلوب Road Movie أشبه بصندوق فرجة يرينا عالماً بعيداً منا.
إنه الجدار الذي يفصلنا عن فلسطين. لكن مجرد أن نعبره إلى الغرفة الثالثة، تتضح لنا الشاشة التي تعرض الفيديوهات مجتمعة، لنعود ونتنبّه إلى عبثية قرب الأراضي الفلسطينية منّا، وعدم استطاعتنا زيارتها. في المساحة الثالثة التي تحمل عنوان «محلّ تذاكر»، تتوافر أغراض من تجهيز «دار قنبز» وباز منها قماش قطنيّ أبيض مع خيارك من الطبّاعات الحبريّة لصنع كوفيّتك الخاصة. كذلك، هناك مربعات تطريز، استندت الدار في تصميمها إلى أسلوب التطريز الفلسطيني، واعتمدت فيها رسومات جوان باز، فنتج منها «طرز قانا» و«الأرملة» و«بوابة فاطمة» و«مارون الراس»، بالإضافة إلى بطاقات بريدية، وملصقات مغناطيسية، وحتى كعكات على شكل دبابات إسرائيلية لأكلها! ما يميز «ذهبت أبحث عن فلسطين فوجدت»، هو استعماله مفردات السفر وما يصادفنا خلال تلك الرحلة المركبة نحو فلسطين في قالب قد يبدو ساخراً أو عنيفاً، لكنه يحدث تلك الصدمة التي تجعلنا نعيد التفكير في مسلمات حفظناها.
«ذهبت أبحث عن فلسطين فوجدت» حتى بعد غد الاثنين ( من الساعة ١١ صباحاً حتى ٧ مساءً) ـ صيفي فيلاج، «غاليري مقام» سابقاً





ساندي شمعون - بوتيكات






بوتيكات 
بصوت ساندي شمعون 
عن الشيخ إمام عيسى
كلمات : أحمد فؤاد نجم 


عود : عماد حشيشو 
عود : أحمد عمران 
أكورديون : سماح أبي المنى
إيقاع : أحمد الخطيب 

من سهرة " أفراح وأحزان القرد" في مترو المدينة 

قادر عطية لا يتنكّر لندوب بيروت



في «صراع الطبيعة» الذي يحتضنه «مركز بيروت للفن» يميّز الفنان الجزائري بين كيفية فهم وممارسة الترميم لدى الغرب الحديث والحضارات القديمة غير الغربية. نقاش يصبّ مباشرة في إشكالية إعادة الإعمار في العاصمة اللبنانية بعد الحرب.
يستقبلك طائر القيثارة في الغرفة الأولى، مقلّداً الأصوات الدخيلة على عالمه، ليعيد تقليد تلك الأصوات العدوّة في «محاكاة كفعل مقاومة». على سطوح صفائح مدينة القصبة، تسير إلى الغرفة الثانية. وكما استلَفَ عمال جزائريون بعض مواد البناء التالفة من مشاريع سكنية استعمارية وبنوا مدناً عربيّة بربرية، مرمّمين مساكنهم، لتتحول إلى عشوائيات مثالية، استلف الفنان أيضاً الصفائح وألواح الخشب، والدواليب ومواد أخرى من بيروت وضواحيها ليبني تجهيزه الفنيّ «القصبة». في الغرفة الثالثة، متحولون جنسياً يرممون أجسادهم بحثاً عن هويتهم الخاصة، وحضارات أفريقية قديمة ترمم أدواتها وأقنعتها، وأطراف اصطناعية ترمم جسد الإنسان، وأطباء يرممون وجوهاً تضرّرت بعد الحرب العالمية الأولى، وغرب يرمم صورة مستعمراته، ومستعمرات سابقة ترمّم صورتها عند الغرب، وأخيراً تصدُّع في أرضية «مركز بيروت للفن» يرمّمه قادر عطية (1970).
شغل مفهوم الترميم، الفنان الجزائري الفرنسي المقيم حالياً في برلين، حيث كرّس له اهتماماً وأبحاثاً طويلة في علم الفلسفة والتاريخ والهندسة المعمارية. قدّم نتاجاته في معارض عدة حمل آخرها عنوان «ترميم: خمسة فصول» (أيار/ مايو 2013) في برلين. انطلاقاً من عمله «المحاكاة كفعل مقاومة» الذي اختتم به معرضه الأخير، يفتتح اليوم معرضه الفردي الجديد في «مركز بيروت للفن» تحت عنوان «صراع الطبيعة» (الصراع بين الطبيعة الأم والطبيعة الإنسانية).
يطرح قادر عطيّة في معرضه البيروتي زاوية مختلفة لمقاربة الترميم، أكان عبر مظاهر طبيعية أم عبر الهندسة المعمارية وصولاً إلى جسد الإنسان. يستند الفنان في أبحاثه إلى مراجع عدة مثل راسل والاس وداروين ودي أندرادي وفرانز فانون وسيمونيه ولو كوربوزييه وغيرهم. لن نقدم هنا وصفاً للمعرض أو تفسيراً اختزاليّاً لجهود طويلة ولطروحات معقدة، خصوصاً أنّ الفنان وفّر لزوار المعرض نصاً يقدّم عبره شرحاً مفصلاً لجميع الأعمال المعروضة، ويوضح السياقات والمراجع المرتبطة بكل عمل. لكن انطلاقاً من المعرض الذي اختار الفنان إقامته في بيروت تحديداً، لا بد من أن نحاول تقديم قراءة موازية للمعرض انطلاقاً من هذه المدينة، مدينة الترميم بامتياز.
في معرضه، يميّز عطية بين كيفية فهم وممارسة الترميم لدى الغرب الحديث ولدى بعض الحضارات القديمة غير الغربية. «يفسّر الغرب الحديث الترميم وفق الأصل اللاتيني للكلمة (reparere)، أي العودة إلى الحالة الأصليّة. بعض الثقافات غير الغربيّة تعتمد مفهوماً معاكساً. عندما تكسر قطعة أثرية، على الترميم أن يبقى بارزاً». مقاربة الترميم في الغرب الحديث ليست سوى نتيجة مفهوم «الحداثة الغربية» التي ترى طلاقاً بين الطبيعة والثقافة. وبذلك تتحدى الطبيعة في الانتصار على التلف، وإعادة الشيء إلى شكله الأول، مخالفة المجرى الطبيعي للأمور. ذلك الطلاق «الحداثي» الغربي بين الثقافة والطبيعة ينتقده بشدّة الفيلسوف الفرنسي برونو لاتور في كتابه «لم نكن حداثيين أبداً»، ويتفق معه قادر عطية، وعليه يبني معرضه. «التلف مصير كل مادة، وإرادة الإنسان بإعادة شكلها الأول أمر يخالف المجرى الطبيعي للأمور: إنّها منافية للطبيعة». أما عند الحضارات القديمة غير الغربية، وفي صور فوتوغرافية يقدمها عطية في معرضه، نلاحظ اعتماد الترميم الظاهر لأقنعة وأشياء أخرى، ما يحفظ أثر الضرر ولا يتنكّر له. يصبّ الترميم هنا في التطبيق العملي، والتأقلم مع البيئة.
من الواضح أننا في لبنان، وفي بيروت تحديداً اخترنا المنهج الغربي، والصدام مع الطبيعة. أعدنا ترميم الوسط التجاري ليعود كما كان، وبذلنا جهداً كبيراً لإخفاء جروح حرب شهدتها المدينة، وتركت أثرها على هندستها المعمارية. والملاحظ أننا فشلنا فشلاً ذريعاً في التأقلم مع بيئتنا، خصوصاً عندما أعدنا ترميم العمارة في وسط بيروت لتعود إلى سابق عهدها، كأنّ حرباً لم تحدث. ثم أضفنا عمارات أخرى تشبهها في الشكل، تبدو كأنّها مرممة، لكنها في الواقع عمارات حديثة. أما المباني التي تم الحفاظ عليها ضمن حالتها المتضررة، فلم نجد سبيلاً حتى اليوم إلى ترميمها بطريقة لا تلغي الماضي، بل تعيد استيعابه ضمن الحاضر. لذلك بعد مرور ٢٤ عاماً على انتهاء الحرب، لم نجد الوسيلة لترميم عمارات مثل «سيتي سنتر» وبرج المر و«هوليداي إن». حتى أنّ الشارع الذي يجمع «هوليداي إن» و«فندق فينيسيا» كان يمكنه ببساطة أن يكون جزءاً من معرض «صراع الطبيعة» لقادر عطية. رُمّم «فندق فينيسيا» ضمن سياسة إعادة وصله بما يسمّى الفترة الذهبية لبيروت، مع تجاهل حقبة الحرب التي مرّت عليه. وبدلاً من أن نجد حلاً لترميم «الهوليداي إن» بطريقة ملائمة لتاريخ المبنى، فقد أعلن أخيراً عرضه للبيع في المزاد العلني، وترك مصيره معلّقاً بيد المالك الجديد الذي يمكنه هدمه في أي لحظة. إعلان صارخ لفشلنا في التأقلم مع بيئتنا، ولصراعنا مع الطبيعة. ذلك المنطق في الترميم اعتمدته الدولة اللبنانية بأسرها، امتد من العمارة إلى المنهج السياسي والاجتماعي عبر إصدار «قانون العفو العام» عن الجرائم المرتكبة خلال الحرب الأهلية، وعبر سياسة «دعونا ننسى الماضي». سياسة ولدت في صراع مع الطبيعة، وولدت أجيالاً جديدة أكثر طائفية وتطرفاً، وأكثر جهوزية قابلية لإشعال حرب أخرى.

ما الحلّ إذاً؟ يستند عطية في أعماله إلى دعوة الشاعر البرازيلي اوزوالد دي أندرادي إلى تفكيك إرث المستعمر للتخلص منه. في بيروت، علينا تفكيك إرث الحرب للتخلص منه. وكما يقول عطية «ليس الترميم غاية بحدّ ذاته، بل يربطنا بما لا يمكن ترميمه، بما يبنينا ويتفلت منا». إن إخفاء أثر الترميم لا يبني سوى قطيعة مع الطبيعة ستكون آثارها أكثر سلبية في المستقبل. أما الترميم الظاهر والتأقلم مع الضرر فحاجة مرحلية للعبور إلى بيئة سليمة في المستقبل.

«صراع الطبيعة» لقادر عطية: حتى ٢٢ آب (أغسطس) _ «مركز بيروت للفن» (جسر الواطي). للاستعلام: 01/397018

«هوليدي إن» خير ممثل لبرنامج «آفاق»

#khelfie

وصلنا إلى المدخل الأعلى لمبنى «هوليدي إن» حيث كان ينتظرنا فريق «آفاق» وبعض عناصر الجيش اللبناني. اجتزنا الطابق الأرضي، ووصلنا إلى الباحة الأمامية، حيث «سان شارل سيتي سنتر». هناك اختارت «مؤسسة آفاق» إقامة مؤتمر الإعلان عن الفائزين بمنح «برنامج التصوير الفوتوغرافي الوثائقي العربي 2014».
خلال انتظار بدء المؤتمر، كان الجميع مشغولاً بتفقد المبنى الشهير، أو رافعاً هاتفه لالتقاط صور في فرصة نادرة ومهدّدة. إحساس غريب وأنت تقف في تلك الباحة أمام أحد أشهر بل أفظع المباني في بيروت. من هنا، من الطوابق العليا، اصطاد القنّاصون ضحاياهم في الشوارع المحيطة. إنه الفندق نفسه الذي شهد حرب الفنادق، إحدى أبشع معارك الحرب الأهلية. اليوم، يتخذه الجيش قاعدة عسكرية، كما فعل ببرج المرّ، ويمنع دخوله من دون إذن. جميع تلك الصور كانت تعود إلى الأذهان، فيما فرقة تعزف الجاز خلفنا. علماً أنّ جريدة «دايلي ستار» أوردت أخيراً أنّ أصحاب المبنى سيعرضونه في المزاد، ما يعني أنّ شخصاً سيضع يده على «هوليدي إن» ليكون قرار ترميمه أو هدمه بيده وحده. وإذ نأمل من المالك الجديد ترميم المبنى عبر مقاربة تحافظ على الذاكرة الجماعية لبيروت، نتمنى أيضاً أن يقصد معرض قادر عطية في «مركز بيروت للفن» الذي يتخذ من مفهوم الترميم ركيزته (راجع المقال أعلاه).
في انتظار وضوح مصير الفندق، كان خيار «آفاق» بإجراء المؤتمر هنا إطاراً مناسباً للحديث عن الصورة التوثيقية، أمام مبنى يوثق للحرب الأهلية. بالتعاون مع «صندوق الأمير كلاوس» و«مؤسسة ماغنوم»، أعلنت «آفاق» عن برنامجها الذي أطلق في كانون الثاني (يناير) 2014. يدعم هذا البرنامج مشاريع التصوير الوثائقي في العالم العربي عبر تأمين منح للإنتاج، وورشتي عمل تقامان في بيروت والقاهرة، وبرنامج توجيهي للإشراف على مشاريع الفائزين.
خلال الدورة الأولى للبرنامج هذه السنة، تلقى المنظمون 84 طلباً من 16 بلداً. أما عدد الفائزين فكان 10 هم: أميرة الشريف (اليمن) وإيمان بدير (مصر) وفيصل الفوزان (الكويت) وحمادة الرسام (مصر) ومحمود النجمي (مصر) ونتالي نقاش (لبنان) وعمر إمام (سوريا) وريم فلكاناز (الامارات) وسمر حازبون (فلسطين) وزارا ساميري (المغرب). خلال المؤتمر، استعرضت اللجنة المشاريع الفائزة التي بدت واعدة تطال مواضيع مهمة منها نضال النساء في اليمن، التحرش في مصر، ظروف عيش العمال الأجانب في الكويت، اللاجئون السوريون في لبنان، قصص الفلسطينيات اللواتي يرغمن على الولادة على الحواجز الاسرائيلية...
عبر هذا البرنامج، يواصل صندوق «آفاق» توفير الدعم للفنانين العرب العاملين في الوسائط الفنية. علماً أن «آفاق» أطلقت أخيراً برنامج «تمويل المبادرة والإبداع في العالم العربي» الذي يدعو المستثمرين العرب إلى دعم صندوق «آفاق» كي تنتج 50 مشروعاً ثقافياً في العالم العربي.

علي شحرور: الجسد في مواجهة الأصوليات


بعد النجاح الذي شهده عرض «فاطمة» قبل أشهر، ها هو الكوريغراف والراقص اللبناني يعيد تقديمه غداً وبعده في «مسرح المدينة». مع رانيا الرافعي وأمامة حميدو، يبحث الثلاثي الذي ينتمي إلى جيل ما بعد الحرب الأهلية في حياة نساء التصق الألم بسيرهن. إنّه أيضاً حركة مقاومة للظلاميات المتنامية في العالم العربي.
يعيد الكوريغراف علي شحرور مساء الغد وبعده تقديم عرضه الأخير «فاطمة» مع رانيا الرافعي وأمامة حميدو على خشبة «مسرح المدينة» (30/12/2014 ). قدم العمل للمرة الأولى على الخشبة ذاتها في شهر كانون الثاني (يناير)، واليوم تعود الفاطمتان إلى الرقص فوق الركح بعدما امتلأت صالة «مسرح المدينة» بالجمهور خلال العروض السابقة. لذا، جاء عرض الغد وبعده تلبيةً لرغبة مَن لم تسنح له فرصة الاحتفال بجسد المرأة الفاطمية آنذاك.
امرأتان تستمدان من آلام نساء الأرض نبضاً لحركة جسدهما المتشح بالسواد على الخشبة. من مراسم العزاء واللطم إلى مراسم الفرح والرقص، يستعير الثلاثي (الكوريغراف والراقصتان) حركة جسد المرأة المتحرر من قيود المجتمع الشرقي المتحفظ. وإذا كنا قد أشرنا سابقاً إلى أهمية تطور كوريغرافيا علي شحرور التي غاصت في بحث أنضج حول حركة الجسد المشرقي، وهو اليوم يحضّر لعرض جديد بعنوان «عتب» يتمحور حول مراسم الاحتفال بالشهادة، فإننا اليوم سوف نتوقف عند نوع الطرح الفنّي ضمن السياق الاجتماعي.
لا يخفى على أحد أنّ عدداً من الجمهور توجه إلى «مسرح المدينة» يوم العرض الأول لـ«فاطمة»، منتظراً أن يشاهد عرضاً عن فاطمة الزهراء ابنة الرسول وزوجة الإمام علي، وما لذلك الاسم من وقع في الثقافة الإسلامية. وبالفعل، لم يعمد شحرور إلى تضليل الناس. اختيار عنوان العرض ولد من الأبحاث التي أجراها الثلاثي حول أشهر النساء في التاريخ اللواتي لازم الألم سيرهن. وإذا كان البحث قد شمل نساء أخريات مثل ميديا وأنتيغونا وإلكترا، وصولاً إلى أم كلثوم، واستُلهمت المواقف والأحاسيس من سيرهن، إلا أنّ الخيار وقع على اسم «فاطمة». وإذ يبدو ذلك الخيار بديهياً نسبة إلى لغة الجسد الشرقية في العرض، ما يحول أمام إطلاق اسم إغريقي على أولئك النساء، إلا أن في ذلك الخيار ما هو أبعد من ذلك.
الفاطمتان على المسرح تنطلقان من اللطم: حركة مستقاة من المراسم الشعبية/ الدينية في العزاء والتعبير عن الحزن، إلى الرقص البلدي على أغنية «ألف ليلة وليلة» لأم كلثوم (ألحان عبد الوهاب)، ثم العودة إلى الموت والعزاء في المشهد الأخير، مع اختتام العرض بـ «الفاتحة». ببساطة، يمكننا أن ندعي أنّ اسم فاطمة شائع في العالم العربي، ولا يمت بصلة لأي شخصية دينية، وكلمة «الفاتحة» لا يمكن حصرها بسورة الفاتحة في القرآن، بل قد تكون فاتحة لقراءة ما بعد العرض. لكن ذلك التبسيط يفقد الكثير من الطرح السياسي/ الاجتماعي الذي يحمله العرض. لجوء الثلاثي إلى اعتماد مراجع دينية إسلامية في العرض ضمن ما نعيشه اليوم في العالم العربي من صعود للحركات الأصولية والتكفيرية، يمكن قراءته كمقاربة مغايرة لا بل مقاومة لمفهوم جسد المرأة وحركتها في المجتمع المشرقي والإسلامي.
نعم فاطماتنا تندبان وتلطمان، لكنهما أيضاً ترقصان وتفرحان. نعم فاطمتانا تكشفان عن رأسيهما وتسدلان شعريهما وتقفان على المسرح في العلن أمام الجمهور. حينما خلعت الممثلة حنان الحاج علي حجابها في مسرحية روجيه عساف «جنينة الصنائع» (١٩٩٧) وظهر حجاب آخر تحت حجابها، كان ذلك فعلاً سياسياً يؤكد ترسخ الخيار الديني والسياسي في ارتداء الحجاب. أما اليوم، فأن تلطم فاطمة وترقص على المسرح، ففي ذلك أيضاً موقف سياسي واجتماعي من موقع جسد المرأة المسلمة في مجتمعاتنا. علي شحرور ورانيا الرافعي وأمامة حميدو ينتمون إلى جيل ما بعد الحرب الأهلية الطائفية. هم يعيشون اليوم وسط نمو التطرف الديني في مختلف العالم العربي. وإذا كنا في لبنان، أو لنقل على الأقل في بيروت نتغنّى بانفتاحنا، إلا أنّ المسرح اللبناني يتفادى حتى اليوم النقد الديني، وجزء كبير منه يعود إلى دور رقابة الأمن العام المسبقة على الأعمال الفنيّة، وتدخّل السلطات الدينية في دور الرقابة وفرض المحظور. لحسن الحظّ ألا رقابة حتى اليوم على أعمال الرقص في لبنان، فالرقابة المسبقة تجرى على النصوص و«لا نصّ» في عروض الرقص، إلا أنّ «فاطمة» تفلّتت من مقص الرقيب ورقصت على الخشبة. هل في ذلك مسّ بالمعتقدات الدينيّة؟ طبعاً لا، بل هناك مسّ في احتكار الديانات لأجسادنا، وتقديم أجساد حرّة على المسرح. علماً أنّ حركات الراقصتين على المسرح مستوحاة من الحركة الطبيعية لأجساد النساء في مجتمعاتنا المتزمتة أم المتحررة منها، لكنها تمثل اليوم على الخشبة إعلاناً لحرية جسد المرأة في مواجهة الأصوليات الكثيرة.
عن مشروعه الجديد
يتابع علي شحرور (1989) بحثه عن حركة الجسد في مراسم العزاء. بعد الانتهاء من عرض «فاطمة» في «مسرح المدينة»، يبدأ العمل على عرضه الجديد «عتب» (مؤقت) حول الشهادة. مرّة جديدة يختار الكوريغراف الشاب أن يبحث داخل إطار حركة الجسد المشرقي، متخلياً عن مدارس الرقص المعاصر الغربية. مؤدو العرض الجديد هم نساء ورجال من ضاحية بيروت الجنوبية، ومن القرى اللبنانية الجنوبية، ممن امتهنوا مهنة الندب في الجنازات والغزوات. تقاليد غنيّة جداً بطقوسيتها ومفرداتها اللغوية والجسدية، يعيد شحرور إحياءها في عرضه الجديد مع ندّابين سابقين سيغنون ويرقصون على المسرح. وعن اختيار موضوع الشهادة، يقول علي شحرور لـ«الأخبار»: «إن تمازج طقوس الفرح والحزن في رثاء الشهداء، واضمحلال الحدود بين تلك المشاعر النقيضة أثار اهتمامي». ما علينا سوى الانتظار حتى أواخر شباط (فبراير) ٢٠١٥ لمشاهدة العرض.
* «فاطمة»: 20:30 مساء الغد وبعده ـ «مسرح المدينة» (الحمرا) ـ للاستعلام: 01/341470

Apocalypse من بيروت إلى دمشق



الملك كازيمودو - فادي اليازجي
روي أنّه سمع صوتاً أخيراً يصرخ في شوارع بيروت محذراً من كارثة ستحل بالمدينة. زعم ذلك الصوت أنّه في ليلة سوداء، سيخرج إلى شوارع بيروت «الملك كازيمودو» (فادي اليازجي) بجسده الثقيل ورأسه الضخم ليخطو فوق المدينة مدمراً كل ما أعاد اللبنانيون بناءه بعد الحرب الأهلية، مالئاً الشوارع ببراز أسود تفوح منه رائحة تتخطى بنتانتها عنصرية اللبنانيين وكراهيتهم المتفشية داخل منازلهم وشوارعهم، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي.
سيتوجه الملك إلى صخرة الروشة. على ظهرها، سينادي الأمواج كي تغمر المدينة، فيهتاج البحر وتتلبد السماء كما في لوحات مايكل بيبرستاين. وستنقضّ الأمواج على اليابسة، فتقضي على معالم المدينة.

ثم قال إنّه في تلك الليلة، ستمطر السماء مواد جمرية كتلك التي أمطرها الله على سدوم وعامورة، فتتحول مياه الأنهر إلى مادة غليترية كما في لوحات جون أرمليدر. وستحتبس النباتات في مادة فضيّة (نديم أصفر)، ويتجمد بعض البشر في لوحات قاتمة تكاد تخفي ملامحهم لولا ظلال الأسود الخفية (جيلبير الحاج)، ويتكدسّ الآخرون في علب مربّعة صغيرة على جدارية كبيرة (جان مارك نحاس) ستلف المدينة في سور ضخم يمنع عنها الهواء والضوء. وفي قلب بيروت على أنقاض سوليدير، لن يبقى صامداً ومرتفعاً سوى رجل واحد مسمّر فوق الصليب، ولن يسمع غير صراخه «لن أترك الحصان وحيداً بعد الآن»، وعند رجليه حمار أسود يدور بين الأطلال ويقتات رؤوساً مقطّعة ومرمية في زوايا الشوارع.

لكن يروى أيضاً أنّ الجمع الذي سمع نبوءة ذلك الصوت، اغتاظ غيظاً شديداً، فانهال عليه بالضرب والشتيمة، ثم سحلوه في شوارع المدينة، وقتلوه ورموا جثته المنكّلة في البحر، حيث يقال إنّ مار جرجس قتل يوماً التنين. وقبل أن يلفظ أنفاسه، نطق الصوت بنبوءة أخيرة عن مدينة مجاورة تدعى دمشق. 
أعلمَ الجمع أن تلك المدينة اكتسبت اسمها من الجريمة الأولى للإنسانية، حين قتل قايين أخاه هابيل، فسال دمه وشقّ الأرض، فدعيت «دم شقّ». ستستفيق يوماً على ريشة يوسف عبدلكي ترسم فوق «الصحن» الذي يأكلون منه خطوطاً حمر عشوائية. ستستجمع الأرض الدماء التي شربتها منذ الجريمة الأولى حتى اليوم وستقذفه إلى السطح. وسيغمر فيضان الدماء شوارع الشام، فيضان لم تشهده البشرية منذ أيام نوح. وذلك سوف يكون في اليوم الأسود التاسع. لكن في انتظار تحقق النبوءة، إنّها علامات ستظهر في لوحات وصور في معارض فنيّة هنا وهناك.


«تسعة ظلال سوداء»: حتى ١٤ حزيران (يونيو) ـ «غاليري تانيت» (مار مخايل) ــ 76/557662




الصحن - يوسف عبدلكي




دارين حطيط | بيروت ٢٠٥٠


في بيروت عام ٢٠٥٠، أمّ تفقد ابنها لتجد نفسها أمام فرصة إعادة إحيائه ووهبه حياةً خالدةً من خلال التكنولوجيا التي تعزّز عمر الإنسان، فهل تفعل ذلك؟ تلك هي المعضلة التي تطرحها دارين حطيط في فيلم خيال علمي قصير بعنوان ORB. ولتنفيذ الفيلم، قرّرت المخرجة والكاتبة اللبنانية اللجوء إلى «ذومال» منصة التمويل الجماعي في العالم العربي.
حطيط المقيمة بين نيويورك وبيروت وحاصلة على جوائز من مهرجانات دولية عدة، تهتم في أعمالها بمواضيع المستقبل والإنسان والتقدم التكنولوجي، خصوصاً عالم الروبوتيكس والذكاء الاصطناعي. ومن هنا أتت فكرة فيلمها ORB. تقول لـ«الأخبار» إنّها تتابع حالياً دراسات تحاول تطوير آليات لحفظ خلايا عقل الإنسان بعد مماته، ما يصب في تجسيد فكرة الخلود والحياة السرمدية. تلك الدراسات أثارت اهتمام المخرجة، وانطلقت منها لتكتب فيلماً قصيراً يجري في بيروت عام 2050 حيث تطورت التكنولوجيا في مسار يستطيع إعادة الحياة إلى الإنسان بعد مماته، عبر إعادة إحياء خلاياه. لم تختر المخرجة معضلة الموت في بيروت بالمصادفة. إنه خيار نابع من السياق الذي نعيش فيه.
غياب أفلام الخيال العلمي في السينما العربية، قد يعزى إلى نقص التقنيات والإنتاجات الضخمة. لكن ذلك الحكم الشائع خاطئ في فهمه لخصوبة سينما الخيال العلمي التي تشمل الأفلام الضخمة كما تلك الإنتاجات الصغيرة، وكلٌ بحسب السيناريو المطروح. من هنا نستغرب نقص الإنتاجات العربية في ذلك النوع الذي لا يقتصر على الإبهار التقني فحسب، بل بإمكانه أن يكون سياسياً وإنسانياً في حبكته البسيطة تقنياً.

علماً أن العرب كانوا من أوائل مَن قدّم أدب الخيال العلمي مع ابن النفيس، والقزويني... ربما يكون اليوم الخيال العلمي أحوج الأنواع اليوم لمقاربة الأسئلة التي تواجه العالم العربي. ذلك الاهتمام بالخيال العلمي العربي، تناولته أخيراً مجموعة «٩٨ أسبوع» في محاضرة «كيف نكون في المستقبل» ضمن منتدى «أشغال داخلية»، فيما يعمل فادي باقي (الفدز) على فيلم تحريك خيال علمي طويل. وفي عددها الأخير، خصصت مجلة The Outpsot اللبنانية قسماً لذلك النوع في العالم العربي، حيث تقول الصحافية آمال المهتار «أن تعلن أنك، وشكلك، ولونك، و... ستكون موجوداً في المستقبل هو أن تعلن أن لديك الحق في الوجود اليوم». لذلك تتحدث حطيط عن المواجهة مع الموت في بيروت المستقبل، ولذلك علينا دعمها لتنفيذ الفيلم، لأننا بذلك ندعم المبادرات الخلاقة الفردية، ونسهم في مساءلة أيّ حاضر ومستقبل نريد.

لدعم الفيلم إنقر هنا :