املي جاسر تخرق الخطاب الإستعماري


لم تقدّم «مرافعتها» السياسية ضمن الجدران المغلقة وبين جمهور يصفّق لطروحاتها. ذهبت إلى الفضاء العام، وخاطبت أناساً غير معنيين بالقضية التي تحملها. معرضها الحالي في «دارة الفنون» في عمان فرصة لاستعادة تجربة مميزة في الفن المعاصر.
اقتبست املي جاسر عنوان معرضها المقام حالياً في «دارة الفنون» في عمان من قصيدة لغريغوري كورسو «نجمة بعيدة بعد النظر عن عيني/ وقريبة قرب العين منّي». يحوي المعرض الأردني أعمالاً سابقة لجاسر وأخرى جديدة. فرصة مميزة للتجوال في تاريخ أعمال الفنانة الفلسطينية انطلاقاً من عملها Change/ Exchange عام 1998، وصولاً إلى «بدون عنوان» (solidaridad) عام 2013. رحلة فنيّة حول التحولات والتاريخ والتوثيق، من فلسطين إلى العالم، بإمضاء جاسر.
وبما أنّه يستحيل التوقف عند كل الأعمال المعروضة في «دارة الفنون»، فقد اخترنا التركيز على بعض الأعمال المهمّة في بساطتها، والمغايرة في أسلوب طرحها السياسي وفي تفاعلها مع جمهورها. غالباً ما تقدّم الأعمال الفنية المعاصرة السياسية داخل العلبة البيضاء ضمن أطر مفاهيمية وفكرية معقّدة، ومرفقة بنصوص شارحة وداعمة وموجهة لأسلوب قراءة تلك الأعمال. علمّاً أنه عند اختيار الفنان تقديم أعماله ضمن العلبة البيضاء، فإنّه يخاطب جمهوراً محدوداً من المثقفين. جمهور يتشارك غالباً مع الفنان في جزء كبير من طروحاته السياسية. أمّا جاسر فقد قدّمت عدداً من الأعمال المغايرة تماماً للنمط المعهود في هذا السياق. أعمال تتميّز بطابع أدائي اختارت تقديمها ضمن الحيز العام، لا ضمن جدران العلبة البيضاء، وتفاعل معها جمهور مختلف عن ذاك الذي يقصد الصالات والمتاحف. أعمال تشكّل موقفاً سياسياً واختراقاً صغيراً ولكن مهماً للمنظومة السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية والفكرية التي نعيش فيها.
في أول مشاريعها Change/ Exchange عام 1998، تنقلت جاسر بين صرّاف وآخر في باريس كي تحوّل ورقة 100 دولار أميركي إلى فرنك فرنسي، ثم من الفرنك إلى الدولار الخ. انتهى بها الأمر مع نقود حجرية لا يمكن صرفها. شارك في هذا العمل الأدائي ـ من دون أن يدروا ـ حوالى 60 صرّافاً جالت عليهم الفنانة، فتحوّلوا إلى الممثلين المباشرين لمنظومة اقتصادية رأسمالية أرادت جاسر نقدها من دون خطابات مرافقة وداعمة. تركت لذلك الفعل الأدائي البسيط ونتائجه أن يشكّل مثالاً فاضحاً للعالم الاقتصادي المتحكم بإفلاسنا.
مع انتقالها للعيش في نيويورك، صمّمت جاسر عام ١٩٩٩ بطاقات عيد الميلاد بأسلوب مشابه لتلك المتوافرة في الأسواق الأميركية، حيث أظهرت مثلاً مغارة بيت لحم، مضيفةً بعض العناصر على تلك الصور كطائرات إسرائيلية حربية محلقة فوق المغارة. بعدها، وزّعت تلك البطاقات خلسة ضمن البطاقات المعروضة للبيع في المتاجر في نيويورك. بطاقات «عيد الميلاد» وصلت إلى أيدي مواطنين أميركيين قد لا يلتفتون يوماً إلى الحملات الداعية إلى حقّ الفلسطينيين في أميركا، لكنّها اليوم بين أيديهم، وفي منازلهم. هكذا، اخترقت جاسر جمهوراً لا تعرفه ولا يعرفها، وأنشأت علاقة لا تتحكم بها، لكنّها قد تدفع أميركياً ممن يحتفل بولادة المسيح إلى مساءلة دوره ــ كدافع للضرائب ــ ودور حكوماته الداعم لتدمير الاسرائيليين للمدن التي ولد وعاش فيها المسيح مثل بيت لحم والناصرة والقدس.
أما عام ٢٠٠٠، فطلبت جاسر من 60 فلسطينياً يعيشون في نيويورك أن يكتبوا إعلانات شخصية ويرسلوها في الوقت نفسه إلى نشرة Village Voice في نيويورك. حينها، طلبت من المشاركين التزام توجيهين بسيطين: الأوّل أنّه ينبغي لكل مشارك (ة) السعي للحصول على صاحب (ة) يهودي (ة) من أجل العودة إلى الديار باستخدام قانون «العودة» الإسرائيلي، والثاني استخدام كلمة «ساميّين» لوصف أنفسهم باعتبارها وسيلة للطعن في السياق الأميركي الأوروبي حيث تختصّ «السامية» فقط باليهود. حمل المشروع عنوان «السامي المثير». كررت الفنانة المشروع عام 2001، ومن ثم في عام 2002​ ضمن العدد الخاص بـ»عيد الحب». عندها لاحظت الوسائل الإعلامية الأميركيّة الأمر وعلّقت بأنه يمثّل تهديداً إرهابياً. خرق جديد للخطاب السياسي السائد، يخاطب جمهوراً واسعاً، مستعيناً بمفردات العدو ليعيد قلب الواقع السياسي.

وفي العمل التداخلي Stazione الذي كان مقرراً تقديمه في «بينالي البندقية 53» (٢٠٠٩)، أرادت جاسر أن تكتب عناوين المحطات على وسائل النقل المائية في البندقية باللغة العربية إلى جانب تلك المكتوبة أصلاً بالإيطاليّة، مسائلةً التاريخ المنسي الذي يربط البندقية بالعرب. لكنّ البلدية ألغت تنفيذ العمل بطريقة مفاجئة. وفي جزء من عمل ex libiris الذي أنتج «لدوكومنتا ١٣» (٢٠١٢)، طبعت جاسر ورسمت لوحات كبيرة على الشارع تظهر إهداءات نقلتها من 30 ألف كتاب نهبتها القوات الاسرائيلية من منازل ومكتبات ومؤسسات فلسطينية عام 1948، علماً أنّ بعضها موجود اليوم في «المكتبة اليهودية الوطنية» في القدس الغربية ضمن خانة «ممتلكات مهجورة». إهداءات تتضمن أسماء فلسطينيين ومدناً ومؤسسات في تواريخ تسبق تاريخ نشوء الكيان العبري.

ما يميّز تلك الأعمال أنّها سياسيّة بامتياز ذات أفعال بسيطة وأغلبها أدائية تخاطب جمهوراً واسعاً خارج حدود العلبة البيضاء. أما ما هو معروض داخل الغاليري، فليس سوى توثيق لها. وتبقى تلك الأعمال مداخلات سياسية مباشرة ومهمة في المنظومة الكبرى، وليس فقط ضمن فقاعة المثقفين. والأهم أنّ جاسر اختارت أن تقدّمها كما هي، كفعل سياسي لا يحتاج إلى شروحات، ولا يمكنها التحكم لا بمتلقيه ولا بوسيلة تفاعله معه، تاركةً تلك الأعمال تمارس فعلها في منأى عنها. 

الأسد الذهبي
عام 2007، استحقّت إملي جاسر جائزة «الأسد الذهبي»، في الدورة الثانية والخمسين من «بينالي البندقيّة»، عن «مادة من أجل فيلم». في عملها التجهيزي الفائز، تتبعت الفنانة الفلسطينية قصة اغتيال الدبلوماسي والأديب الفلسطيني وائل زعيتر في روما عام 1972. استعانت بكتاب «ألف ليلة وليلة» الذي كان زعيتر يعمل على ترجمته إلى الإيطالية، ويتأبطه حين أطلق عليه القتلة الرصاص، لتستقر إحداها في الكتاب. هذا العمل بدأته جاسر عام 2005 كمشروع متواصل in progress، قائم على البحث. من خلال الفوتوغرافيا والسينما والأصوات والمواد الأرشيفية، لاحقت جاسر عملية الاغتيال ليأتي عملها متقصّياً للمصائر، وانتقاماً لروح زعيتر بعد حوالى 35 سنة على اغتياله.
حتّى 23 نيسان (أبريل) 2015 ــ «دارة الفنون» (عمان) ـ للاستعلام: daratalfunun.org

«رواق» من بيروت إلى فلسطين

images courtesy of Ashkal Alwan / photo by Dina Khouri
إنطلقت الفعالية الثانية لـ «بينالي رواق الخامس» في مركز «أشكال ألوان» في بيروت عبر ورش ومحاضرات بعنوان Traction 2 تستمر حتى الجمعة.
يتميّز بينالي رواق عن سائر البينالات في العالم بأنّه يحمل إسم مؤسسة وليس إسم مكان، كما يتميز بإختلافه في هيكليته وطريقة عمله، لا بل يمكن إعتباره نقداً صريحاً لطريقة عمل البيانالات الضخمة في العالم. يشرف الفنان الفلسطيني خليل رباح على الإدارة الفنيّة للبينالي، طارحاً في كلّ دورة له شكلاً ومضموناً جديدان. 

خلال الافتتاح، تكلم رباح عن البينالي. ثم استعرض المعد الفني للدورة تيرداد ذو القدر المكونات الخمسة التي يستند إليها في رؤيته للبينالي، ومنها Traction التي تقدّم في جزئها الثاني في بيروت من إنتاج وتنظيم «أشكال ألوان»، ضمن برنامج «أشغال داخلية». بعدها كانت الكلمة لخلدون بشارة المدير الحالي لـ «مؤسسة رواق»، ثم لسعاد العامري.

كانت سعاد العامري آخر المتحدثين خلال ليلة الإفتتاح، ولكننا سوف نتوقف عند مداخلتها الشيقة لكي نحدد سياق عمل البينالي اليوم.  أسست سعاد العامري، المهندسة المعمارية والكاتبة التي عرفناها مع روايتها الشهيرة ”شارون وحماتي“،  "مركز المعمار الشعبي - رواق"  في رام الله، عام 1991. "رواق" مؤسسة فلسطينية أهلية غير ربحية تعمل على حماية الممتلكات الثقافية والمعمارية والطبيعية في فلسطين. إنطلقت فكرة المركز من بيروت، حين إطلعت العامري على كتاب ”All That Remains“ (كلّ مل تبقّى) للمؤرخ الفلسطيني وليد الخاليدي، والذي يؤرّخ لأكثر من ٤٠٠ قرية فلسطينيّة قام الإحتلال لإسرائيلي بهدمها عام 1948، فكانت الحاجة ضرورية للعمل على حماية القرى المتبقيّة، فولدت ”رواق“. 
منذ عام 1994 حتى عام 2007 تمكن المركز من إصدار 3 مجلدات ضخمة تتضمن معلومات، وخرائط، وصور ل420 قرية فلسطينيّة تحت عنوان ”السجل الوطنيّ للمباني التاريخيّة“. أما اليوم فتصبّ "رواق" مجهودها على ”مشروع الخمسين قرية“ الرامي إلى ترميم 50 قرية فلسطينية وتأهيل بناها التحتيّة وتحسين ظروف عيشها، وتأمين فرص العمل فيها.
أمّا البينالي فولد بهدف توسيع نطاق عمل "رواق" ونهجها، خاصة ضمن ”مشروع الخمسين قرية“. يأتي هذا البينالي مع أجندة واضحة، تتسق مع جهود "رواق" في إظهار وكشف الأهمية المتنامية سياسياً ومعرفياً وثقافياً لكل هذا الميراث العمراني في القرى والبلدات الفلسطينيّة.
وعوضاً عن الاعتماد على التمثيلات الفنية لهذه القضايا، يهدف "بينالي رواق الخامس" إلى تحقيق عددٍ محدود من الاقتراحات المتواضعة. تتضمّن هذه الاقتراحات الترويج لأجندة رواق وإثرائها، وتعقّب تسلسل الإنتاج الثقافي الإقليمي، وهيكلة "بينالي رواق الخامس" حول نشاطات عامّة، قائمة في رام الله وخارجها، إضافة إلى تطوير برنامج تعليمي، والعمل على تلبية احتياجات الممارسين الثقافيين الناشئين، بالتّعاون مع مؤسَّسات فنيّة محلية وعالمية. ويتمّ تطوير مواقع هذه الأنشطة وغيرها من قبل "رواق" بالاشتراك مع فنّانين ومعماريين وطلّاب.
تقديم جزء من فعاليات بينالي رواق الخامس في بيروت، لأمر في غاية الأهميّة، وما دام الجمهور اللبناني غير قادر على الذهاب إلى فلسطين فها هو البينالي هنا.
«بينالي رواق الخامس»: حتى بعد غد الجمعة ــ «أشكال ألوان» (جسر الواطي، بيروت) ــ 01/423879
للإطلاع على البرنامج، والمشاركة في فعالياته.
http://ashkalalwan.org/programs/hwp-14-15/   

يوسف طعمة: «رجل مريض» اسمه بيروت

من الكتاب: «جبل صيدا» (2011) للفنان زياد عنتر
أصدر المعماري يوسف طعمة أخيراً كتاب Intensive Beyrouth الذي يقارب الهندسة والتنظيم المديني في العاصمة اللبنانية بين الأمس واليوم.
«بيروت مكثّفة» Intensive Beyrouth هو عنوان الكتاب الذي أطلقه المهندس المعماري يوسف طعمة ضمن «معرض الكتاب الفرنكوفوني في بيروت» مع Editions Norma الفرنسيّة. تولّت المهندسة المعماريّة والناقدة كارين دانا مهمة تحرير الكتاب وإجراء المقبلات فيه، علماً أنها تعمل حالياً على مشروع فيلم بعنوان «أحلام معماريّة» (إنتاج مشترك بين aaa Productions وشركة «أرجوان») حول الهندسة المعماريّة ليوسف طعمة.
لإطلاق الكتاب، قدّم طعمة في زاوية «أغورا» محاضرة رافقه فيها الفنان زياد عنتر الذي يشارك عبر صوره الفوتوغرافية في الكتاب. وقامت غادة الصايغ (محاضرة في معهد الفنون البصريّة والسمعيّة في «جامعة القديس يوسف») بإدارة المحاضرة والنقاش. خلال المحاضرة، تكلّم طعمة عن طبيعة مدينة بيروت المتحوّلة باستمرار. تحوّل لا يعتبره عائقاً بقدر ما هو مصدر إلهام له ولمكتبه المعماري. تحوّلات تفتح مجالاً أمام تحديّات كبيرة حول طبيعة ودور الهندسة المعماريّة في مدينة مثل بيروت. يجد طعمة أن الحرب علّمتنا أن نستثمر المساحة بشكل مختلف. خلال الحرب، كنّا أكثر حنكة في كيفيّة تطويع المساحات وإعادة توظيفها في خدمتنا، بأسلوب حر وغير رسمي. أمّا مع انتهاء الحرب وبدء مرحلة الهدم وإعادة الإعمار المنظم منه والعشوائي، فقد أقدمنا على مرحلة عبثيّة في العمران، خصوصاً في ما يطاول كثافة العمران العشوائي على البحر وفي الجبل. من جهة أخرى، يتخوّف طعمة من انعدام المساحات العامّة المشتركة والحرّة في بيروت، تلك المساحات التي تجمع الخاص بالعام. وتوقّف عند تحوّل منطقة وسط بيروت التابعة لشركة «سوليدير»، إلى منطقة ينتفي فيها العام. لا يمكنك التوقف لحظة في الشارع من دون أن تلتقطك كاميرات المراقبة، ويأتي أحد لسؤالك عن سبب وقوفك على الرصيف، في حين أنّه يُفترض أنك تمتلك حريّة التصرف والوقوف والانتظار في مكان عام كالشارع أو الرصيف.
يقدّم الكتاب توصيف طعمة للهندسة المعمارية لبيروت اليوم، وتنظيمها المديني، مستعيراً من الفنان السويسري جياكوميتي عنوان عمله الشهير «الرجل الذي يمشي»، ليصف بيروت بـ «رجل مريض يمشي». لا يهتمّ طعمة اليوم بمواضيع الحرب، بل ما يشغله مواضيع مثل الفراغ، والأفق، والجو. يشكل الفراغ جزءاً أساسياً من عمل طعمة. يعتبر أنه يؤمن احتمالات الحلم والحريّة. هكذا يستعرض في الكتاب تلك العناصر عبر أعمال نفّذها في لبنان. في فيلا T في قرنة شهوان مثلاً، كان الهدف دفع حدود الهيكل الأساسي، ومعه حدود الداخل والخارج لمساءلة أوسع للفضاء ضمن إطاره الوظائفي. هكذا، تمّ خلق مساحات واسعة وشاسعة لا تحدّها جدران، بل تؤمن فرصة لسكان الفيلا بتوظيف المساحات المطروحة وفق رغباتهم المتغيّرة وبطريقة خلاقة. أما في مشروع فيلا SC في العاقورة، وفيلا M في قرنة شهوان، فكان الهدف يصبّ في عدم الثرثرة على الطبيعة، بل بناء بيوت لا تفرض ذاتها بهيكليّتها كجسم غريب على الطبيعة، بل كجزء منه. حقّق ذلك عبر لون الحجر المستعمل والمتوافر في الطبيعة المجاورة، أو عبر خلق جدول مياه غير مرئي تحت البيت ليضفي صوتاً متناغماً مع المحيط، أو عبر تصميم المنزل بشكل يبدو كأنه جزء من منحدر أو جرف طبيعي في الجبل. أما في مبنى «جامعة القديس يوسف» الجديد، فكان الصمت والفراغ والمساحات العامة داخل المبنى وتفاعلها مع المساحات الخارجيّة من أهمّ العناصر التي تمّ العمل عليها. يختتم طعمة نصّه في الكتاب بسؤال «هل نستطيع أن نبني مدينة نشعر فيها كما نشعر أمام البحر والجبل وفي الغابة؟ في منطقة مفتوحة حيث يتمّ حصر المقاييس المدينيّة بحدها الأدنى، ويتحول التركيز إلى اختبار للّامحدود؟».
في مقابل نص طعمة، يقدمّ الكتاب ١٦ صورة فوتوغرافية للفنان زياد عنتر. يقول الأخير إنه عندما طلب منه تصوير بيروت، راح يبحث عن الطريقة المثلى لإنتاج تلك الصور. لكن بحثه قاده إلى قرار عدم تصوير المدينة، بل صوّر ــ من البحر ــ الخط الساحلي الذي يجمع مدينته صيدا ببيروت. اختار أن يتوقّف عن التصوير لحظة وصوله إلى حدود بيروت، وبذلك يقدّم لنا في الكتاب ١٦ صورة لا تحتوي فعلياً على صورة لبيروت. استعان الفنان بالأفلام المنتهية المدّة التي حصل عليها من «استديو شهرزاد» في صيدا، كما فعل في أعمال سابقة له، منتجاً صوراً خاصة لا يمكن التحكمّ بنتيجتها خلال فترة التصوير.
كما يشتمل الكتاب على مقابلات مع المعماري طوني شكر، والكاتب حازم صاغيّة، ومغنّي فرقة «مشروع ليلى» حامد سنّو ومديرها كريم غطّاس، والفنان زياد أبي اللمع، بالإضافة إلى نصّ بقلم المهندسة كريس يونس، ونصّ آخر بقلم كارين دانا.
«بيروت مكثّفة» يحاول إعادة فتح النقاش حول دور الهندسة المعماريّة في العاصمة ولبنان اليوم.
«بيروت مكثّفة» متوافر لدى «مكتبة أنطوان».

الرملة البيضاء تقاوم الخصخصة بالموسيقى

تصوير جورج حدّاد
على شاطئ الرملة البيضاء في بيروت، قام المعماري والمنتج الموسيقي السوري أحمد خجا بنصب قوس خشبي منذ نهار الأربعاء. القوس الذي صمّمه خجا بمساعدة عبد الرحمن حمّود، مؤلف من صناديق خشبيّة مركبّة بوحي من تقنيّة بناء العقد. وتحتوي بعض تلك الصناديق على إضاءة تنير القوس والمساحة حوله. أمّا الصناديق الأخرى، فتحتوي على مكبرّات صوت. ما عليك سوى أن تقصد رملة البيضاء مع جهاز التلفون، وشبكه عبر البلوتوث مع العمل الفنيّ كي تتمكن من لعب الموسيقى التي تريد، مساهمة منك في مشروع «إذاعة مفتوحة».
قدّم أحمد خجا العمل المنتج بدعم من «آفاق»، و«السبيل»، و«نحن»، و«الخطّ الأخضر» للمرة الأولى في حرش الصنوبر في بيروت. لكنّ القوس كان قائماً وسط الحرش في تلك المنطقة التي لا يستطيع الوصول إليها إلا من يمتلك إذناً لذلك. من هنا رغب الفنان في نقل عمله من تلك مساحة العامّة إلى أخرى يستطيع أيّ كان الوصول إليها. وإذا كان مشروع «إذاعة مفتوحة» سيقدّم طوال الشهر الجاري عند شاطئ رملة البيضاء، إلّا أن خجا يقول لـ «الأخبار»: «سوف نحاول نقل المشروع إلى جميع المساحات العامّة في لبنان، خصوصاً تلك المهددة بخطر التحول إلى ملك خاص. كما سنعمل على تقديم المشروع خارج بيروت، في سائر المدن اللبنانيّة التي تعاني أيضاً من نقص المساحات العامّة“.
يعمل مشروع ”إذاعة مفتوحة“ على جلب الناس إلى الأماكن العامة في لبنان وتفعيلها، خصوصاً تلك المهملة بهدف لفت الانتباه إليها، وتفاعل الجمهور معها. شاطئ رملة البيضاء الذي ما زال حتى اليوم مفتوحاً للجميع، هو فعلياً ملك خاص لا ندري في أيّ يوم نصحى فيه لنجده مسيجاً كما حصل مع منطقة الدالية.
غير أن عدداً قليلاً من أهل بيروت يقصدون ذلك الشاطئ، لأسباب عديدة منها تلوّث المياه، أو خوفاً من التعرض للسرقة أو الاعتداء. ذلك ناتج من اهمال الدولة اللبنانيّة والبلديات في توفير مساحات عامّة آمنة ونظيفة، تدعو أهل المدينة إلى مشاركتها. علماً أنّ معظم المدن العالميّة البحريّة وخاصّة المتوسطيّة مثل بيروت، تصحو وتنام على تفاعلها مع البحر. مثلاً في مدينة برشلونة، شاطئ رمليّ عام مقصود من الملايين من السياح من العالم سنوياً. تهتمّ البلديّة بإبقائه نظيفاً وحراسته وحمايته من التعدي، وينمو على خطّ مواز له (ضمن مسافة يفرضها القانون) عدد لا يحصى من المقاهي والمطاعم والبارات التي تحشد الزبائن من أولى ساعات الصباح حتى أواخر ساعات الليل، فتجد المدينة في تفاعل مع انفتاحها على البحر، وليس كما هي حال بيروت التي تدير ظهرها إلى البحر.
بالتأكيد، تلك العلاقة مع البحر في بيروت فرضتها سياسات وممارسات قديمة، منها إهمال الدولة اللبنانيّة لمراقبة تلوّث البحر، وعدم منعها استملاك الأملاك البحريّة، ثمّ السماح بإنشاء المنتجعات والمقاهي والمطاعم الخاصة على الشاطئ ذات تسعيرات الدخول الباهظة، وصولاً إلى تسييج الكورنيش البحري. جميع تلك السياسات جعلت بيروت مدينة متنكّرة لطبيعتها البحريّة. ولكن ها هو شاطئ الرملة البيضاء ما زال شبه مساحة عامّة، فحتى لو كنّا لا نريد السباحة في مياهه الملوثّة، يعطينا مشروع ”إذاعة مفتوحة“ الفرصة كي نقصده وحدنا أو ضمن مجموعات ليلاً كي نتمشى على الشاطئ ونستمع عالياً إلى موسيقى من اختيارنا. قد يبدو ذلك فعلاً بسيطاً وترفيهياً، لكنه في الحقيقة فعل مقاوم في وجه الخصخصة التي تجتاح المدينة والبلد. اذهب إلى شاطئ الرملة البيضاء وأعلن أن ذلك الشاطئ وذلك البحر وتلك المدينة لك، وأطلق موسيقاك عالياً في فضاء المدينة، واختبر في تلك المساحة التي يقترحها المشروع، فعل مشاركة مساحة عامّة مع مواطنين آخرين. لكن انتبه إلى عدم لعب موسيقى ”المخدرات الرقميّة“ لئلا تجد نفسك في مواجهة مسخرة دولتنا العظيمة!
المشروع الذي افتتح نهار الأربعاء، يوازيه برنامج يومي. هكذا لعب خيري إيبيش ومجد الحموي وأحمد خجا تسجيلات موسيقيّة نهار الخميس، واستقبل حفلة طبل أفريقي نهار الجمعة. أمّا الليلة فدعوة لمشاركة الرويات عن الداليّة والرملة البيضاء دفاعاً عن المساحات العامّة عند الساعة الرابعة والنصف، فيما تخصص سهرة الغد لموسيقى الريغي.