رأفت مجذوب: حرتقة على الرأسماليّة


في ذلك النهار، جال ماسح الأحذية الصغير طويلاً أمام مبنى السارولا في الحمرا. شاهد أناساً يُنزلون مجسماً أبيض من عربة نقل ويضعونه على الرصيف. مجسم أشبه بالمتسولات المتربعات على الأرض في الحمرا. اقترب قليلاً، لكنه لم يجرؤ على السؤال، بل فضّل الانتظار بفضول وترقّب. اتخذ تجهيز المنحوتة حوالى ساعتين. خلال ذلك، كان الصبي يغادر قليلاً، ثم يعود ويقترب ويحاول في كل مرّة طرح بعض الأسئلة الاستفسارية. حالما جهزت المنحوتة في مكانها، وامتلأ حوضها بالمياه، اقترب الصبّي مجدداً مع عدد من أصدقائه ماسحي الأحذية، فراح يفسّر لهم كيفيّة عمل المنحوتة. وقبل أن يقدم على خطوته الثانية، عاد والتفت إلى أصدقائه وقرر أن يضيف (مجتهداً): «لكن يجب أن تكون تلك الأمنية، أمنية حقيقية وتريدها فعلاً أن تتحقق» ثم توجه إلى المنحوتة وأخرج قطعة خمس مئة ليرة من جيبه، أغمض عينيه، أطلق أمنية في سرّه، ورمى العملة في حوضها، ثم مضى. تلك كانت أوّل عملة يستقبلها حوض The whishing Fountain ـ «مال عام». عملة تحمل أمنية طفل، ماسح أحذية. بفعله البسيط، أعاد ذلك الصبيّ أملاً بالإنسانيّة إلى الحمرا. عندما قرر الفنان رأفت مجذوب تقديم هذا العمل في هذا الشارع، كان يبحث عن ذلك البصيص من الأمل، لكنه لم يدر أنه سيأتيه في اللحظة الأولى من ذلك الصبي بالذات.
«نافورة الأمنيات ـ مال عام» تجهيز يستعير شكله من المتسولات اللواتي يفترشن الأرض في الحمرا، ويستعير وظيفته من نافورة تريفي في إيطاليا. في الحمرا، تتوزع نساء كثيرات يطلقن الأمنيات والأدعية للمارين، على أمل أن يرمي أحد ما النقود في أحضانهن، لكنهن لا يجنين سوى التذمّر. أمّا في نافورة تريفي، فيرمي آلاف السياح ما يعادل ثلاثة آلاف يورو يومياً، على أمل أن تتحقق أمنيات لم تدعُ إلى تحقيقها متسولات الحمرا. من هنا، انطلقت فكرة رأفت مجذوب بتصميم نافورة أمنيات لاختبار كيفيّة تفاعل المارين معها. أمّا التفصيل الأهم، فيبقى في تحويل النقود المرمية في حوض النافورة إلى مال عام، بإمكان أيّ محتاج إليه أخذه، أكان لشراء الطعام، أم حتى لدفع الـ«بارك ميتر». وبما أن الفنان اختار أن يضع شرحاً لآلية عمل النافورة إلى جانبها، فقد تحوّل فعل رمي النقود في حضنها إلى فعل واعٍ لدى راميها بأن تلك الأموال أصبحت مالاً عاماً. بذلك، تحول المال الخاص إلى «مال عام»، والعمل الفنيّ أمّن مساحة عامّة تتحول بفعل مشاركة المارّين/ المشاهدين إلى حرتقة على الرأسماليّة.
قد يكون مضحكاً اليوم ربما إعادة سرد مقولة «الرأسماليّة أصل الشرور». لكن دعونا نضع جانباً دور الرأسمالية المتلبسة شكل الإقطاع في لبنان التي تغذي توارث السلطة، والفساد المتفشي في هيكلية الدولة، وتنامي الطائفية، أي بلاء هذا الوطن. على الصعيد الذي يطاول المواطن الفرد بشكل يومي، من غياب أدنى حقوق المواطنة، مثل التعليم والاستشفاء والإفادة من مشاريع تنمويّة تطاول كلّ لبناني أينما كان، وصولاً إلى غياب المساحات العامة المشتركة، فإنّ العائق الأكبر وراء تحقيق تلك المشاريع يبقى طمع الرأسماليين المتحكمين بالبلد. نظام رأسمالي حوّل وطناً إلى غابة من باطون تتسابق نحو نطح السماء، ومواطنين إلى جوازات سفر تبحث عن وطن يؤمن لها أدنى حقوق العيش. فما الذي يحدث إن قرر أحد هؤلاء المواطنين أن يخرج عملة نقديّة من منظومة تراكم رأس المال الخاص إلى الحيّز العام؟ بالطبع، لن تعرقل تلك القطعة صعود ناطحات سحاب، أو استملاك الشاطئ والمساحات العامة، ولن تعيد وسط بيروت إلى اللبنانيين. لكنها بصيص أمل ولو ضئيل في إيماننا بتلك المساحة المشتركة والعامة في وجه الرأسمالية والاحتكار.
عند رميه العملة النقدية الأولى، لم يكن ماسح الأحذية الصغير يفكر في المشاكل المتأتية عن الرأسمالية ولا في ضيق المساحات العامة في لبنان. لكن فعل تخلّيه عن عملة، وهو أحوج الناس إليها، لصالح من قد يكون أكثر حاجة منه، إنما هو نابع من مفهوم يعتبر أكبر عدو للرأسمالية: المشاركة ضمن الحيز العام. يدعونا مجذوب عبر عمله The whishing Fountain ــ مال عام» إلى إعادة التفكير في فعل المشاركة في بلد دولته وسياسيوه لم يأبهوا يوماً بتأسيس وطن يتشاركه أبناؤه، وشعب يرفض أن يتشارك العيش حتى مع طائفة أخرى، فكيف له أن يتشارك مساحة عامّة، إن وجدت. 
«The whishing Fountainـ مال عام»: حتى 10 ت2 (نوفمبر) ــ شارع الحمرا أمام مبنى السارولا ضمن «مهرجان بيروت لعروض الشارع».

نقولا فتوش صفع الجمهورية

اعتدى المحامي والنائب في البرلمان اللبناني نقولا فتوش قبل يومين على الموظفة في قصر العدل منال ضو (34 عاماً). فعله مدان لأنه اعتدى على مواطنة، لا لأنّه اعتدى على امرأة. حالما انتشر خبر اعتداء فتّوش على الموظفة منال ضو لأنّها رفضت إعطاءه الأولويّة في تسجيل شكواه في النيابة العامة في قصر العدل في بعبدا، انهالت التعليقات الشاجبة والمدينة لفعلة نائب الأمّة على مواقع التواصل الاجتماعي. لكنّ جزءاً كبيراً من تلك الإدانة كان يركّز على إدانة ذلك الفعل استناداً إلى جنس الضحيّة. وتكرر استعمال وصف «أشباه الرجال» مذيلاًً بتبرير أنّ من يصفع امرأة، إنمّا هو نصف رجل.
إلا أنّ الشيطان يكمن في التفاصيل. إنّ الشجب الواسع الذي طاول فعل النائب فتّوش من قبل الرأيّ العام على مواقع التواصل الاجتماعي، وعبر الإعلام، كان طبيعياً وضرورياً، إذ يثبت أن كل اللبنانيين لم يسلّموا بالأمر الواقع، كما هو حاصل في استملاك وسرقة جميع المساحات العامة المتبقية في لبنان من الطبقة السياسيّة ذاتها الحاكمة للبلد، والممددة لذاتها غصباً عن كلّ اللبنانيين. كان لا بدّ لتلك الصفعة من أن تأتي في جسد تلك الموظفة المسكينة، كي يشعر بها عدد كبير من اللبنانيين في أجسادهم. لكنّ التركيز على جنس الضحيّة يعيدنا إلى المنطق الذكورّي نفسه الذي يسمح لتلك السلطة بأن تنفرد بالقرار وبالسلطة وبالحكم.
تلك الذكورّية التي وقفت بشكل مباشر في وجه إصدار قوانين تحمي المرأة من العنف المنزلي. وعبر منطقها وهيكليّتها وسياستها، توالت على توارث السلطة في لبنان بجميع أشكالها الطائفيّة والقبليّة والعشائريّة والحزبيّة اللاديموقراطية، وما أنتجت من مصائب ولعنات حلّت بذلك البلد ومواطينه. أمّا إدانة فعلة فتّوش لأنّ ضحيّتها امرأة، ففيها مساواة لفعلة زميله الوزير جبران باسيل وتعليقه الذكوريّ المشين. وكلّ الخوف من أن يستحصل النائب فتّوش على تخفيف (من الرأي العام) يتخذ من التقاليد الذكوريّة المتخلفة في مجتمعنا عذراً له، كما حصل مع الوزير جبران باسيل، أو بالأحرى كما حصل مع جرائم قتل طاولت نساءً كثيرات من أزواجهن في لبنان. ما ارتكبه النائب نقولا فتوش، فعل مشين ومشجوب ومدان بكل معنى الكلمة، أكان قد طال امرأة أم رجلاً. وطبعاً، تبقى المسخرة الكبرى التي نعيشها، متجسّدة في تدخل المدعي العام والقاضي كلود كرم للصلحة بدلاًً من إحالة النائب على التحقيق. وهذا كلّه حصل في قصر العدل، حيث الجميع متساوون أمام القانون. إن كنّا ما زلنا كمواطنين لبنانيين محتفظين بأمل بناء وطن وبناء جمهوريّة ديموقراطيّة، فلا يجب أن نستكين قبل أن يقدّم النائب نقولا فتوش استقالته، ويعيد السلطة إلى الشعب الذي انتخبه، ويقدّم نفسه للمحاكمة. فعله إهانة بحقّ الإنسانيّة، والمواطن، والعدالة والجمهوريّة. نقولا فتّوش قدّم استقالتك، وانحنِِ تحت قوس العدل.

كارلوس شاهين: المسرح في صميم «المجزرة»


لا تفوّتوا هذا العرض. النصّ الذي لبننته رندا الأسمر عن الكاتبة الفرنسية ياسمينا ريزا، وأدّى بطولته فادي أبي سمرا، وبرناديت حديب، ورودريغ سليمان وكارول الحاج، لحظة مضيئة في المسرح اللبناني.
عرض كوني بأبعاده، لكنه مترجم في نص وإخراج بليغين ببساطتهما وخفّتهما، رغم سوداويتهما، مع أداء رائع للممثلين الأربعة. «مجرزة» التي تعرض حالياً على خشبة «مونو» من إخراج كارلوس شاهين وبطولة: فادي أبي سمرا، كارول الحاج، رودريغ سليمان وبرناديت حديب (الأخبار 9/10/2014). القصة المقتبسة عن نص الفرنسية ياسمينا ريزا، ترصد ثنائيين يلتقيان بشكل متحضر لحلّ مسألة ولديهما اللذين تشاجرا وتضاربا. لكن مع مرور الوقت، ستتفلت النقاشات من القيود الاجتماعية التي تفرض اللياقة والدبلوماسية في الحديث، ليتحكّم التوتر بالشخصيات الأربع، فينكشف التزلف وتبدأ الحقيقة والفضائح بالطفو إلى السطح. بمعنى آخر، تخلع الشخصيات الأربع قناعها الاجتماعي وتستعيد إنسانيتها الحقيقية بجمالها وقبحها. تعيدنا مسرحية ريزا إلى نص سارتر الشهير «لا مخرج». هنا أيضاً تصبح تلك الدائرة المغلقة ومن فيها، مرآة تفضح مكنونات الشخصيات الأربع.

بعدما نال موافقة ريزا، أوكل شاهين النصّ إلى الممثلة رندا الأسمر لتعريبه، لا بل لبننته، منتجةً ترجمة بليغة بأمانتها للنص الأساسي وقدرتها على تقديمه باللهجة اللبنانية من دون أن يقع في ابتذال اللهجات العامية. اختار كارلوس أيضاً تقديم العرض ضمن سينوغرافيا واقعية (نتالي حرب) تقتصر على صالون بجميع مكوناته على الخشبة. أما في أفق المسرح، فهناك فيديو يعرض طائرات، تظهر من نافذة المنزل، وتعبر السماء. عدا ذلك، فجميع تفاصيل السينوغرافيا وموقع الحدث الدرامي حقيقية وواقعية، ليبقى الثقل الأساسي والأكبر في المقاربة الإخراجية قائماً على عنصرين: الممثل والنص.
رهان يفضح بسهولة ــ بسبب غياب المؤثرات ــ قدرة الممثلين على تأدية الشخصيات وحمل حوارات النص، وطبعاً قدرة المخرج على إدارة الممثل، لا في تركيب الشخصية وترجمة النص فعلاً درامياً فقط، بل أيضاً في هندسة الفعل الدرامي على الخشبة عبر عناصر قليلة. مهمة نجح فيها الجميع: المخرج، والممثلون والفريق التقني الذي شارك في إنتاج العرض.
قدم الممثلون الأربعة أداءً رائعاً، تميّز بسلاسة مطلقة في رسم شخصيات مشبّعة بالتفاصيل (حركة الجسد والوجه، وطريقة الجلوس والمشي، والتفاعل مع الآخر، والحديث). كما كان متقناً لدى الممثلين ذلك التصعيد المتدرج في مسار المسرحية من نقطة التحضّر المزيف نحو الهستيريا الفاضحة لحقيقة الشخصيات، من دون الوقوع في التمثيل المبالغ أو اللامنطق. والأهم أن لا تفاوت بين الممثلين أو الشخصيات، بل إن تجانس الممثلين الأربعة حافظ على التوازن في ما بينهم، ما خدم تعميق المواقف الدرامية بدلاً من أن يطغى أداء ممثلٍ ما على الفعل الدرامي بحد ذاته.

لكن إذا ما عدنا إلى خيار كارلوس شاهين في تقديم نصّ ياسمينا ريزا اليوم في بيروت ضمن مقاربة شبه كلاسيكية في الرؤية الإخراجية، وباللغة العربية، فلا بدّ من التوقف عند نقطة مهمة جداً: موضوع المسرحية الذي يرتكز على تفاعل أربعة بالغين مع فعل عنيف تعرّض له طفل أحد الثنائي، لا ينحصر بذلك الفعل بحد ذاته، بل يشكّل مثالاً مصغراً عن تفاعلنا مع العنف الحاصل في الكون الذي نعيش فيه. ومن التبسيطي أن نقرأ تلك المسرحية في إطار التفاعل الضيق والمباشر لهذين الثنائيين، وخصوصاً أنّ ريزا اختارت في نصّها أن تشير ضمن الحوارات ولو في جزء بسيط إلى المجازر في دارفور، واختارت لشخصياتها الأربع مهناً وسمات متنوعة تحاول عبرها تقديم عيّنة عن أيّ مجتمع في أي سياق كوني. هكذا تتحول تفاعلات الشخصيات مع الحادثة الضيقة إلى عيّنة عن تفاعلنا اليومي مع ما يحدث حولنا من عنف وإجرام ومجازر. أما خيار شاهين في تقديم ذلك العرض في بيروت، باللغة العربية، وبأمانة للنص الأساسي، من دون أن يحاول أقلمته مع واقعنا، أو إسقاط سياقات اجتماعية وسياسية محليّة عليه، ففيه خيار بالمحافظة على تلك المسافة التي خلقتها ريزا في نصّها، حيث تخاطب مسائل كونيّة (المجازر) من دون أن تتطرق إليها بشكل مباشر، بل عبر تظهيرها في قالب حادث صغير قد يحدث كل يوم في أي عائلة بسيطة. نجح شاهين بأمانته للنص في تفادي الوقوع في المباشرة الواعظة. لكن دارفور بيروت إنما هي سوريا بجميع مدنها المنكوبة، والمجازر الواقعة فيها. إنّها بغداد والموصل، البحرين وصنعاء، طرابلس والقاهرة وتونس... وبيروت. ليست تلك المسرحيّة سوى عيّنة عن تفاعلنا مع مجازرنا. 
«مجزرة»: 20:30 من الخميس حتى الأحد ـــ حتى 2 تشرين الثاني (نوفمبر) ـ «مسرح مونو» (الأشرفية ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/202422