في المختبر السرّي لسهيل سليمان

الفنان المقيم في عاصمة الضباب، خارج عن المنظومة ومعايير السوق. زار مرة «دوكيومنتا» الشهير، فخال نفسه في عالم «فوغ ماغازين». معرضه الحالي في «أجيال»، يبقى وفياً لأسلوبه المبني على الاشتباك مع المتلقّي واستدرار تفاعله.
بالتعاون مع القيمة الفنية أماندا أبي خليل، تقدّم «غاليري أجيال» معرضاً فردّياً واستثنائياً بعنوان Just About Touching The Structure للنحات اللبناني سهيل سليمان. الاستثنائي في معرض سليمان أنه لا يقدّم منحوتاته بل يكشف لنا مراحل تطوير أعماله الفنيّة عبر رسوماته. خلال زيارة قامت بها أماندا أبي خليل إلى محترف سليمان في لندن، لفت انتباهها كمّ الرسومات الموزّعة على الجدران. هكذا، ولدت فكرة المعرض بعد حوار طويل بينها وبين الفنان حول كيفيّة عرض تلك الرسومات في بيروت.
بدأ سهيل سليمان (١٩٥٢) عرض أعماله منذ بدايات الثمانينيات في لندن حيث يقيم حتى اليوم. يصعب حصر أعماله في خانة النحت الكلاسيكي، هو يميل غالباً إلى موضعة منحوتاته ضمن سياق تجهيزات فنيّة تفاعليّة مع الجمهور، ومتبدّلة وفق تفاعل الجمهور معها.
في ٢٠٠٨، قدّم سليمان عمله Raining Stones (تمطر حجراً) في «غاليري جانين ربيز» في بيروت. ارتكز التجهيز إلى منحوتة مصنوعة من حجارة مصبوبة ضمن قالب من الشمع. المنحوتة معلقّة فوق صحن حديدي ومحاطة بمولدات لشعلات حرارية. تلك المولدات تتفاعل فقط مع اقتراب الجمهور من المنحوتة، فتلقي اللهب عليها ليذوب الشمع فتتساقط الحجارة على الصحن الحديدي مصدرة صوتاً يُسجّل ويعاد بثّه في باقي غرف المعرض، بالإضافة إلى فيديو ينقل مباشرة تحولات المنحوتة في غرف أخرى. تلك المنحوتة التفاعليّة استوحاها سليمان من خبر قرأه في الصحف خلال الانتفاضة الثانية عن مروحيات اسرائيليّة تحلّق فوق الضفة وترمي أحجاراً من السماء. يضعنا سليمان ضمن تجهيزه في موقع المسؤول عن الفعل، عن تساقط الحجارة، ثمّ يمدد منحوتته في الزمان والمكان ويدعها تتخذ أشكالاً أخرى أكان عبر الصوت أو الصورة المنقولة مباشرة إلى غرف أخرى.
يتحوّل الفعل الملموس أمامنا والمشاركون في صنعه، إلى مجرّد صوت في الغرفة المجاورة، أو صورة في غرفة أخرى. عبر تجوّل زوار المعرض في أروقته، يتحوّلون ضمن مسارهم من المسؤول عن الفعل إلى متلقيه في أشكال متعددة تماماً كما يحدث مع الأحداث التي تجري حولنا، فنقرّر أن نتفاعل معها كمسؤولين عن الفعل، أو كمجرّد مشاهد له، أو قارئ لخبر في الصحيفة قبل أن ننقل نظرنا إلى خبر آخر.
كما في «تمطر حجراً» كذلك في أعماله الأخرى، يبحث سليمان عن تفاعل المشاهد مع عمله، مورّطاً إيّاه بشكل مباشر في تحوّل المنحوتة، وواضعاً إياه في موقع المسؤول عن خياراته في تلك اللحظة المباشرة، وبذلك في موقع المسائل للفعل الأكبر ضمن السياقات السياسية والاجتماعيّة على نطاق أوسع.
تلك المسؤولية في الخيارات التي يلقيها سليمان على المشاهد لم يتنصل منها كفنان بحدّ ذاته، بل اختار منذ سنوات عدة أن يتّخذ موقفاً واضحاً من تطوّر السوق الفنية العالمية. رغم أنه قدّم معارض فرديّة عدة وشارك في أخرى جماعيّة بين بريطانيا وعدد من الدول الأوروبية الأخرى ولبنان حتى «بينالي الإسكندريّة» عام ٢٠٠٧، إلاّ أنّه لم يدخل عالم الغاليريهات وليس لديه من يقيم له المعارض الدوريّة ويبيع أعماله في الأسواق الفنيّة، لأنه هكذا اختار.
في حوار بين سليمان وأبي خليل، يعلّق سليمان على منظومة العالم الفني المعاصر من الغاليريهات والمتاحف والمعارض الضخمة التي لم يفهم يوماً أسلوب عملها أو حاجتها، لا بل يستذكر زيارته إلى معرض «دوكيومنتا» مرّة بأنّها كانت أشبه بزيارة إلى عالم «فوغ ماغازين». انطلاقاً من ذلك الموقف، دارت النقاشات بين أماندا أبي خليل وسهيل سليمان حول كيفيّة تقديم أعماله في «غاليري أجيال» في بيروت. وإذا كانت أماندا مهتمّة بعرض الرسومات، فكان لا بدّ من إيجاد سياق عرض لا يتناقض مع موقف الفنان من السوق الفنيّة. هكذا، اقترحت أبي خليل على سليمان تحويل ذلك المكعب الأبيض في «غاليري أجيال» إلى فضاء مختلف أشبه بمحترفه في لندن. تركت للفنان الحريّة الكاملة في إعادة تصميم المكان، وتوزيع الرسومات بالطريقة التي يجدها الأنسب. تقول أبي خليل لـ «الأخبار»: «كنت فقط الوسيط الذي عمل على إقناع سهيل بضرورة إخراج تلك الرسومات من سياق المحترف الخاص إلى المعرض، بسبب الأهميّة الفنيّة التي وجدتها فيها، لكنني لم أرد أن آتي من قلب المنظومة الفنية التي يتموقع سهيل خارجها، وأفرض عليه قوانينها. تركت له الحريّة في تقديمها بالشكل الذي لا يتعارض مع مسيرته الفنيّة». من جهّة أخرى، كان إصرار سهيل على تقديم أعماله بأسعار متاحة لجميع زوار المعرض من ١٠٠ حتى ٩٠٠ دولار أميركي. ويوضح لـ «الأخبار»: «تلك الرسومات ليست اسكتشات لمنحوتاتي، بل رسومات ألجأ إلى تنفيذها خلال مراحل تطوير المنحوتات. رسومات تساعدني في اختبار أشكال وأبعاد مختلفة على الورق». هكذا يقدم في المعرض مجموعة من الرسومات لأعمال تمّ تنفيذ بعضها، وأخرى لم ترَ النور يوماً بعد. واختار أن لا يقدّم صوراً توثيقيّة للمنحوتات التي أنجزها انطلاقاً من تلك الرسومات، إذ أراد لتلك الأخيرة أن تقدّم كأعمال فنيّة مستقلّة عن المنحوتة.
في «غاليري أجيال» الذي تحول إلى محترف النحات سهيل سليمان، لا منحوتات، بل رحلة في عالمه الفنيّ الخاص. فرصة للتعرّف إلى فنان اختار أن يتابع إنتاج أعمال فنيّة من خارج المنظومة المتحكمة بالسوق الفنيّة اليوم. إنّها رحلة استثنائية يدعونا فيها الفنان إلى الغوص معه في كواليس تجاربه ورسوماته التي تسبق تنفيذ منحوتاته. 

* Just About Touching The Structure لسهيل سليمان: حتى ٦ كانون الثاني (يناير) ــ «غاليري أجيال» (بيروت). للاستعلام: 01/345213
(الحمرا) ـ للاستعلام: 01/345213


بيروت في مرايا بيستوليتو




المعرضالاستعادي الذي يحتضنه «مركز بيروت للمعارض»، يشكّل فرصة استثنائية للاطلاع على أعمال المعلّم الإيطالي الذي رسم انعطافات في تاريخ الفنّ المعاصر. مساحة نادرة، لا لتتبع تجربته الممتدة من الستينيات إلى اليوم فحسب، بل أيضاً للظهور في مراياه كجزء من أعمال لا تكتمل من دون الجمهور!
يعدّ مايكل انجلو بيستوليتو (1933) أحد أهم الفنانين العالميين الذين رسموا انعطافات في تاريخ الفنّ المعاصر. هناك ما قبل مرآة بيستوليتو وما بعدها. يقدّم «مركز بيروت للمعارض» (بيال ــ بيروت) مختارات من أعمال الفنان الإيطالي الممتدة من الستينيات حتى اليوم، ضمن معرض استعادي يشكّل فرصة مميزة للاطلاع على أعمال أحد مؤسسي «آرتي بوفرا» (الفن الفقير) عن كثب، وعلى الانعكاس في مراياه.
منذ إنتاجاته الأولى في الخمسينيات، كان بحث بيستوليتو يرتكز على مفهوم التمثيل بدءاً برسم البورتريه الذاتي. تطوّر بحثه وبدأ بخوض مرحلة الانعكاس في المرآة كعنصر أساسي في مفهوم التمثيل. وقبل الخوض في مرايا بيستوليتو، لا بدّ من الإشارة إلى أن أعماله ظهرت في مرحلة خصبة للفنّ المفاهيمي. مرحلة كرّسها مارسيل دوشان في أوائل القرن العشرين عبر عمله «النافورة» (١٩١٧)، وصولاً إلى أعمال لوتشيو فونتانا مقدّماً Cuts أوّل أعماله حول الكانفاس الممزقة بسكين بين ١٩٥٨ و١٩٦٨، وغيرهارد ريختر راسماً البورتريهات عن صور فوتوغرافيّة في أوائل الستينيات. بين فونتانا الذي قدّم الكانفاس، تلك المساحة المنسيّة من اللوحة كموضوع العمل الفنيّ بحدّ ذاته، وريختر الذي ساءل صفة التمثيل بين الصورة الفوتوغرافيّة والبورتريه المرسوم، انصبّ اهتمام بيستوليتو في الستينيات على تحويل موضوع لوحته البورتريه، إلى ما يتخطى المادة والبورتريه المرسوم أي إلى انعكاس الجمهور والمساحة المحيطة باللوحة، داخلها، عبر المرآة.
في المانيفيستو الأول عام ١٩٦٤، يقول بيستوليتو: «ليس الشيء (المرآة) عملاً فنيّاً بحدّ ذاته، إنما الفكرة التي تخصّ ذلك الشيء قد تكون كذلك». يعتبر بيستوليتو أن المرآة لا تشكّل عملاً فنيّاً بمجرد تعليقها على الحائط في الغاليري، بل تتحول عملاً فنياً في اللحظة التي ينظر إليها أحد، فيرى انعكاساً.
بدأ بيستوليتو مشوار الانعكاس عبر رسم لوحات بورتريه ذاتي على خلفيّات ذهبية وفضية ونحاسية، من ثم راح يرسمها على خلفيّة سوداء عاكسة في مجموعة «الحاضر» (١٩٦١). بعدها، قدم مجموعة «لوحات المرايا» عام ١٩٦٢ حيث رسم بطرف ريشته فوق صور فوتوغرافية بمقاس طبيعي ملصقة على مرايا «ستانليس ستيل»، فتظهر في تلك الأعمال شخصيات مرسومة في الجزء الأمامي من اللوحة وانعكاس الجمهور في الجزء الخلفي. نالت لوحات «المرايا» شهرة عالمية وأدخلت بيستوليتو إلى أهم المعارض بين أوروبا وأميركا. لكن الضغط الذي مارسه بائعو اللوحات على الفنان لإنتاجٍ أغزر وللقدوم إلى الولايات المتحدة حيث السوق الفنيّة أضخم، دفع به إلى الانعزال في محترفه في تورينو ليتحرّر من ثقل مراياه، وشهرتها العالمية. من محترفه في تورينو، قدّم مجموعته «أشياء ناقصة» (Minus Objects) الشهيرة عام ١٩٦٦ التي أسست لتيّار «آرتي بوفرا» الذي يلجأ إلى مواد نستعملها في حياتنا اليوميّة. هكذا تألّفت «فينوس الخرق» (١٩٦٧) من تمثال غرانيت لفينوس تدير لنا ظهرها، وأمامها تلّة من الخرق الملوّنة التي كان يستعين بها لمسح مراياه، لتصبح تلك الخرق البالية بألوانها المزركشة أكثر حياةً من التمثال الكلاسيكي بغرانيته البارد.
في تلك الفترة من التجارب، أطلق بيستوليتو أيضاً سياقاً جديداً للعمل تحت عنوان Zoo عبر «مانيفستو التعاون» في «بينالي البندقيّة» (١٩٦٨). سياق دعا فيه مجموعة كبيرة من الفنانين إلى عدم التنافس بل التعاون على خلق أعمال مشتركة. كذلك أنتج كتاب «مئة معرض خلال شهر أكتوبر» الذي قدم فيه مئة فكرة لمئة معرض لتنفّذ خلال شهر واحد، وقد نفّذ بعض تلك الأفكار لاحقاً في معارض مختلفة. في السنوات اللاحقة، عاد بيستوليتو للاختبار في المرايا، منتجاً أعمالاً عدة حتى اليوم. في «مركز بيروت للمعارض» نتابع مساراً مهمّاً من تلك التجربة عبر تطورها الزمني. كذلك صبّ اهتماماً آخر في إنتاج المنحوتات الكبيرة والتماثيل، وصولاً إلى «علامة الفنّ» عام ١٩٩٣ التي يخصص المعرض في بيروت غرفة لها. إنها علامة مؤلفة من مثلثين مستوحيين من شكل جسم الإنسان مفتوح اليدين والأرجل، وقد صنع منها أعمالاً عدّة كأبواب وطاولات وأسرّة... عام ١٩٩٨، أسس مختبر Cittadellarte الناشط حتى اليوم في إلهام وإنتاج تغيرٍ مسؤول في المجتمع بواسطة أفكار وأعمال خلاقة، وطاقم عمل ثابت في المختبر والعديد من الفنانين العالميين المدعوين لإقامات فنيّة دوريّة في المركز. في عام ٢٠٠٠، أطلق بيستوليتو مشروع «مكان للتأمل والصلاة» الذي نجد مثالاً عنه في معرضه الحالي، حيث تجتمع أربعة أديان: البوذيّة، واليهوديّة، والمسيحيّة، والإسلام، في مواجهة المرآة. خارج تلك المساحة، نجد لوحات من مجموعة أخرى متمحورة حول البحر الأبيض المتوسط التي أنتجها عام ٢٠٠٢. هكذا يشكل المعرض فرصة نادرة، لا للإطلاع على أعماله في بيروت فحسب، بل أيضاً للظهور في مراياه كجزء من أعمال لا تكتمل من دون الجمهور الناظر إليها والمنعكس فيها.
«معرض مايكل أنجلو بيستوليتو»: حتى 11 كانون الثاني (يناير) ــ «مركز بيروت للمعارض» (بيال ــ بيروت) ــ للاستعلام: 01/962000



«وضاءات» تلملم أشلاء الجسد العربي

أمس، اختتمت مجموعة «أصيل» فعاليات المنصّة الإبداعيّة التي تقام للمرة الأولى ضمن نشاطات جمعية «بينالي بيروت للصورة». المنصّة التي توزّعت على فضاءات عدة في لبنان، احتضنت لستة أيام معارض وورش عمل وعروضاً أدائية تعيد محاورة الجسد والإعاقة في أطر فنيّة ولغة مختلفة.
أمس، اختتمت منصّة «وضاءات» فعالياتها بحفلة بعنوان «توحّد» (الأخبار 8/12/2014) قدّمتها مجموعة «أصيل» للموسيقى العربيّة المعاصرة. «تَوَحُّد» مشروع موسيقيٌّ آليٌّ وضعه الموسيقي مصطفى سعيد، ويحاول مقاربة علاقة الموسيقي مع نفسه ضمن المجموعة، وكيف يمكن أن يكون في حالة عزلةٍ أثناء العمل الجماعي من دون إفساد العزلة ولا العمل الجماعي.
حفلة الأمس كانت النشاط الأخير الذي توّج ستة أيام من المعارض وورش العمل والعروض الأدائية وغيرها من الأنشطة التي توزعت بين «فيلا باراديسو»، «ستيشن بيروت»، ومغارة جعيتا حيث قُدمّت المنصة الإبداعيّة «وضاءات» للمرة الأولى في لبنان. تعدّ «وضاءات» النشاط الأول لجمعيّة «بينالي بيروت للصورة» ويتألف فريق عملها من فنانين وناشطين هم: غادة واكد (مؤسسة)، مارك أبي راشد، طارق شمالي، نايلة جعجع، مي غيبه، جيلبير الحاج، نتالي حرب، سحر ملك، رانيا الرافعي، جومانا صيقلي، مارينا صفير، ناجي زهّار، وكريستيان زهر. منصّة إبداعيّة مستوحاة من الظروف الجيوسياسية والاجتماعية الصعبة التي تشهدها المنطقة (لبنان، سوريا، العراق، والشرق الأوسط بشكل عام)، حيث فقدان أحد الأعضاء أو الوظيفة المرتبطة بالعضو، أو القدرة على استعمال هذا العضو بشكل فعال، لم تعد أمراً نادر الحدوث، بل من الأمور التي نعيشها يومياً. تعيش شعوب المنطقة اليوم زمناً تحكمه الحروب الدائمة، لا بل إننا وصلنا (أو بالأحرى عدنا) إلى زمن تُنحر فيه الرقاب. من هنا، شكّلت منصّة «وضاءات» في توجهها وبرنامجها حاجة أساسيّة لإعادة محاورة الجسد والإعاقة في أطر فنيّة ولغة مختلفة. وإن كانت الحروب تستطيع بثوان أن تقضي على جسد حيّ، وتحوّله إلى أشلاء، إلا أنّها أيضاً تخلف أجساداً أخرى مع إعاقات أبديّة وترمي أصحاب هؤلاء الأجساد في مجتمعات تضيف إلى تلك الإعاقات الجسديّة حواجز نفسيّة ولوجستيّة تصبح في أغلب الأحيان العائق الأساسي أمام أي ذي حاجات خاصة للانخراط مجدداً في مجتمعه. يمكن للشخص أن يولد مع إعاقة جسديّة أو فكريّة أو يصاب بها لاحقاً في حياته، لكن هذا الشخص يصبح فقط «معاقاً» عندما لا يسمح له المجتمع استكشاف حياته في كامل إمكاناتها. 
ما يميّز منصة «وضاءات» أنها لم تتبن الخطاب المباشر للجمعيات غير الحكوميّة التي تنظّم عادةً حملات توعية حول مواضيع مماثلة. لقد اختارت أن تخلق منصّة إبداعيّة يتشارك فيها أكثر من 50 فناناً ومهندساً وعالماً، بالإضافة إلى المشاركين في ورش العمل والتلاميذ وذوي الاحتياجات الخاصة. كل هؤلاء تعاونوا سوياً لتقديم أعمالهم الفنيّة وإنتاج ورش العمل. هكذا تكرّست «وضاءات» منصّة إبداعيّة واسعة الأفق، لا تتبنى هدفاً توجيهياً، بل على العكس لا تتوقف عند الإعاقة بحدّ ذاتها ولكن تتخطاها إلى الإنتاج الفنيّ والإبداعي الذي يمكن أن ينتج عن صاحبها عندما تتفكك القيود الخارجيّة والاجتماعيّة حوله. كما أنّ تنوّع الوسائط الفنيّة يحيلنا على تنوع اللغات الفنيّة التي قد تشكّل مقاربات عدة لكسر حواجز الإعاقات الجسديّة من دون التركيز على مقاربة واحدة ووحيدة.
قبيل افتتاح «وضاءات» أقامت الجمعية حفلة ليل ٢٨ تشرين الثاني (نوفمبر) في «فيلا باراديسو» لجمع التبرعات من أجل تغطية بعض تكاليف المنصّة، والعمل على تطوير مشاريع أخرى في المستقبل. أما في الافتتاح يوم الثالث من كانون الأول (ديسمبر)، فأُطلقت سلسلة المعارض وورش العمل والعروض والتجهيزات وقراءات الكتب الصوتيّة وغيرها من أشكال التعبير الفنيّ النابع من المنطق الإبداعيّ الذي أولد «وضاءات» التي امتدت حتى يوم أمس. في أحد المعارض التي حملت عنوان «ماذا لو» الذي شارك فيه أكثر من 100 تلميذ من حوالى 1200 مدرسة في لبنان بالتعاون مع وزارة التربية، طُرحت أسئلة مثل: ماذا لو كنت ضريراً، أول أصمّاً أو على كرسيّ متحرك؟ أسئلة طرحتها منصة «وضاءات» تطاول كلّاً منا. من الواضح أننا اليوم في هذا الزمن بحاجة إلى دورات جديدة ومنصّات أخرى مماثلة تقارب الجسد في مجتمعاتنا ذات الاحتياجات الخاصة أم لا. مقاربة بعيدة من الوعظ والتوجيه. مقاربة فنيّة تخلق آفاقاً جديدة تتخطى الإعاقات لتصبّ في الإبداع. تجربة مثيرة جداً للاهتمام، نتمنى أن نشهد لها دورات جديدة، وأنشطة أخرى في المستقبل لجمعيّة «بينالي بيروت للصورة».
* يمكن الاطلاع على تفاصيل المعارض وورش العمل على موقع المنصّة
albedo-platform.com

«ذاكرة» تيسير البطنيجي من دم... وشقائق نعمان

الفنان المولود في غزة والمقيم اليوم في باريس، يحلّ على العاصمة اللبنانية حاملاً معه «الصابون» و«أبراج المراقبة» و«ذاكرة المياه» وغيرها. في معرضه «الذاكرة دوماً خضراء» الذي تحتضنه «غاليري صفير زملر»، يواصل مساءلة السياق السياسي والاجتماعي والثقافي لبلده. 
يقول الفنان الفلسطيني تيسير البطنيجي (١٩٦٦) إنّه يحاول عبر أعماله أن يسائل السياق السياسي والاجتماعي والثقافي وحقائق بلده، محافظاً على مسافة ضروريّة من الأحداث اليوميّة هناك. اهتمامه يصبّ أولاً في الالتزام الفني، والنظرة الشخصية، والذاتية والشاعرية. لذلك، يبحث عن تقديم أعمال فنية تصبو إلى مقاومة الزمن بدلاً من أن تضمحل مع الحدث أو السياق الذي تثيره. هذا ما نراه جلياً في معرضه «الذاكرة دوماً خضراء» الذي تحتضنه حالياً «غاليري صفير زملر» في بيروت.
في تجهيزه الفنيّ الأدائي «حنّون» (١٩٧٢- ٢٠٠٩)، يفرش البطنيجي على الأرض مئات التسنينات ذات الأطراف الحمراء الناتجة من تسنين أقلام رصاص. اللافت هو التاريخ الذي يعطيه البطنيجي لعمله «حنّون». عام ١٩٧٢، كان الفنان يبلغ ستّ سنوات. لا بدّ من أنه العمر الذي كان فيه يسّن أقلام الرصاص مراراً وتكراراً هرباً من تنفيذ واجباته المدرسيّة خلال عطلة الصيف كما يقول. وعام ٢٠٠٩ هو العام الذي قدّم فيه للمرة الأولى ذاك التجهيز الفنيّ في «بينالي البندقيّة الثالث والخمسين» ضمن جناح خاص مكرّس لفلسطين. كأنّ فعل تسنين أقلام الرصاص لم يتوقف من حينها، منذ أن كان طفلاً يحاول الهرب من إنجاز واجباته الصيفيّة العبثيّة، إلى محاولة هروبه اليوم من إنجاز قراءة مباشرة للأحداث اليوميّة في وطنه.ليس الهروب هنا، جبناً، بل بحث في الفعل المتكرر.
فعل لجأ إليه الفنان في أعمال عدة سابقة. وهنا يحاول عبره أن يبحث عن قراءة بديلة، من مساحة شاعريّة وهشّة معلّقة بين الفعل ونتيجته. تلك الأقلام تمّ تسنينها بهدف الرسم. رسمة لا نراها، بل يكتفي الفنان في إظهار نتائج فعل التسنين من دون الغاية منه. تلك التسنينات تحيلنا أيضاً في شكلها إلى زهرة الحنّون أو شقائق النعمان. زهرة في لبنان تقول أساطيرنا إنّ الأرض أنبتتها بعدما شربت دمّ أدونيس الذي قتله الثور. وفي فلسطين، هي تنبت من دمّ الشهداء. في العمل الأصلي، تظهر على الحائط في آخر الغرفة صورة لمحترف البطنيجي في غزّة الذي كان يستحيل العمل فيه بسبب الظروف، ومن ثمّ أصبح غير قادر على الوصول إليه بعدما فرضت إسرائيل الحصار على غزة منذ عام ٢٠٠٦. اليوم، يقيم الفنان في باريس، ويعمل هناك عن أرض لا يستطيع العمل فيها. 
هكذا يحوّل البطنيجي المساحة الشاعريّة التي يخلقها في تجهيزه «حنّون» إلى غزّة، تلك المساحة الهشّة التي لا نستطيع الوصول إليها، وينبت الأقحوان فوق سطحها مشبّعاً بدماء الشهداء.
في «صفير زملر»، يقدّم البطنيجي تجهيزاً فنيّا مؤلفاً من قطع صابون حُفرت عليها عبارة «دوام الحال من المحال» (٢٠١٤). يطلب الفنان من زوار المعرض أن يأخذوا صابونة من التجهيز كيّ يختفي التجهيز رويداً. الصابون هو أحد الأغراض المرتبطة بشكل أساسي بالذاكرة الجماعية لفلسطين، وظهر في أعمال سابقة للفنان أيضاً، لكنّه يتلاشى هنا كما تتلاشى القرى والمدن والذاكرة.
من الأعمال الأخرى في المعرض، صور فوتوغرافيّة تحمل عنوان «أبراج المراقبة» (٢٠٠٨). في منتصف القرن الماضي، قام الثنائي الألماني المصوّر بيرند وهيلا بيكير بالتقاط صور فوتوغرافيّة لمنشآت صناعيّة بين أوروبا والولايات المتحدة بأسلوب محددّ وموّحد يهدف إلى إنجاز توثيق موضوعي لتلك المنشآت في المرحلة ما بعد الصناعيّة. عبر اللجوء إلى الأسلوب ذاته، يقدمّ تيسير البطنيجي صوراً توثيقيّة للمنشآت الحربيّة الإسرائيليّة في الضفّة الغربيّة. صور لـ «أبراج المراقبة» (٢٠٠٨) تشبه بشكلها خزانات المياه التي التقطتها الثنائي بيكير. التوثيق مقابل التوثيق، لعل تلك المنشآت الإسرائيليّة تحاكي صور بيكير وتصبح من مرحلة ما بعد الحربيّة.
في عام ٢٠٠٨، قدّم البطنيجي عرضاً أدائياً حمل عنوان «كما الماء». هنا، كتب على الأرض بواسطة الماء الكلمات الـ 109 عن المياه في اللغة العربيّة واستعملها محمود درويش في ديوانه «ذاكرة للنسيان» نقلاً عن ابن سيده. المياه ذلك العنصر الأساسيّ في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، يفوق ذكره في اللغة العربيّة عنه في اللغة العبريّة. أمّا في معرضه في بيروت، فيقدّم البطنيجي عمله «ذاكرة المياه» (٢٠١٤): خمسة ألواح كتبت عليها النصوص ذاتها بـ «الراتنج» هذه المرّة، لتبقى بين الحاضرة والغائبة.
ذلك الحاضر والغائب نجده أيضاً في «شهداء». خطّ طويل من اللوحات نخالها سوداء عن بعد، لكن عندما تقترب منها وتنظر إليها من زاوية محددة، سوف تجد أنّها تخبّئ وجوه شهداء فلسطينيين. شهداء صفّت صورهم على الجدران، ومهما مرّ عليهم الزمن، وخلنا أنه لفّهم النسيان، سوف يبقون هنا طيفاً حاضراً وغائباً، ليكتبوا عبر صورهم تاريخاً حاضراً وغائباً.

تلك هي بعض أعمال الفنان الفلسطيني تيسير البطنيجي في معرضه «الذاكرة دوماً خضراء»، إلى جانب معرض «سمعت الأساطير ولكنّي فهمت أن عليّ تحرير نفسي، ولكن كيف ومتى وأين» للفنانة المصريّة آنّا بوغيغيان.


«الذاكرة دوماً خضراء»: حتى ٧ آذار (مارس) ٢٠١٥ ـــ «غاليري صفير زملر» (الكارنتينا) ـ للاستعلام:01/566550


علاء ميناوي: اللاجئ أينما كان

قبل أسبوع، توفيت مولودتان في عرسال هما ابنتا لاجئين سوريين في لبنان. عن عمر ثلاثة أيام، توفيت الرضيعتان من شدّة البرد في مخيمات اللاجئين الرازحة تحت الثلج. الخبر «شيّره» حامد سنو، مغنّي فرقة «مشروع ليلى» على فايسبوك نقلاً عن مقال صدر على موقع «ديلي ستار» الإلكتروني، مع تعليق: «كلّنا وحوش». نعم كلّنا وحوش. وحوش ترقص فوق تابوت الإنسانيّة. وحوش تبنّت همجية الدولة اللبنانية في تعاطيها مع ملفّ اللاجئين السوريين في لبنان، واستكانت في طمأنينة الموت. لكن لا بدّ أن نصحو يوماً ونبصر بأعيننا ما اقترفته أيدينا، فنصرخ لأوديب كي يساعدنا في فقر عيوننا، وللايدي ماكبيث كي تغسل لنا أيدينا.
لكن إلى حينها، نستأذن الفنان البصري علاء ميناوي كي نستعير عمله التجهيز الضوئي «نورٌ يرتحل...» في «مهرجان أمستردام للضوء 2014» ككفّارة عن جرائمنا. عمل يقدّمه تحية للاجئين السوريين الذين يعانون من أقسى الظروف الإنسانيّة، كما هو تحيّة للمهجَّرين جميعاً، قائلاً عنه: «عندما يُغادر الناس مدنهم مرغمين، لا يخلّفون وراءهم بيوتاً، وصداقات، وألعاباً، وأعزّ ما يملكون فحسب، بل يفقدون أيضاً جلدهم وتتساقط أطرافهم وتذهب في البعيد ذكرياتهم. يتحوّلون إلى خطوط من نور... نورٌ يرتحل». كأنه يتكلم عن شيء أفظع من فكرة الرحيل، يتكلّم عن موت تلك الطفلتين، عن الموت.
في قالب ضوئي، يرسم ميناوي مجسّمات ستّة من مصابيح النيون. وتشكّل هذه المجسّمات مجتمعةً عائلة مهجَّرة، من أمّ وأبّ وجدّ وعمّة وأولاد. منذ سنوات، ما زالت هذه العائلة تمشي، ويبدو أنّ أصغرهم قد لمح شيئاً أثار اهتمامه، فتوقف لحظة عن السير والتفت باحثاً عن تفاعل مع أحد المارّين به.
عمل يخاطب إنسانيّتنا ببساطته. ذلك الطفل توقف لحظة واستدار كي يقول شيئاً، كي يخبرنا رواية، كي يسألنا سؤالاً، أو ربما كي يبقى صامتاً. لما ندافع عن أرض، ونحارب ونقتل، إن كانت تلك الأرض تقتل أطفالاً ساعات بعد إنجابهم؟ «نور يرتحل...» صرخة كي نلتفت إلى تلك الالتفاتة، كي لا تتحول إلى التفاتة زوجة لوط. «نور يرتحل...» مرّة أخرى وبالإذن من علاء ميناوي إهداءٌ لتلك المولدتين، لعل نورهما الذي ارتحل، يضيء بصيرتنا.