شعراء الفايسبوك في ضيافة روبرتو قبرصلي



ظواهر الموقع الأزرق تشكّل مادّة دسمة في مشروع هشام جابر الجديد «قبرصلي بوك». فنان الـ«ستاند آب كوميدي» يعدنا بعرض ممتع طوال ساعتين، يسخر فيه من كل شيء.
روبرتو قبرصلي يعود من جديد إلى خشبة «مترو المدينة»، ليخدش الحياء الافتراضي العام. ساعتان من الـ«ستاند آب كوميدي» يؤديها هشام جابر منفرداً من خلال شخصيته الشهيرة روبرتو قبرصلي، أو بالأحرى عرض للثنائي روبرتو قبرصلي الحقيقي والافتراضي. روبرتو، تلك الشخصية التي اعتدناها جوكراً في عروض كباريهات «مترو المدينة»، وشخصية رئيسية في عروض سابقة في الـ«ستاند آب كوميدي» حول المونديال، وحول حملة إسقاط النظام الطائفي في لبنان وغيرها من المواضيع، تطلّ علينا اليوم من داخل العالم الافتراضي لتلقي نظرة ساخرة على المواد التي تغرق صفحاتنا الزرقاء ضمن عرض «قبرصلي بوك».
لن يفلت أحد من تعليقات قبرصلي الساخرة في هذا العرض، بدءاً بالمستجدات الاجتماعية السياسية الأخيرة من «داعش» والأنظمة العربيّة، وصولاً إلى الأحزاب السياسية اللبنانية وصفحاتها على فايسبوك. طبعاً لن يخلو ذلك من عودة إلى أول أيام ظهور الفايسبوك في لبنان، والروايات التي رافقت نشأته حتى اليوم، إلى جانب التوقف عند نماذج اجتماعيّة عدة طورت أسلوباً خاصاً في ترجمة حضورها الافتراضي على فايسبوك أهمّها: جمعيات المجتمع المدني، والممانعون، ومن هم ضد الممانعين، ومؤيدو الثورات، والعروبيون، والشعراء الافتراضيون... شعوب ـ بحسب قبرصلي ـ نمت وتربّت على الشعر العربي العاشق والممجد للغياب «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل»، فوجدت في العالم الافتراضي ضالتها.
من يتابع هشام جابر عبر حسابه الخاص على فايسبوك، يدرك جيداً علاقته بالموقع الأزرق. مساحة سخرّها للإعلان عن أنشطة «مترو المدينة»، وبعض الصور والتعليقات الشخصية، لكن ما يبقى الأكثر تدفّقاً هو تلك السلسلة التي بدأ بكتابتها أخيراً تحت عنوان «دعاء ـــ حديث صحيح». يقدّم من خلالها دعاءً جديداً ينتقد فيه، بخفّة وذكاء، تفصيلاً سياسياً أو اجتماعياً: «دعاء المذيعة: انشالله كون طالعة sexy وبريئة بنفس الوقت. حديث صحيح». أما اليوم، فقد ولدت سلسلة جديدة تحت عنوان «شوفور من بلادي». هنا، يقدم صورة التقطها لأحد سائقي سيارات الأجرة أثناء تنقلاته معهم، مزوّدة بإحدى عبارات السائق: «بدّك تدلني ما بعرف شي ببيروت، أنا بشتغل بصيدا، بس رمضان كلن نايمين ـــ شوفور من بلادي».
ما يمّيز السلسلة الفياسبوكيّة هي الحنكة في انتقاد آفات مجتمعنا عبر جمل قصيرة لا توظّف التابوهات الدينية والسياسية والاجتماعية. هذا ما يميّز عرض «قبرصلي بوك» الساخر واللاذع لتفاصيل كثيرة تتدفق على صفحات فايسبوك، تعكس كثيراً من الأسى والرجعية. على حدّ قول قبرصلي، «دودز، الكوكب عم ينهار». تكمن أهميّة العرض في اتخاذه قراراً سياسياً بالانتقاد والسخريّة من الحالة الاجتماعيّة والسياسية التي أنتجناها جميعاً، ونعيش تحت رحمتها اليوم: أنباء عن تهديم «داعش» لمكتبة هنا أو لمقام أثريّ هناك، أو حتى أخبار القتل والاعتقال من قبل نظام ديكتاتوري.
وبالنسبة إلى قبرصلي، فالجميع سواسية، من أصحاب القرار وصولاً إلى نشطاء العالم الافتراضي. الجميع يتشاركون في إنتاج وتنمية الوضع الكارثي الذي نعيش فيه. لذا يطلق دعوة واحدة في نهاية عرضه: دعوا فايسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى للتسلية و«الهبل»، ومن منكم يملك فكرة أو خطوة جديّة، فلنلتق في العالم الحقيقي كي ننفذها. مرّة أخرى، يؤكد «مترو المدينة» بإدارة هشام جابر الفنيّة، أنه مساحة للتسلية والمرح، جاهزة لاستقبال جميع أطياف المجتمع اللبناني، من دون تجاهل المقاومة السياسية والثقافيّة للتخلّف المحيط بنا.
في سطور!
لمن لم تسنح له فرصة التعرّف إلى روبرتو قبرصلي في الماضي، يفيدنا هشام جابر بنبذة عن تاريخه: إسمه الحقيقي روبرتو قبرصلي، ولد في زاروب الصيداني في منطقة زقاق البلاط. توفيت أمّه عند ولادته. وبعدما أتم عامه الأول، توفي والده ليعيش مع عمّه خوليو قبرصلي الذي علّمه أصول الهبل والشتائم المنحطة والمقززة. في صباه، إلتحق بالمدرسة الحربية التابعة لعصابة شبقلو المتخصصة في نشل الفتيات على الموتوسيكل، لكنه سرعان ما طرد منها بسبب صوته المزعج ومزاجه العِكِر. ما لبث أن تعرّف إلى الكوميديان العالمي ألبيرتو عيتاني الذي قدّمه إلى الجمهور المولديفي الذي عَبَدَه لعشر سنوات كاملة قبل أن ينطلق إلى العالمية ومنها إلى لبنان البلد الذي إختاره القبرصلي كي يكون حمّامه الخاص والأخير. أجرى حتى الآن 346 عملية جراحية لتجميل فكه السفلي من دون الوصول إلى نتيجة.
 «قبرصلي بوك»: 21:30 مساء ٢٥ و٢٦ تموز (يوليو) ـــ «مترو المدينة» (الحمرا _ بيروت). للاستعلام: ٣٠٩٣٦٣/76

ناصر السومي حارثاً بحرَ يافا



ضمّ «جسر نحو فلسطين» العديد من الفنانين الفلسطينيين، أبرزهم ناصر السومي. مَن هو ناصر السومي؟ إنه الفنان الذي قصّ صخرة الروشة ضمن مشروع «كورنيش ١٩٩٩» الذي نظمته «أشكال ألوان»، ضمن تجهيزات ومداخلات فنيّة امتدت حينها على طول الكورنيش من عين المريسة حتى رملة البيضاء. يومها حين عاد ناصر السومي إلى بيروت بعدما كان قد غادرها عام ١٩٨٠، صدمته التغييرات الجذرية التي طالت النسيج العمراني للمدينة ومعالمها الثقافية، فقرر أن تتمحور مداخلته حول اقتلاع صخرة الروشة من مكانها.
أمام صخرة الروشة على الكورنيش، اصطفّ عدد من المهندسين أمام طاولاتهم، وراحوا يدرسون كيفية قص الصخرة، فيما كان فريق آخر يتسلق الصخرة عبر الحبال ويحدد بالتنسيق مع المهندسين علامات من حيث يجب قصهّا. في المقابل، كانت كاميرا المصور الفرنسي جيروم مارتان تصوّر وتوثق تفاعلات أهل بيروت مع خبر اقتلاع الروشة من مكانها. مادةّ حولها السومي إلى فيلم عُرض لاحقاً في معرض في باريس، حيث استعرض رأي وتفاعل أهل بيروت مع التغييرات الجذرية التي طالت مدينتهم.
ناصر السومي (١٩٤٨) فنان فلسطيني، درس الفن التشكيلي في معهد الفنون الجميلة في دمشق (١٩٧١ - ١٩٧٧)، ثم انتقل إلى بيروت قبل أن يتابع دراسته في معهد الفنون الجميلة في باريس (١٩٨٠ ــ ١٩٨٢). يعمل بوسائط لا حدود لها، بين التجهيز والنحت والرسم حتى المسرح والرقص والكتابة. يعتبر ناصر السومي من أوائل الفنانين العرب الذين عملوا في التجهيز الفني، إلاّ إنه اشتهر في تطويع المواد العضوية في صناعة أعماله، واللون النيلي الذي يطغى على معظم أعماله. المثير للاهتمام أنّ الفنان الستيني لا يتباهى بالبعد الفكري لأعماله. يقول لـ«الأخبار»: «كانت أعمالي وما زالت تنطلق من فطرةٍ أو إحساس ما. بعد تنفيذها بل بعد سنوات من عرضها، يتنامى البعد الفكري وراء العمل، فيأتي كإضافة وليس كأساس. هذا ما حصل مع اللون النيلي». عندما استعمل السومي اللون النيلي للمرة الأولى في أعماله، كان خياراً عفوياً نابعاً مما اعتادت عيناه على رؤيته خلال الطفولة في بيت عمّه في فلسطين. لم يكن يعلم حينها عن العلاقة الخاصة بين اللون وفلسطين، الذي يعتبر تاريخياً لون فلسطين الأول نسبة إلى نبات النيلة وحيوان المريق البحري المتوافر في فلسطين الذي يستخرج منه أجود أنواع صبغة النيلي.
تلك العلاقة التي اكتشفها السومي بنى عليها ليتابع تقديم أعمال عدة مصبوغة بتدرج النيلي. في «جسر نحو فلسطين»، نتفقد لوحات جديدة مثل «بحر» و«سماء» و«أرض» ولوحتين يظهر فيهما مسجد الأقصى. في تلك اللوحات، استعان الفنان بمواد عضوية، ملونة بالصبغة الطبيعية. أما ميزتها فهي أنّها مؤلفة من طبقات نافرة من اللوحة توحي بأنها لوحات حيّة ذات تضاريس وإعوجاجات مستوحاة من الطبيعة.
كذلك، يظهر اللون النيلي في تجهيزه «أيقونة ليافا». قدم السومي ذلك التجهيز عام ١٩٩٦ في «دارة الفنون» في عمان، وحاز عنه الجائزة الأولى في «بينالي القاهرة». غرفة علّق على جدرانها صناديق خشبيّة مصبوغة باللون النيلي، وداخلها قنينة زجاجية تحتوي على مياه من بحر يافا، وقشر برتقال، وإلى جانبها نصّ صغير عن يافا كتبه الذين ولدوا وكبروا في المدينة قبل أن يصبحوا اليوم مهجرّين عنها وقاطنين في بلد آخر. إلى جانب كل صندوق، نجد شمعة. أمّا على الأرض أسفل الصناديق، فحاويات مستطيلة ملأها الفنان بالمياه ووضع فيها صبغة النيلة. في بيروت، أضاف إلى الصناديق القديمة أخرى جديدة تحتوي على المواد نفسها، لكن النصوص كتبت هذه المرة بأقلام فلسطينيين من سكان يافا حالياً. من لحظة اقترابك من غرفة التجهيز وعند تجوالك داخلها، تشعر أنك تدخل إلى معبد لمدينة يافا حيث اختار الفنان أن يحتفظ بذكريات أهلها ضمن صناديق. «عندما غادر أهل يافا المدينة، حملوا معهم في صناديقهم حاجاتهم الأساسية للسفر. هنا أعيد تقديم تلك الصناديق، لكنها هذه المرّة محملّة بذكرياتهم، وذكريات المدينة». غالبيّة النصوص والشهادات المرويّة في التجهيز تروي قصص الجمال والمجد في يافا، قصة ماض ولّى، قصة أهل مدينة غرقوا في الذكريات الجميلة ورفضوا رؤية الواقع المرير.
«أيقونة ليافا» كجميع الأيقونات، لوحة لا تظهر سوى الجمال، وربما الخلود، لكن لمن هذه المرة؟ لمدينة يافا. قد لا يقصد السومي بتجهيزه «أيقونة ليافا» إعلان موت المدينة، لكنه فعل، فجميع مَن في الأيقونات أموات، وبعضهم ربما يرتجي قيامته.
في «جسر نحو فلسطين»، يقدم السومي أيضاً تجهيزاً فنيّاً يحمل عنوان من «إلى القدس» مستوحى من وصف الرحابنة للقدس بزهرة المدائن. في التجهيز على الأرض، مرآة كتب عليها من جهة بيروت، ومن جهة أخرى القدس. من المرآة تصعد أداة خشبية بإمكان زائر المعرض تحريكها من نقطة بيروت إلى القدس أو العكس. بتحريكه تلك الأداة، يتحرك فوقها مجسّم صممه السومي معلقاً في الهواء كزهرة، أو غيمة أو سحاب يغمر السماء من بيروت حتى القدس. يتنقل اليوم السومي في إقامته بين بيروت وباريس، ويقول لنا إنّه منكبّ حالياً على إنهاء كتابه الجديد الذي يتمحور حول شخصية المسيح.

«أبو نضّارة»: سوريا الأخرى صورةً وضميراً


من فيديو "عسكر على مين"
المجموعة التي تأسست عام ٢٠١٠ على يد سينمائيين مجهولين، ولدت من رحم المجتمع السوري، لا تسيرها أموال البترول، ولا خطط الغرب، ولا أصولية تكفيرية. مساء اليوم، نحن على لقاء مع أحد أعضائها في فضاء "أشكال ألوان".
الليلة، يستقبل فضاء «أشكال ألوان» نقاشاً بين شريف كيوان الناطق باسم مجموعة «أبو نضارة» السورية، والمخرجة رانيا إسطفان حول الدور الذي قد يلعبه مخرجو الأفلام الوثائقية في تقديم شهادة عن الحاضر في ظل العنف المسيطر. كما سيتخلل اللقاء عرض لبعض أفلام مجموعة «أبو نضارة».
تأسست «أبو نضارة» عام ٢٠١٠ على يد سينمائيين سوريين أبقوا هويّتهم مغفلة. منذ اليوم الأول للانتفاضة السورية، عملت المجموعة على تظهير التنوع والتعقيدات في المجتمع السوري بمختلف أطيافه، بعيداً من اختزال الصورة التي قدمها الخطاب المتطرّف في كلا الخندقين الموالي والمعارض. في نص «تسقط عاصمة الثورة» الذي نشرته المجموعة أخيراً على فايسبوك تعيد تأكيد أنّ هدفها هو إنتاج «صورة مغايرة، متنوعة، جذرية، عصية على قانون الفرجة والأطر مسبقة الصنع». في رصيد «أبو نضارة» اليوم أكثر من ٢٤٥ فيديو، وأفلام قصيرة وثائقية جديدة تقدم كل أسبوع، وتتخللها مقابلات مع مختلف أفراد المجتمع السوري من الموالي إلى المعارض والثوري والعسكري والمحارب وحتى القنّاص. في تلك الفيديوهات، تهدف المجموعة إلى تظهير تنوّع المجتمع السوري عبر ميوله وآرائه، والأهم هو الابتعاد عن إنتاج صورة تبسيطية للأفراد تحصرهم في خانات ضيقة وسطحية. لا بل تحرص المجموعة في ما تنتجه على تصوير الأفراد بتعقيداتهم ومشاعرهم وآرائهم، كما هم في الواقع.
بعد مرور ثلاث سنوات على البدايات السلمية للانتفاضة التي صارت تعرف لاحقاً بـ«الثورة السوريّة»، وبعدما نجح الإعلام المهيمن في تبسيط الصراع واختزاله، بات وجود مجموعة مثل «أبو نضارة» أكثر من ضروري. هي ما زالت تطالب بالثورة السلمية، وبحقّ الاعتراض على نظام ديكتاتوري يقمع ويعتقل ويقتل، وترفض احتكار «الثورة في حفنة من الإرهابيين الذين لا يمتّون إلى المجتمع السوري بصلة. «أبو نضارة» تقول لنا إن في سوريا أفراداً متنوّعين، يطالبون حتى اليوم سلميّاً بالـ«حرّية وكرامة».
في حوارنا مع شريف كيوان، يصف الوضع في سوريا اليوم بالمأساوي بعد «إعادة انتخاب بشار الأسد رئيساً للجمهورية السورية، ثم تلك المهزلة التي تدّعي الخلافة وتأسيس الدولة الإسلامية». بين هذين النقيضين، مساحة واسعة لأفراد يرفضون أن يتحكّم فرد ــ أيّاً كان ــ بمصير حياتهم. أفراد غضّ الإعلام الرسمي النظر عنهم لأنّ صوت الرصاص والذبح والقتل طغى على صوت مطالبهم السلميّة. تلك هي المجموعة التي تعمل «أبو نضارة» على إيصال صوتها إلى المجتمع السوري والعالم. كما أنّ المجموعة على يقين بأنّ لا مجال لرؤية المستقبل من دون مشاركة جميع أطياف المجتمع السوري في بنائه، على قاعدة المساواة والعدالة. في أحد فيديوهات المجموعة، تقول مرسيل: «كان سهلاً جداً أن أحقد إلى الأبد على الذين قتلوا والدتي، لكنني اخترت الطريق الأصعب، أن أحاول أن أتفهّم أنهم هم أيضاً ضحايا كي لا أخسر إنسانيتي». مرسيل كآخرين كثر رفضوا أن يستسلموا للحرب، وأن يتحكم العنف والقتل والحقد بهم وبخياراتهم، وما زالوا حتى اليوم يقاومون قمع النظام وتخلف الأصوليين. من أفواه وأفعال هؤلاء السلميين واللاطائفيين، لا يمكن أن تسرق الثورة، ولا يموت حقّ. في مقابلة أخرى مع قناص، وبعد تعبيره عن عدم قدرته على إحصاء أعداد ضحاياه بسبب كثرتهم، يقول للكاميرا «بكيت حين علمت أن الجنين في رحم زوجتي توفيَ، لأنني إنسان في نهاية الأمر». ذلك القناص وغيره ممن قتلوا وذبحوا من الطرفين التقتطهم أيضاً كاميرا «أبو نضارة»، ليس ترويجاً للدم، ولا للمتاجرة بأشلاء الضحايا، بل كي لا يُختصر هؤلاء بصفة أو بفعل واحد.
في فيديوهاتها، تبتعد المجموعة من القدح والذم تجاه أي جهة، إيماناً منها بأنّ مضاعفة العنف لن توصل يوماً إلى الحلّ، فمصير السوريين هو التعايش في بلد واحد حيث لا يستأثر فيه أي طرف بالسلطة. كذلك، تقاوم المجموعة عبر فيديوهاتها الأشخاص والأماكن الذين يعملون على احتكار السلطة. ومن هنا كان قرار إبقاء أفراد المجموعة مجهولين وموزّعين في أرجاء الأراضي السورية لأسباب أمنيّة طبعاً. إنّهم فنّانو الظل الشباب الذين لا يبحثون عن سلطة أو شهرة شخصية، لذا تتجلّى مجموعتهم في كل فرد، وكل مكان.
تستند المجموعة في مقاربتها الفنية إلى تجارب سابقة كتلك التي ظهرت في فرنسا عقب الثورة الطلابية في الـ ٦٨، وأعمال المخرج الأميركي صموئيل فولر (المذبحة والسينما والمستحيل). وتواصل إنتاج الأفلام القصيرة من دون تمويل أو دعم خارجي، على قاعدة العمل التطوّعي. ومن آخر انتاجاتها شريط وثائقي طويل تحت عنوان «سوريا: يوميات الزمن الحاضر» الذي حلّ في بيروت ضيفاً على «أشغال داخلية» من تنظيم جمعية «أشكال ألوان»، كذلك عرض في مهرجانات في أوروبا، وعلى قناة «أرتي» الفرنسية الألمانية.

اليوم أكثر من أي وقت، تزداد الحاجة في سوريا إلى من يوصل صوت هؤلاء الرافضين لديكتاتورية النظام وتخلف الأصوليين. «أبو نضارة» ولدت من رحم المجتمع السوري، لا تسيرها أموال البترول، ولا خطط الغرب في زعزعة المنطقة وتقسيمها، ولا أصولية دينية تكفيرية دخيلة على المجتمع السوري. «أبو نضارة» تعكس بالصورة والصوت خياراً واضحاً وهادئاً ومسؤولاً يحمله أفراد ما زالوا يطالبون بأبسط الحقوق: الحرية والكرامة في مواجهة الاستبداد السياسي. إذا كان مشروع المطالبة بالتغيير مستمرّاً في سوريا، فالمؤكّد أن أفراد «أبو نضّارة» عيّنة أمينة عن النخب التي تحمل تطلّعات تلك الثورة.

شريف كيوان من «مجموعة أبو نضارة» ورانيا اسطفان ـ عرض أفلام ونقاش: 19:30 مساء اليوم ــ «أشكال ألوان» (جسر الواطي ـ بيروت) ــ للاستعلام: 01/423879 ـــwww.abounaddara.com

بيرتران كانتا صوت الضمير في التراجيديا الشهيرة: «أنتيغونا» وجدي معوّض أعلنت القطيعة


قدم وجدي معوض ثلاثيته «نساء» للمرة الأولى عام ٢٠١١ في «مهرجان أفينيون المسرحي» في فرنسا. العرض الكامل الذي يمتد ستة ساعات ونصف، تناول سيرة ثلاث نساء من التراجيديا الإغريقية بقلم سوفوكليس: ديانيرا من «نساء تراخيس» عن القدرة على الحبّ بقدر الألم، وأنتيغون عن العدالة ومحاولة المصالحة، وإليكترا عن إصلاح عملية القتل عبر الانتقام. أما خشبة «مهرجانات بيت الدين»، فستستقبل جزءاً واحداً من الثلاثية هو «أنتيغون» (7 و8 آب/ أغسطس) الذي يمتد ساعة و45 دقيقة.
وجدي معوض (١٩٦٨) كاتب ومخرج وممثل مسرحي لبناني كندي، هاجر إلى فرنسا ثم كندا عام ١٩٨٣ حيث بدأ بكتابة وإخراج أعماله المسرحية، ومن هناك إنطلقت شهرته العالمية. أما اليوم، فيعيش في فرنسا. في كندا، بدأ بإخراج بعض النصوص العالمية، ثم كتابة مسرحياته الخاصة التي تتخذ من الحرب الأهلية اللبنانية، والصراع العربي الإسرائيلي مادة وسياقاً لها. كان يعيد توليفها مع عناصر التراجيديا الإغريقية، لينتج تراجيديا معاصرة. من أشهر مسرحياته «ليتورال»(١٩٩٧) التي نقلها بذاته لاحقاً إلى الشاشة الكبيرة عام  ٢٠٠٥، و«حرائق» (٢٠٠٣) التي قدمت على خشبات عدة في العالم، وكانت أول عرض يقدم له في بلده لبنان على خشبة «مسرح المدينة» العام الماضي. «حرائق» أيضاً نقلها المخرج الكندي ديني فيلنوف إلى الشاشة الكبيرة (٢٠١٠) وقدمت في «مهرجان البندقية السينمائي»، ثم عرض الفيلم في الصالات اللبنانية. بالإضافة إلى الجوائز التي نالها في كندا، كانت دعوة «مهرجان أفينيون» له كضيف على المهرجان عام ٢٠٠٩، من أهم محطاته المسرحية، حيث عرض أربع مسرحيات تحت عنوان «دمّ الوعود». وإلى جانب تأسيسه فرقاً مسرحية في كندا وفرنسا، فهو أيضاً شريك في مسرح Grand T في نانت، في فرنسا. وهنا تجدر الإشارة إلى أن لوجدي معوض شهرة مسرحيّة عالميّة، لكن لأعماله وقع مختلف على الجمهور اللبناني والعربي، الذي  يجد نفسه مع معوض دائماً أمام قصته التي لم يعد يستطيع التعرف إليها، لأنّها قصة تشوبها بعض الأسئلة السياسية.
أما ثلاثية «نساء» التي تضم «أنتيغون» فأحدث عرضها بلبلة واعتراض بعض المسارح على استقباله، ومقاطعة بعض الجمهور له بسبب مشاركة بيرتران كانتا فيه. مغني الروك الفرنسي الشهير الذي أسس مع رفاقه فرقة Noir Desir كان أقدم عام ٢٠٠٣ على ضرب عشيقته الممثلة الفرنسية ماري ترانتينيان إثر شجار بينهما، ما أدى إلى مقتلها بعد أيام في المستشفى. جريمة ضجّ بها الإعلام العالمي، وانتهت بسجن كانتا ٨ سنوات. بعد خروجه من السجن، حاول العودة إلى الغناء إلاّ أنه لم يستطع إحراز نجاح كبير، إلى أن طلب منه وجدي معوض المشاركة في ثلاثيته «نساء» كملحن، وكمؤد لدور الكورس غناءً حيّاً خلال العروض. لكن مع العرض الأول لـ«نساء» في «مهرجان أفينيون»، كانت المشاكل في انتظار كانتا. سارع الممثل الفرنسي جان لوي ترانتينيان والد ماري ترانتينيان إلى الانسحاب من المهرجان لحظة علم أن قاتل ابنته يشارك في عرض وجدي معوض. فما كان من بيرتران كانتا إلاّ أن أعلن إعتذاره عن وجوده شخصياً على الخشبة في أفينيون، واكتفى بالتسجيل الصوتي «لأسباب شخصية، واحتراماً لآلام جان لوي ترانتينيان». ولكن أيضاً في كندا، أُعلن رفض صعود كانتا إلى الخشبة في عرضين في أوتوا ومونتريال.

تلك البلبلة كان معوض يجيب عليها دائماً بأنّه اختار أولاً موسيقى الروك لمرافقة نسائه في التراجيديا. أما التعامل مع بيرتران كانتا فلأنه من أفضل أصوات الروك، و«شخصية تراجيدية بامتياز»، فالجمهور يشاهد على المسرح رجلاً يتأمل الكارثة في حياته الخاصة. لا يخفى على معوّض أن الموقع الذي وضع فيه كانتا في تراجيدياه، الكورس، ليس في موقع يمكن فصله عن تاريخ كانتا. الكورس في التراجيديا الإغريقية ينطق بصوت الضمير والعدل، فكيف لو كان الكورس المرافق لأنتيغون؟
أنتيغون هي ابنة أوديب وجوكاستا التي أصرّت على دفن أخيها بولينيس بعدما تقاتل مع أخيه إيتيوكل، رغماً عن أمر ملك طيبة الجديد كريون، وتحقيقاً للعدالة. بعدما اكتشف أوديب أنه قتل أباه، وتزوج من أمه وأنجب أربعة أولاد: أنتيغون، وإيسمين وبولينيس وإيتيوكل، فقر عينيه، وهج إلى البرّية، لكنه لعن ولديه قبل ذلك. هكذا تقاتل الشقيقان على عرش طيبة، في معركة قتل فيها الاثنان بعضهما. وبما أن خالهما كريون كان داعماً لإيتيوكل ضدّ أخيه بولينيس، فأقام جنازة تليق بالأبطال للأول، وأمر برمي جثة الثاني خارج سور المدينة ومنع دفنها بعدما أصبح هو الملك على طيبة. وتحقيقاً لحقّ بولينيس بأن يدفن، ستعصي أنتيغون أوامر خالها الملك، وتغمر جسد أخيها بالتراب مقيمة مراسيم دفنه وحيدة، قبل أن يعاقبها كريون بالحبس حيث ستنتحر شنقاً، قائلة لخالها «أنا لم أصنع لأعيش مع كراهيتك، لكن مع الذين أحبهم».
في «أنتيغون»، يلعب الكورس دور الاعتدال ومعرفة الذات، لكن الأهم أنه في الفصل الأخير من التراجيديا يصبح الصوت الثاني لكريون، صوت الضمير الذي يدفعه إلى إعادة التفكير في أفعاله وأحكامه وتحقيق العدالة. بذلك، فإنّ اختيار وجدي معوّض منح دور الكورس لبيرتران كانتا ليس مجرد خيار موسيقي، بل يعطي صوت العدالة والضمير إلى «قاتل». وإذا عدنا إلى أعمال معوّض السابقة، نجد نيّة واضحة لدى الكاتب والمخرج اللبناني المقيم في كندا في شقلبة الأدوار والشخصيات والمواقع التي يستوحيها من الحرب الأهلية اللبنانية، والصراع مع إسرائيل. لذا، فوضع كانتا اليوم في موقع كورس أنتيغون ليس بغريب عليه. وكما يقول معوّض في مقدمة موقعه الإلكتروني: «الفنان مثل الخنفساء يأكل من قرف العالم الذي من أجله يقدم الأعمال، ومن ذلك الطعام الحقير يتوصل، أحياناً، إلى إخراج الجمال».
نحن لسنا هنا في صدد الحكم على معوض بسبب اختياره العمل مع بيرتران كانتا، لكنّنا نستعرض سياق العمل ضمن تلك المقالة يصبّ في ترقب شيّق ومثير لعرض «أنتيغون» على خشبة «مهرجانات بيت الدين». ويبقى للجمهور مشاهدة العرض والحكم الأخير على مقاربة معوض لأحدّ أشهر نصوص المسرح العالمي، «أنتيغون» اجتماعياً وإنسانياً والأهم سياسياً، متشوقين لمعرفة ما إذا كانت للحرب الأهلية اللبنانية أم الحرب مع إسرائيل حصّة من عدالة «أنتيغون».