«صفير زملر»: الفن المعاصر على بساط البحث

احتفالاً بعيدها الثلاثين في هامبورغ، والعاشر في بيروت، أقامت الغاليري معرضاً ضمّ أعمالاً لمروحة من الفنانين اللبنانيين والعالميين أبرزهم إيتل عدنان. وفي هذه المناسبة، أقامت سمبوزيوم جمع مقتني التحف والمنسّقين المعروفين لمساءلة منظومة الفن المعاصر. 
تحتفل «غاليري صفير زملر» هذا العام بـ 30 عاماً على تأسيس الصالة في هامبورغ (ألمانيا)، وعشر سنوات على صالتها في بيروت (منطقة الكرنتينا). لهذه المناسبة، افتُتح معرض Gallery 3010 في بيروت يضمّ أعمالاً لفنانين لبنانيين وعالميين حول مفهوم «الغاليري» في عالم الفن. تخاطب الأعمال المعروضة المكعب الأبيض، ووسائل وآليات العرض، كما الإدارة والتعامل مع الأعمال الفنيّة. يشارك في المعرض 25 فناناً منهم: إيتل عدنان، هايغ ايفازيان، منيرة الصلح، إيتو برادة، آنا بوغوسيان، إيمان عيسى، ربيع مروة، وليد رعد، خليل رباح، مروان رشماوي، وائل شوقي، ريّان تابت وأكرم زعتري، بالإضافة إلى فنانين أجانب وعالميين.
وفي اليوم الذي سبق افتتاح المعرض، نظمّت الصالة سمبوزيوم حول استكشاف الفن العربي المعاصر (1995 ــــ 2015). نسّق السمبوزيوم كلّ من المعدّ الفني الجزائري عمر برادة، ومديرة الغاليري أندريه صفير. هكذا، احتضنت بيروت في نهار طويل سمبوزيوم ضمّ عدداً من أهم الفاعلين في الحياة الثقافية المعاصرة من فنانين ومنسّقين ومدراء مؤسسات ثقافيّة من بيروت، دمشق، القاهرة، جدّة، الجزائر... وصولاً إلى حضور أجنبي من مقتني التحف العالميين والمنسّقين الفنيين منهم مدير «تايت مودرن» كريس ديركون، ومنسقة «دوكيومنتا 13» كارولاين كريستوف باكاريا، ونظيرتها في «بينالي الشارقة» المقام حالياً أونجي جو... تناول السمبوزيوم مواضيع مهمّة جداً، رغم أنه لم يكن هناك مجال واسع للنقاش مع الجمهور بسبب ضيق الوقت.
بعد كلمة الافتتاح التي ألقتها أندريه صفير عن مشاورها الفني من الرسم إلى التنسيق الفنيّ وتأسيس الغاليري في هامبورغ ثم بيروت، عُرض فيديو مقابلة أجراها هانس أوليرخ أبرويست (سربينتاين غاليري) مع إيتل عدنان في بيتها في باريس. شكّلت المقابلة خير افتتاح للسمبوزيوم مع فنانة بارزة عايشت تطور الساحة الفنيّة المعاصرة بين لبنان والولايات المتحدة وفرنسا، متحدثّة عن مسيرة مليئة بالشغف وبالأمل في دور الفنّ في مجتمعاتنا.
عبر رسالة قرأها عمر برادة بسبب تعذّر حصول لارا الخالدي (قيمة فنية فلسطينية) على تأشيرة لدخول لبنان، تناولت الخالدي سياق نشأة المتاحف في فلسطين خلال السنوات الأخيرة، متسائلة عما إذا يمكننا أن نرى في نشأة تلك المتاحف اليوم نيّة لإعادة توكيد كيان الدولة الفلسطينية.
وتم التعريف بـ «المتحف الفلسطيني» المرتقب افتتاحه في بيرزيت عام 2016 على أنّه «متحف حديث وعصري يهدف إلى رواية القصة الفلسطينيّة للعالم من وجه نظر فلسطينية، وسيختص في البحث والتعريف عن تاريخ فلسطين الحديث والمعاصر». تلك العلاقة بين المتاحف كمؤسسات تعنى بالتوثيق والذاكرة والرواية وواقع فلسطين اليوم، تدفعنا إلى البحث في الدور الذي يمكن لتلك المتاحف لعبه: هل تستعيد تلك المتاحف ما خسرته فلسطين في السياسة؟
من جهتها، تناولت كريستين شايلد (متخصّصة في الانتروبولوجيا وتاريخ الفنّ) نشأة المعارض في بيروت منها أول المعارض التشكيلية التي احتضنها المبنى الذي يتمّ تجهيزه حالياً ليصبح «المكتبة الوطنيّة» (الصنايع) وصولاً إلى التسعينيات ونمو صالات العرض في بيروت في موازاة الفعاليات الثقافيّة التي كانت قائمة ضمن الحيز العام مثل مشاريع «الصنايع» (1994)، و«سيوفي» (1997)، و«الكورنيش» (1999) التي أعدّتها جمعيّة «أشكال ألوان»، مسائلة القيمين على المؤسسات الثقافية اللبنانية اليوم عن سبب تراجع العمل ضمن الحيز العام والتوجه إلى داخل صالات العرض والمكعبات البيضاء والمباني الداخلية.
من جهة أخرى، جاءت مداخلة المقتني البرازيلي لويس تيكسيرا دي فريتاس مميزة جداً. أعرب دي فريتاس عن قلقه مما يحدث اليوم في السوق الفنية. وأشار إلى أنّ الإحصاءات العالمية خلال السنوات العشر الأخيرة تفيد بأن نموّ التبادل التجاري ضمن السوق الفنيّة يشبه بدينامكيته وأرقامه وغياب القوانين المنظمة له ذلك الحاصل في تجارة الأسلحة والمخدرات والإتجار بالبشر. غير أن الفارق الوحيد يبقى أن السوق الفنيّة تتحلى بالصفة القانونية التي تغيب عن التجارات الأخرى. واستفاض في تقديم أمثلة عن العلاقات المعقّدة والشائكة التي تربط مقتني التحف بأصحاب الغاليريهات والمتاحف والمستشارين الفنيين، مؤكّداً الحاجة الضروريّة اليوم لسنّ قوانين عالمية تنظّم تلك العلاقة.

تلك عيّنة من الطروحات التي حملها السمبوزيوم. كان ملفتاً أن تختار أندريه صفير الاحتفال بعيد الغاليري عبر إعادة مساءلة دور الصالات الفنية وأثرها على تطور ساحة الفنّ المعاصر في بيروت والعالم أكان عبر السمبوزيوم أم المعرض اللذين لم يخلوا من نقد ذاتي ومراجعة للواقع الحاضر على ضوء التجربة الماضية. صالة «صفير زملر» من المراكز التي لعبت دوراً أساسياً في نمو الساحة الفنية المعاصرة في بيروت، وإيصالها إلى العالم، وأصبحت عبر مقرّها في منطقة الكرنتينا محطة أساسية لروّاد ومتابعي الفن المعاصر عبر تقديم عدد كبير من المعارض لأهم الفنانين اللبنانيين والعرب والعالميين.

هكذا وظّفت الغاليري شبكة علاقاتها لتدعو إلى بيروت نخبة من أهّم الفاعلين على الساحة الفنية العالمية، أو على الأقل المهتمين بالمنطقة العربية، وفتحت عبر السمبوزوم والمعرض الحالي باب نقاش جدي حول قضايا عدّة تعني كلّ مهتمّ بالفن المعاصر. نقاش انطلق هنا لكن لا بدّ من مواصلته. خير احتفال صنعته أندريه صفير عبر المساءلة المستمرّة والنقدية لمنظومة الفنّ المعاصر.

* Gallery 3010: حتى 1 آب (أغسطس) ــ «غاليري صفير زملر»، الكرنتينا (بيروت) ـ للاستعلام: 01/566550

ألفريد طرزي: تاريخ بصري لذاكرة الحرب


في معرضه الفردي الأول «أرض شاغرة» الذي تحتضنه صالة «جانين ربيز»، يقارب الفنان الشاب الحرب الأهلية التي زعموا انتهاءها عام 1990. يقترح إقامة «نصب مؤقت»، معيداً للضحايا وجوههم وأغراضهم وهويتهم.

رغم تذّمر بعضهم من انشغال العديد من الفنانين اللبنانيين بالحرب الأهلية، إلّا أنها ما زالت تؤرّق ألفريد طرزي (1980)، مكرّساً لها معرضه «أرض شاغرة» في «غاليري جانين ربيز». يميل كثيرون في لبنان إلى طيّ صفحة الحرب. طيّ أعمى يتعمّد التهرّب من مواجهة التاريخ متسلحّاً بقانون «العفو العام» المخجل الذي يحمي المجرمين من المحاسبة من دون أن يمنح على الأقل أهالي المخطوفين والأسرى طمأنينة معرفة مصير ذويهم. لكنّ جيلاً من الشباب اللبناني ينتمي إليه طرزي، يصرّ على عدم طيّ الصفحة، بل يحاول مقاربتها فنيّاً، بما أنّ مقاربتها في المحاكم أمر غير مباح.

وسط الصالة، يقدّم طرزي اقتراح «نصب مؤقت» للحرب الأهلية اللبنانية. التجهيز مؤلف من قواعد من الباطون. من كلّ قاعدة، يخرج عامود حديدي من الفولاذ الصلب. العواميد مصفوفة جنباً إلى جنب على أرض مفروشة بالبحص الأبيض. كل تلك المواد جمعها الفنان من مخلفات مواد البناء. التجهيز المقدّم في الصالة عيّنة عن اقتراح لـ«نصب مؤقت» يقترح طرزي إقامته في وسط بيروت بحيث يدعو أهالي ضحايا الحرب الأهليّة إلى تعليق صور وأغراض شخصيّة ورسائل لأقربائهم الذين فقدوهم خلال الحرب على تلك العواميد. بذلك، يستعيد ضحايا الحرب هوياتهم ويُرفع هذا النصب في ساحة عامة في وسط المدينة المتنكرة لذاكرتها ولفرديّة ضحايا الحرب. المثير للاهتمام أن النصب المقترح يحمل في مواده وتكوينه مفهوم «طور الإعمار». عبر دعوة أهالي ضحايا الحرب للمشاركة في إكمال ذلك النصب، فإنّ طرزي يطلق مشروعاً في «طور إعمار» تاريخ الحرب المهمّش.

في المقابل، يقدّم طرزي لوحة كبيرة وستة أعمال تفاعليّة. في اللوحة، يعيد تقديم مقاربة أخرى للنصب المؤقت حيث يتصدر اللوحة رسم لطفل يحاول عدّ ضحايا الحرب وتحيط به معالم وسط بيروت مثل تمثال الشهداء وتفاصيل من مبنى «ستيتي سنتر». أمّا الأعمال التفاعليّة، فيتألف كلّ منها من صندوق حديدي أو اثنين متوازيين في بعض الأحيان. داخل كلّ صندوق، نرى لفافة من الورق تصل في إحداها إلى 32 متراً، وقد زوّد الفنان تلك الصناديق بآليّة يدويّة تخوّل الجمهور برم اللفافة لمشاهدة الرسوم أو شرائط الصور المولّفة.


                

تتمحور مواضيع تلك الأعمال أيضاً حول تفاصيل الحرب الأهلية. في عملين، يتوازى صندوقان عموديان. اختار طرزي في الأول «شرق وغرب» أن يرسم على ورق كبير مجموعة رسوم مستوحاة من خطوط التماس التي فصلت بيروت خلال الحرب ثم شَطَرها في الوسط إلى قسمين ووضع كلّ قسم منها على لفافة في صندوق. وعبر برم كلّ لفافة على حدة، تنفصل الرسوم عن بعضها لتشكل رسومات جديدة تتألف عناصرها من غرب وشرق مختلفين. في العمل الثاني «يسار ويمين»، أجرى طرزي مداخلته الفنيّة في الصندوق الأول فوق لفافة مؤلفة من بورتريهات نشرتها «حركة أمل» لشهدائها. وفي الصندوق الثاني بورتريهات لشهداء «حزب القوات اللبنانيّة». مواضيع أخرى يتناولها طرزي في تلك الصناديق لذاكرة الحرب، منها «أواني» حيث شهادات حيّة لمقاتلين حربيّن يخبرون عن أساليب تخلّصهم من الجثث بعد المجازر، أصعب المهام بالنسبة إليهم. في ذلك العمل وعبر تقسيم صندوقه، يولّف طرزي شريط صوره الفوتوغرافيّة مع نصوص، ثم يقسم الجزء السفلي للصندوق إلى مستطيلات صغيرة محولاً العمل بأسره إلى شريط سينمائي يدوي يتابع فيه المشاهد تسلسل الصور مع النص، إضافة إلى لقطات مقرّبة لمشاهد أخرى. من أبرز الأعمال في المعرض صندوق «عندما تكون الشمس مرتفعة عند الظهيرة» الذي يتابع فيه المشاهد لفافة بطول 32متراً من رسوم طرزي. رسوم يطغى عليها الأسود والأحمر والذهبي، وتتكرر فيها دراسات لذلك النصب المؤقت بأشكال مختلفة، بالإضافة إلى وجوه يستعيدها من زمن الحرب الأهلية، وذلك الرجل المنتصب والمتكرر في سائر أعماله. عنيفة هي رسومات طرزي كما هي الحرب، لكنّها تختزن جمالية خاصة لا تقع في أسلبة العنف بل تعطيه مفردات وألواناً وخطوطاً واقتراحاً لهوية ملموسة يمكن التفاعل معها ومحاولة قراءتها.


ما يميّز أعمال طرزي أنّها تعيد منح ذاكرة الحرب، المهمشة عن قصد، كياناً ملموساً، فتحوّل الروايات والذكريات المنسيّة إلى شريط رسوم وصور يشارك المشاهد في تداولها، وتمريرها أمام أعينه. كأن الفنان يحولّ ذلك التاريخ المروي إلى تاريخ بصري يختار فيه المشاهد أين يريد أن يوقفه عن الدوران، أنّ يجمّده في الوقت، ليتأمل فيه ويحاول فهمه قبل أن يدفعه من جديد فتتدفق الرسومات والصور والروايات والذكريات. بعبارة أخرى، نجح طرزي عبر صناديقه في تقديم أعمال فنيّة بين اللوحة الجامدة وصور الأفلام المتحركة، مسخّراً عناصر الأسلوبين الفنيّين في خدمة سرد تاريخ الحرب الأهليّة.


                           



«محادثات لا منتهية» حول الهوية والتاريخ

جون أكُمفرا المحادثة اللامُنتهية 2012 تجهيز ثلاث شاشات عرض، فيديو عالي الدقّة، لون، صوت 45 دقيقة
يوجّه «مركز بيروت للفن» تحيةً إلى المفكر والمنظر ستيوارت هول، من خلال أعمال ثلاثة فنانين هم: جون أكمفرا، بني سيوبيس، وزينب سديرة.
يحتفي «مركز بيروت للفن» بستيوارت هول، المفكّر ومنظر النقد والدراسات الثقافيّة والباحث في علم الاجتماع البريطاني الكاريبي الذي رحل العام الماضي. إلى جانب كل من ريتشارد هوغارت ورايموند ويليامز، أسس هول المدرسة الفكريّة التي تعرف اليوم بالدراسات الثقافية البريطانية في برمنغهام. وكانت له مساهمة في حركة اليسار الجديد، كما كان عضواً مؤسساً لمجلة «نيو ليفت ريفيو». يستعير المعرض اسمه من مفهوم الهويّة لدى هول بوصفها «محادثات لا منتهية»، مقدماً أعمال ثلاثة فنانين: جون أكمفرا، بني سيوبيس، وزينب سديرة.
في بداية المعرض، يستقبلك عمل الفنانة الجنوب أفريقية بني سيوبيس (1953) المقسّم على أربعة فيديوهات. عندما يكتب التاريخ، هناك أحداث كبرى تُذكر مقابل تجاهل بعض اللحظات الأخرى رغم أهميّتها. يبقى التاريخ دائماً منقوصاً، وعاجزاً عن سرد الروايّة بتجرد. واقع تعيد طرحه سيوبيس عبر تجربتها الخاصة في ظل نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وكتابة التاريخ الرسمي والخاص.
في الفيديو الأول «يومي الجميل» (1997)، تمزج سيوبيس أفلاماً هزليّة بمقاطع موسيقيّة ونصاً بصرياً لتروي قصتين بين أفلام والدتها التي التقطتها بكاميرا 8 ملم وقصتها عن الانتقال والهجرة. أما في الفيلمين «رسول أبيض غامض» (2010) و«السيّد يغرق» (2012) فتعالج حدثين تاريخيين: محاولتا اغتيال هندريك فرنش فيرفورد رئيس وزراء جنوب أفريقيا الأسبق، ومهندس نظام الفصل العنصري، مع فشل الأولى ونجاح الثانية. في الفيديو الأخير «قربان» (2011)، تتناول سيوبيس قصّة تجاهل التاريخ راهبة إيرلندية تدعى أيدن، قتلتها الحشود في شرق كايب أثناء «حملة التحدي» عام 1952. رغمّ أنّ أيدن كانت محبوبة ممن شاركوا في العصيان، إلا أنها قتلت منهم بالخطأ بسبب لون بشرتها البيضاء.
بين الشخصي والأحداث «المهمّة» وتلك المنسيّة، تأخذنا الفنانة في رحلة من غرفة إلى أخرى، ومن شاشة إلى أخرى، معيدةً كتابة تاريخ منقوص، بلحظاته الخاصة وتلك المجيدة والأخرى المعيبة. أما الجزائرية زينب سديرة (1963) فتقدّم ثلاثية فيديو بعنوان «اللغة الأم» (2002). ولدت الفنانة في باريس من عائلة جزائرية، وتنقلت بين الجزائر، وفرنسا، وبريطانيا. على الشاشة الأولى، يجري حوار وتفاهم في فرنسا بين الفنانة باللغة الفرنسيّة ووالدتها باللغة العربيّة. على الشاشة الثانيّة، تحاور الفنانة ابنتها بالفرنسية فيما تجيب ابنتها بالإنكليزية في لندن. وعلى الشاشة الثالثة، وفي الجزائر، يتعطل الحوار بين الجدة بالعربية والحفيدة بالإنكليزية بسبب عجز أيّ منهما عن فهم لغة الآخر ليسيطر الصمت وبعض الابتسامات على الحوار مع محاولة للاستنجاد بالفنانة الواقفة خلف الكاميرا. اللغة التي تشكّل جزءاً أساسياً من الهوية تشغل الفنانة في معظم أعمالها. هنا تختصر استحالة التواصل بين الجدّة والحفيدة تاريخ التبدلات الجغرافية والثقافية التي خاضتها عائلة الفنانة، وتظهر إحدى علاماتها في تبدلّ اللهجات واللغات المعتمدة داخل العائلة الواحدة على ثلاثة أجيال.
يبقى العمل الأبرز للفنان الغاني - الإنكليزي جون أكُمفرا (1975) الموزّع على ثلاث شاشات جنباً إلى جنب تحت عنوان «المحادثة اللامنتهية» (2012). يستمدّ أكمفرا مادة فيلمه (45 د.) من مذكرات ستيوارت وأرشيفه الشخصي المتمحور حول فكر ماركس وغرامشي والنابع من مساءلة مفاهيم العرق والجندر والثقافة والاقتصاد السياسي والهويّة، ليعيد عبره على ثلاث شاشات متوازية قراءة التاريخ الشخصي، بخاصة التاريخ الأسود، ممزوجاً بالتاريخ الحديث لبريطانيا، ومنه إلى التاريخ العالمي. عمل يسائل تشكل الهوية بين تلك التي «تكون» أو «تتكوّن». عمل غني جداً، يطرح فيه أكُمفرا أسئلة مهمّة ومعاصرة حول هوية الحاضر انطلاقاً من تكّونها عبر التاريخ مقدماً مواد متشابكة بين الشاشات الثلاث أكان بصرياً أو سمعياً، مولياً للموسيقى خاصة الجاز مساحة مهمّة، لتمتزج مع النص، في دلالاتها الثقافية والتاريخية. يستعير أكُمفرا أيضاً نصوصاً لوليام بلايك، وتشارلز ديكينز، وفيرجينيا وولف. من التجهيز المعروض اليوم في «مركز بيروت للفن» الذي قدّم للمرة الأولى في متحف الـ «تايت» البريطاني، أنتج أكمفرا أيضاً فيلم «مشروع ستيوارت هول» (2013- 103د).
* «محادثات لا منتهية»: حتى 2 أيار (مايو) ــ «مركز بيروت للفن» (جسر الواطي)ـ للاستعلام: 01/397018

ألكسندر بوليكيفيتش | «بلدي» ونصّ


رقص ألكسندر بوليكيفيتش على خشبة «مترو المدينة» رقصاً بلديّاً، ورافقته فرقة موسيقية وغناء حي و«معلّمة» في عرضه «بلدي يا واد». إنّه الرقص البلدي، لا «الشرقي»، تلك التسمية التي اعتمدها الغرب في وصف رقصنا البلدي نسبة إلى موقعه منه. في «بلدي يا واد»، قدّم بوليكيفيتش عرضاً موزّعاً على لوحات عدة ترافقها موسيقى حيّة تنوّعت بين الموسيقى الشعبية وبعض أغنيات جورج وسوف، وصولاً إلى أم كلثوم.
وليس مصادفة أن يحيط بوليكيفيتش، الرجل نفسه بعازفة الطبلة الرئيسية إليانا عوض، وبفرح قدّور (العود)، وشخصيّة «البتّ كايداهم» المرافقة للراقص، لينه سحّاب، ورنين الشعار (غناء). شقلبة الأنماط الجندريّة على المسرح كان فعلاً مقصوداً، واحتفاءً بالتنوع داخل عالم الرقص البلدي ومكوناته.
ليس بوليكيفيتش جديداً على ساحة الرقص. تابعناه قبلاً في «دوار الشمس» بعروض «محاولة أولى» (٢٠٠٩) و«تجوال» (٢٠١١) و«إلغاء» (٢٠١٣). مالت تلك العروض نحو البحث عن لغة معاصرة في حركة الرقص البلدي، وقدّمت على خشبة مسرح كلاسيكي.

أما اليوم فيعود إلى مسرح الكاباريه ليقدّم البلدي على «أصوله»، موجّهاً تحيّة لكباريهات مصر ولبنان التي احتضنت ذلك الرقص. هكذا، افتتح العرض مع «البت كايداهم» وردّية «البيت دا طاهر». وتوالت لوحات بوليكيفيتش مع رقصة الشمعدان ورقصة مع العصا على أغنية مادونا «الليلة حلوة»... وجميعها بمرافقة موسيقى حية. بالإضافة إلى الموسيقيات النساء، ضمّت الفرقة سماح أبي المنى (الأكورديون)، وناجي العريضي (الطبلة)، وعلي الحوت (الدف والرق)، وجورج الشيخ (الناي)، فيما غاب عن ليلة الافتتاح قسراً المغني أدهم أبي فراج.

وكانت لرنين الشعار إطلالة مميزة، إذ قدّمت بعض الأغاني الشعبية بنفس لم يخلُ من التطريب والتنغيم. ولاكتمال اللوحات الراقصة (الإضاءة علاء ميناوي)، اختار بوليكيفيتش التعاون مع مصمم الأزياء كريكور جابوتيان الذي رافقه في أعماله السابقة. وهنا قدّم أربع بدلات مستوحاة من بدلات الرقص الكلاسيكية، لكن طبعاً بتصوّر خاص بجابوتيان، مضفياً مقاربة معاصرة على بدلات الرقص البلدي.
رقص بوليكيفيتش بشغف وبتقنيّة عالية على المسرح، مقدّماً عرضاً امتد ساعة ونصف ساعة. نجح في أخذ الجمهور معه إلى حالة من البهجة والاستمتاع، فتفاعل معه صياحاً وغناءً، خصوصاً أنّ بوليكيفيتش يفسح دوماً مجالاً لذلك التفاعل العفوي مع الجمهور في الصالة، وهذا هو إحدى المفردات الأساسية للرقص البلدي. هكذا رقص ألكسندر الرجل رقصاً بلديّاً، مقدّماً عرضاً جميلاً بكل تفاصيله. ربما في التجارب المقبلة، نشهد مفردات جديدة في الرقص البلدي من صنع جسد رجل وخصوصيات ذلك الجسد. تحررٌ نحتفي فيه بالتنوّع الخلاق. 

* «بلدي يا واد»: - 29 نيسان (أبريل) و6 أيار (مايو) ــ «مترو المدينة» ـ للاستعلام: 01/753021

فوتوغرافيا | Open /Rhapsody... كيف نقيّم الصورة اليوم؟

شريهان بعدسة فؤاد الخوري
يفرد «مركز بيروت للمعارض» فضاءه للصورة الفوتوغرافية وبعض الفيديوهات تحت عنوان Open /Rhapsody. المعرض من تنظيم اللبناني طارق نحاس جامع التحف الفنية، خصوصاً الصور الفوتوغرافية، بمشاركة جان لوك مونتيروسو، مدير «البيت الأوروبي للصورة الفوتوغرافية» في باريس.
ما يجمع الأعمال المعروضة ليس مدرسة فنية أو ثيمة معينة، بل انتماؤها إلى مجموعات خاصة لبنانية. هكذا دعا نحّاس بعض مقتني الأعمال الفنية للمشاركة في المعرض عبر تقديم الصور التي يملكونها ضمن مجموعتهم الخاصة.
أما «البيت الأوروبي للصورة الفوتوغرافية»، فشارك أيضاً بأعمال من مجموعة المتحف، خصوصاً الفيديو. بذلك، يشّكل Open / Rhapsody عيّنة عن الأعمال اللبنانية والعالمية المتوافرة ضمن المجموعات اللبنانية الخاصة التي قد تجد طريقها يوماً ما إلى الجمهور حين تتوافر متاحف للصورة والفنون المعاصرة في لبنان.
يقدّم المعرض عدداً كبيراً من الأعمال المتنوعة في أسلوبها ومدارسها الفنية، فنجد صوراً بالأبيض والأسود أو بالألوان، وبورتريهات، ومشاهد طبيعية، منها واقعيّة وأخرى مركبة، وبعضها مفاهيمية، وجميعها تحمل توقيع أهم المصورين والفنانين لبنانيين كانوا أم عالميين. وإذا كنّا لن نتوقف عند أهمية الأعمال المعروضة، إلا أنّ Open /Rhapsody يدفعنا إلى طرح أسئلة أساسية حول فن الصورة الفوتوغرافية: هل ما زالت الصورة، تحديداً الكلاسيكية، قادرة على تقديم أي جديد؟ لم يعد يكفي اليوم أن تكون الصورة جميلة في تركيبتها وألوانها وإضاءتها وجميع تلك التفاصيل التقنية الكلاسيكية التي كانت دوماً تؤلف المعايير الفنية الأساسية لتقييم الصورة. أصبحت تلك الصور متكررة وباهتة في ظل تطور الكاميرات، ومع سهولة حصول أيّ هاوٍ على صورة «جميلة». وإن لم تكن كذلك، فإن برامج تعديل الصور تصلح أيّ خطأ. على أحد جدران المعرض قول لجان بودريار: «الصورة الفوتوغرافية تعويذتنا. المجتمعات البدائية كانت لها أقنعتها، والبورجوازية كانت لها مراياها. نحن لدينا صورنا» (١٩٩٨). دور ازداد أهمية مع تدفق الصور منذ عام ٢٠١٠ حتى يومنا، مع اختراع انستغرام. لكن ذلك السياق يحيلنا اليوم على التمييز بين المعايير المحدِّدة لجمال الصورة وقيمتها الفنية ضمن سيل الصور.
لا شكّ في أن معظم صور المعرض جميلة، كذلك معظم الصور على انستغرام، أم تلك الملايين التي تمحيها البشرية كل يوم من هواتفها، فربما لو طبعت ووضعت ضمن إطارات، لأغرقت جدران المتاحف والغاليريهات. لم يعد بإمكاننا اليوم أن نقرأ الصورة فنيّاً مثلما كنا نفعل قبل زمن الانستغرام. فما الذي يمنح الصورة قيمتها الفنية اليوم؟ ليس جمال الصورة في مضمونها، لا بل ما يتخطاها إلى ما يحيط بها: طريقة التقاطها، أو الرواية خلفها، أو مداخلة الفنان عليها... الصورة وحدها لم تعد كافية.
أكرم الزعتري يظهّر على مقاسات كبيرة صوراً من قصاصات جرائد لطائرات إسرائيلية تحلّق فوق صيدا. «كولاج» لوليد رعد عن صور لمبنى تعرض للقصف خلال الحرب. «كولاج» لربيع مروّة يمزج فيه صورة لغلاف ألبوم فرقة «سيغر روس» (الايسلانديّة) مع إذن سينمائي للأمن العام اللبناني. زياد عنتر يلتقط صوراً لبيروت وبرج المرّ عبر أفلام منتهية المدة من أفلام هاشم المدني. غيرهارد ريختر يرسم فوق صورته. علي شريّ يركّب صورة يظهر فيها تمثال حافظ الأسد كأنه صاروخ ينطلق من قلب غبار الصحراء. فؤاد الخوري يلتقط صورة لكورنيش بيروت، لتظهر كأنها لوحة مرسومة بالغواش. تلك هي بعض أعمال الفنانين المشاركين في المعرض. صور ليست بالضرورة «جميلة»، لكنّها تسائل جماليات الصورة، وفعل التصوير بحد ذاته.
مع ذلك، يبقى استثناءان في المعرض يسبقان زمن انستغرام: بورتريه لمارلين مونرو التقطه بيرت شتيرن (١٩٦٢)، وبورتريه لشريهان التقطه فؤاد الخوري (١٩٨٧). إلى جانب أنهما عملان جميلان، ما يميزهما أيضاً أنّ المصوّرين استطاعا التقاط بورتريه لامرأتين كما لم نعرفهما يوماً. أما سائر صور المعرض، فجميلة هي، لكن جميلة فقط. 
Open /Rhapsody: حتى 19 نيسان (أبريل) ــ «مركز بيروت للمعارض» ــ للاستعلام: - 01/962000

«إن وأخواتها» آخر أعماله: ذاك اللقاء في «مسرح مونو»

صمت فوق خشبة المسرح اللبناني: مات ريمون جبارة. ذلك الصمت الذي أحبّه جبارة ومنحه أربع دقائق كاملة في خطوة اعتبرها بعضهم جنونيّة في مسرحيّة «لتمت ديسدمونة» (١٩٧٠). وكما قال لنا في آخر لقاء معه عام ٢٠١٢ في «مسرح مونو» خلال افتتاح عرض «مقتل إنّ وأخواتها» (الأخبار 13/12/2012)، فإنّه تعلّم هذا الصمت من عازف آلة البزق البدوّي مطر محمد. كما فعل أبوه، قام محمد بدفن سرّة ابنه داخل بزقه. وخلال العزف، كان يتوقف أحياناً ويضع أذنه على البزق ليستمع إلى سرّة ابنه.
اليوم نضع أذننا على خشبة المسرح صامتين لنستمع إلى أثر ريمون جبارة فوق تلك الخشبة، إلى جزء أساسيّ من تاريخ المسرح اللبناني، إلى أبي العبث اللبناني. خلال اللقاء الأخير إياه، تحدث جبارة عن فطرته في كتابة مسرحه: «لم أتعلم المسرح، لكن مثلما شعرت، فعلت. أنا بعمل مسرح لأتسلى». لم يكتب يوماً نصاً مسرحيّاً كاملاً، بل كان يلج التمارين مع الممثلين مع ورقة أو اثنتين. أمّا الباقي، فكان يلد على الخشبة. اختار العمل مع ممثلين محددين وثابر على العمل معهم، لأنه أحبّهم، وكان يكتب لهم الأدوار خصيصاً، منهم: جوليا قصّار، غابريـال يمّين، رفعت طربيه، رضا خوري، فيليب عقيقي، كميل سلامة، رندا الأسمر، ومادونا غازي...
الجميع حوله كان يعمل معه بحبّ وثقة عمياء. أحد أهم مؤسسي المسرح الحديث في لبنان، لم يعنه يوماً الهدف أو الرسالة في المسرح، بل صنع مسرحاً عن الإنسان، وهمومه وأوجاعه وأفراحه. صنع مسرحاً يخاطب جميع فئات الجمهور من النخب إلى العريض. اختار لغة بسيطة وساخرة يختزن فيها أسئلة عميقة عن الإنسانيّة، ما جعل مسرحياته حيّة ومعاصرة حتى اليوم. رغم معاناته من عوارض صحيّة في أواخر سنوات حياته، إلا أنه سخر من مرضه وتابع العمل، كتابة وإخراجاً. في أحد مقاهي قرنة شهوان، حوّل طاولة إلى مكتب يتابع فيه كتابة المسرح. وإن كانت بعض الكلمات تبدأ على الورق وتنتهي على الطاولة، بسبب الشلل النصفي الذي أصابه، إلا أن الممثل وصديقه العزيز غابريـال يمّين كان يعاونه على إعادة نسخ النصوص. في «مقتل إنّ وأخواتها»، ورغم حالته الجسديّة السيئة، أبى أن يغيب عن ليلة الافتتاح. أراد أن يرى الممثلين على الخشبة، هو الذي يعشق التمثيل ولطالما قال إنّ الممثل فيه يبقى أقوى من الكاتب والمخرج. يومها قال لنا: «أريد أن أتابع العرض كي أضحك على أخطاء الممثلين». ذلك الرجل عرف كيف يضحك، ويعشق المسرح، ويتسلى في خلق مسرحه. نصمت اليوم لفقدانك، ونسخر من الموت الذي ـ وإن خطفك منّا ـ لن يستطيع أن يسلبنا الإرث المسرحي الذي تركته لنا. يا «صانع الأحلام» وداعاً.

«آرت دبي» دورة التوسع و... اللبنانيين!

أيمن بعلبكي
اختتمت أخيراً فعاليات النسخة التاسعة من «آرت دبي» لهذا العام، مسجّلة حضور أكثر من ٢٥،٠٠٠ زائر، ومستحضرة أعمال حوالي ٥٠٠ فنان على مدى أربعة أيام. في قسم «ماركر» لهذا العالم، احتفت «آرت دبيّ» بـ ٤٠ فناناً من أميركا اللاتينيّة. واستضاف برنامج «منتدى الفن العالمي» الذي أشرف عليه كلّ من سلطان سعود القاسمي، وتوري مونث، وشومون باساري، أكثر من ٥٠ متحدثاً من مختلف المجالات التكنولوجية والفنية.
كما شارك عدد من الفنانين في «مشاريع آرت دبي» الذي أعدّته لهذه الدورة، المعدّة والفنانة الفلسطينيّة لارا خالدي. غير أنّ ما ميّز «آرت دبيّ»، كان توسّع «آرت دبي مودرن» الذي انطلق العام الماضي، لتشهد نسخته التاسعة إقبالاً واهتماماً أوسع من قبل زوار المعرض للتعرف على أعمال ١٩ فناناً من حقبة المودرن من الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب أسيا.
إيتو برادة
وكما في كلّ عام، تتوجه الأنظار في «آرت دبيّ» إلى «جائزة أبراج الفنيّة»، لإكتشاف صاحب الجائزة وعمله. وتبعاً لقرار «مجموعة أبراج» العام الماضي ــ بعدما كانت اللجنة تختار خمسة فنانين ــ تمّ حصر الجائزة هذا العام بفائز أوحد ينال دعماً إنتاجيّاً لتقديم عمل جديد، وثلاثة فنانين آخرين لتقديم أعمال سابقة لهم بالتعاون مع المعدّ الفنيّ الذي تختاره اللجنة المحكمة للجائزة أيضاً. هكذا منحت اللجنة «جائزة أبراج هذا العام، لإيتو برادة (١٩٧١). قدمت الفنانة المغربية فيلماً قصيراً يحمل عنوان Faux Depart (٢٣ د.)، تتبعت فيه رحلة بحث عن الأحافير في الجنوب المغربي، حيث يقوم تجار الأحافير بتصنيع الجزء الأكبر منها وبيعها على أنّها مكتشفات تاريخيّة. اختارت برادة تصوير الفيلم، بجزء كبير منه، بكاميرا ١٦ مم التي لطلما فضّلتها عن الكاميرات الرقميّة، غير أنها مزجت بعض المشاهد الرقميّة هنا مع الفيلم. وإن اصطدمت في بادئ الأمر بنكران أصحاب المتاجر بيع أحافير مزيّفة، إلّا أنهم قادوها رويداً إلى تقنيات التزييف وعمليات تصنيع الأحافير التي وثّقتها عبر كاميرتها. ويبقى المشهد الأقوى في الفيلم لحظة يقوم أحد التجار برمي معداته واحدة تلو الأخرى على الرمال في الصحراء الجنوبيّة معرّفاً بكلّ أداة ودورها في صناعة الأحافير، ومن ثم يسحبها ليضع أداة أخرى تاركاً أثرها على الرمال، فتتشكل رويداً فوق تلك الرمال الصحراويّة وعلى الشاشة أحافير جديدة لتلك الأدوات المصنعة للأحافير المزيفة. إلى جانب الفيديو، قدّمت برادة أيضاً تجهيز «حجار كاذبة» الذي تعرض فيه ضمن علبة زجاجيّة أحافير ونسخاً عنها، من دون تحديد أيهما الحقيقيّة أمّ المزيفة. تسائل برادة عبر عمليها، الأغراض الزائفة من تلك الحقيقية ضمن عالم فني يشهد حالة من الفتيشيّة نحو الأغراض الفنيّة. كذلك اختارت اللجنة المعدّ الفنيّ عمر خليف، للعمل مع برادة، ومع الفنانين الثلاثة الآخرين الذين قدموا أعمالاً سابقة لهم، مثل فيديو The Mute tongue (منيرة الصلح)، وصور فوتوغرافيّة Spectral Days (ستاره شهبازي)، ورسومات Temporary Autonomos Zones (سارناث بنارجي).
أكرم زعتري
أما في قسم المعاصر، القسم الأكبر لـ «آرت دبيّ»، فكان للفنانين اللبنانيين كما كل عام، حضور أساسي. قدّمت غاليري «صفير زملر» أعمالاً لكلّ من أكرم زعتري، ومنيرة الصلح، ووليد رعد، وإيتيل عدنان، وريّان تابت. «إعادة إعمار الطريق السريع العربيّ» (٢٠٠٧) صورة إلتقطها أكرم زعتري خلال عمليّة إعادة إعمار «جسر المديرج» الذي يصل بيروت بدمشق، وقد قصفته إسرائيل عام 2006 خلال العدوان على لبنان، حيث يظهر التناقض بين ما نراه في الصورة من دخان وتدمير وعنوان العمل، مسائلاً قدرتنا على إعادة إعمار طريق عربي سريع. أما لوحة منيرة الصلح فهي واحدة من سلسلة الرسومات التي نفذّتها لسياسيين عرب، وقدّمتها في معرضها الأخير في بيروت «عسيرة هي اللغة الأمّ» (٢٠١٤). ولريّان تابت شاهدنا عملاً من معرضه «أقصر مسافة ما بين نقطتين» (٢٠١٣) حول «شركة التابلين». مع غاليري «سلمى فرياني» (لندن)، قدّم زياد عنتر صوراً فوتوغرافيّة من سلسلة «بيروت مكثّفة» (٢٠١٤)، المشروع الذي التقط فيه صوراً من البحر للخط الساحليّ الذي يربط مدينة صيدا ببيروت. كذلك مع غاليري «أثر» (الرياض)، قدّم عنتر منحوتة عن منحوتة لعارف الريّس، وصورة فوتوغرافيّة لكنيسة في جدّة. في عام ٢٠١٢ وجد عنتر على كورنيش جدّة عدداً من المنحوتات لعارف الريّس مغلفة بقماش ضمن عمليّة إعادة ترميم الكورنيش ومنحوتاته. إنطلاقاً من شكل المنحوتات الحاليّة، قام عنتر بإنتاج منحوتاته الخاصة حيث يتحول القماش المغلف للمنحوتة الأصليّة إلى جزء أساسيّ منها، مسائلاً «الأصل» و«الحقيقة». حضرت الصورة الفوتوغرافيّة أيضاً ضمن أعمال تانيا طرابلسي مع غاليري «آرت فاكتوم» (بيروت) ضمن سلسلة Lost Strange Things: On not finding home. طرابلسي المقيمة بين لبنان والنمسا، تبحث في عملها عن موطنها دون أن تجده. كما قدّمت «غاليري فاكتوم» لوحات للميا جريج من سلسلة «تطريس بيروت ــ متحف». في المقابل، حضر الثنائي جوانا حاجي توما وخليل جريج مع غاليري CRG (تشيلسي) وغاليري «إن سيتو فابيان لوكليرك» (باريس) عبر صور فوتوغرافيّة من سلسلة مشروع «نادي اللبناني للصواريخ»، بالإضافة إلى منحوتة «هندسة الفضاء» (٢٠١٠) المصنوعة من قضبان فولاذيّة. عبرها يعيدان تأليف خريطة ترسم العلاقة بين بلدان الشمال الكولونياليّة وبلدان الجنوب مستندة على مسار الرسائل الإلكترونيّة الإحتياليّة (Scam). وضمن جناح غاليري «إيمان فارس» (باريس)، قدّم علي شرّي صورة فوتوغرافيّة «حياة بريّة» (٢٠١٤) التي تندرج ضمن بحثه الأخير عن الصلة بين الكوارث الطبيعيّة والسياسيّة في المنطقة. 
زياد عنتر
أمّا غاليري «كالفايان» (أثينا) فقدّمت أعمالاً لكلّ من رائد ياسين، وفارتان أفاكيان. خلال مشروعه الأخير Collapsing Clouds of Gas and Dust (٢٠١٤) يجمع أفاكيان مواد عضويّة، بقايا غبار من معالم هندسيّة، ويحوّلها عبر عمليّة كيميائية إلى مادة كريستاليّة يختزن فيها هالة تلك المعالم. من ضمن ذلك المشروع، يقدّم أفاكيان مجموعة كريستال أنتجها من مواد استخرجها من بحيرة «برج خليفة». ويعرض رائد ياسين لوحات من مجموعته Dancing Smoking Kissing (٢٠١٣)، كذلك Yassin Dynasty (٢٠١٣) وهو عمل منبثق من مشروعه «الصين» (٢٠١٢) الذي أنتجه لجائزة «أبراج كابيتال الفنيّة». أوان من البورسلين مصنّعة في مدينة Jingdezhen، عاصمة صناعة البورسلين الصيني. ولكن بدل إتباع التقليد الصيني برسم مشاهد من التاريخ الصيني على تلك الأواني، طلب ياسين من الحرفيين الصينيين رسم مشاهد من الحرب الأهليّة اللبنانيّة، «تخليداً» لذلك التاريخ. عند «غاليري تانيت»، حضر فؤاد الخوري عبر تجهيز فنيّ لفيديو وصور فوتوغرافيّة. المشاركة الأولى لغاليري «جيبسوم» (القاهرة) كانت مميزة حيث قدمّت أعمال لعدّة فنانين منهم الفنانة اللبنانيّة الكويتيّة تمارا السمرائي من معرضها الأخير Make Room For Me. وختاماً مع غاليري «أجيال»، حضرت هبة كلش في أعمال من سلسلتها الجديدة The Impermanence of States (٢٠١٤)، والفنان الفلسطيني اللبناني عبد الرحمن كتناني عبر تجهيراته المصنوعة من الأسلاك الشائكة. أما الفنان اللبناني أيمن بعلبكي فحضر عبر لوحاته، مسجلاً رقماً قياسياً جديداً في «مزاد كريستيز» في دبيّ لهذا العام، حيث بيعت رائعته «بابل» (٢٠٠٥ ــ من «مجموعة مقبل الفنيّة») بمبلغ ٤٨٥ ألف دولار أميركي.
رائد ياسين

صورة الجلاد وصورة الضحيّة في الحرب


منذ اندلاع الثورة السوريّة والنقاش دائر حول أهميّة الصورة، جدواها، وكيفيّة التعامل معها. في هذا المقال نحاول المشاركة في النقاش من زاوية مختلفة، متناولين معضلة قوّة الصورة، أهدافها، جمهورها وسهولة أو صعوبة منالها، لنصبّ فيما يعرف ضمن مصطلحات الصورة بال " Hors Champ " (خارج حقل الصورة) إذ تتوفر فيه المشكلة وفي الوقت ذاته إقتراح الحلّ للمعضلة المطروحة.

قوّة الصورة:

إن التاريخ، وللأسف، أثبت لنا أن الصورة في وقت الحرب تكون قويّة في يد الجلاد القويّ، وضعيفة في يد الضحية الضعيفة، سواء كانت تلك الصورة حقيقيّة أم زائفة. وإذا أخذنا مثال الصورة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، يبدو لنا ذلك جلياً. 

منذ النكبة حتى اليوم، تمّ إلتقاط جميع أنواع الصور للقضية الفلسطينيّة ، الدمويّة منها إلى تلك الخاليّة من الدماء ولكن المعبّرة. فعلى سبيل المثال، تعتبر صورة الطفل محمد الدرّة وأبيه في الإنتفاضة الثانية للأقصى من أقوى الصور التي شهدتها البشريّة خلال العقود الأخيرة. هزت هذه الصورة الرأي العام العالمي، ودفعته إلى التحرك. ولكن، ماذا حدث بعدها؟ هل توقّف الظلم؟ لا،  بل إزداد قتل الفلسطينيين، واحتلال الأراضي وبناء المستوطنات. حصل ذلك أيضاً خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على غزّة، حيث ساهمت الصور التي أظهرت للعالم هول الدمار الذي أحدثته إسرائيل، في خروج المظاهرات في عدد من عواصم العالم للتنديد بالعدوان. اليوم وبعد توقف العدوان، هل أسفرت تلك المظاهرات إلى محاكمة جرائم إسرائيل دولياً، أو حتى إلى حلحلة الوضع اللا إنساني في غزّة ؟ لا. هل حققت إسرائيل أهدافها خلال العدوان؟ بجزء كبير منها، نعم.
في المقابل أنتجت إسرائيل وعلى امتداد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي عدداً أقل بكثير من الصور والتي كانت كافية لإقناع الإسرائيلين والعالم أنها تدافع عن حقّها. هل لأن الصور التي أنتجتها الإسرائيليون كانت أقوى من تلك التي أنتجها الفلسطينيون؟ بالطبع لا، ولكن لأنّ إسرائيل أقوى من فلسطين.

من جهة أخرى، خلال العقود الأخيرة قدّمت الولايات المتحدة صوراً مفبركة عن العراق، وأقنعت العالم بأحقيّة هجومها عليه. هل نفع إعتراض أحد على هذه الصور المزيّفة؟ لا!

حتى إن صور المذبحة اليهوديّة في أوروبا، لم تنفع يهود أوروبا خلال الحرب العالميّة الثانية لإيقاف المذبحة، بل احتاج اللوبي الصهيوني أن يصبح قوياً لكي يتمكن فيما بعد من إستعمال صور المذبحة إلى يومنا هذا لأهداف أخرى. كذلك هو الحال مع معظم صور الحرب الشهيرة خلال التاريخ. تلك الصور نالت شهرتها، وأصبحت رمزاً لتلك الحروب بعد انتهاء تلك الأخيرة. أمّا قرار ابتداء الحروب وانهائها، فلم تستطع يوماً صورة الضحيّة أن تتحكم فيه، بقي ذلك القرار منوطاً بأسباب ومصالح إقتصادية وسياسيّة بعيدة كلّ البعد عن نصرة المظلوم وإحقاق العدالة، وأغلبنا يعلم تلك الحقيقة السوداء.

الهدف - الجمهور - المنال:

مهمّة الجلاد سهلة. صورته واضحة الهدف، محددة الجمهور وسهلة المنال. يهدف الجلاد عبر صورته  إلى البرهنة عن جبروته، وإثارة الذعر عند خصومه. أمّا الجمهور فليس سوى الخصم : سواء كان هنا الشعب السوري الثائر، أو الجيش الحرّ  أو حتى الكتائب الإسلاميّة الأصوليّة المتقاتلة فيما بينها. في جميع الأحول، وعند رغبة الجلاد  بتوظيف أي صورة من إنتاجه يبقى جمهوره واضح، ويعلم جيداً أين يجده. من جهة أخرى من السهل جداً على الجلاد إلتقاط صورته : إلتقاط صورة لعملية نحر رقبة، لحرق إنسان، لإصابة هدف، لنصب كمين، لهدم مبنى. صورة محددة الإطار، تهدف إلى إظهار فعل أوحد. تلك هي  صورة الجلاد. لذلك كان من السهل أيضاً ومع توفّر معدات متطورة في أيدي الجلادين أن يتفننوا في إلتقاط صورهم. إذ إن ذلك التفنن، وبطبيعة الحال، يصب في هدف تضخيم الفعل ومن ثم تضخيم أثره عند المتلقي. هذا ما شهدناه، وما زلنا، في الصور التي ينتجها نظام الأسد وداعش والنصرة. الجلاد هنا ليس بحاجة لبرهنة أيّ شيئ. فهولا يلتقط صورته إلاّ لكي يبلغ العالم بأنه قويّ. يعلن إنتصاره عبر الصورة، ويثير الرعب.

أمّا مهمة الضحية فمهمة صعبة للغاية. فصورتها وبالرغم من أن هدفها واضح إلّا أن جمهورها غير محدد ، وهي صعبة المنال، فالضحية تصوّر خلال الحروب لكي تبرهن للعالم أنها تتعرض للقتل، للقصف، للتعذيب... ، تصوّر لتبرهن أنها الضحيّة، وأنها بحاجة للمساعدة لرفع الظلم عنها. أمّا جمهورها فهو ما يطلق عليه إسم ”الرأي العام العالميّ“، الذي عليه بدوره أن يمارس الضغط على أصحاب القرار للمشاركة في رفع الظلم عن الضحية. وجميعنا يعلم أن ذلك الدور معقّد جداً ويحتاج إلى تفاقم جهود جبّارة لتتلاقى مصلحة الضحيّة مع مصلحة أصحاب القرار من القوى العظمى لكيّ تتدخل تلك الأخيرة لإنقاذ الضحيّة. أمّا من ناحية التقاط تلك الصورة، فكيف تستطيع الضحيّة أن تحصر التعذيب والدمار والموت في صورة وإثنتان ... وألف.  كم قتيل ومذبحة تحتاج الضحيّة لكي تبرهن للرأي العام العالميّ أنّها الضحيّة؟ وما هو اتساع إطار الصورة القادر على استيعاب هول الكارثة؟

إذاً في الوقت الذي تصيب فيه صورة الجلاد أهدافها بتفنن وتضخيم، تبقى دائماً صورة الضحية ضعيفة ومكلفة وغير قادرة على تحقيق هدفها كاملاً. بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما تقوم الضحيّة باستهلاك الصورة التي ينتجها الجلاد، وتقوم بمشاركتها عبر وسائل إعلامها، فتتوسع رقعة متلقي صورة الجلاد، فيما لا يستهلك الجلاد صورة الضحية فتبقى محصورة التلقي.

إن كانت صورة الجلاد خلال الحرب أقوى، حتى ولو كانت زائفة، وصورة الضحيّة أضعف مهما كانت محقّة. وإن كانت القراءة السالفة للهدف، والجمهور والمنال ما بين صورة الجلاد والضحيّة تصبّ لصالح الجلاد، فهل يعني ذلك أنّ على الضحيّة أن تتوقف عن إلتقاط الصور؟ بالتأكيد لا...
ولكن الحاجة ملحّة لمقاربة الصورة من قبل الضحيّة بطريقة مغايرة.

الصورة كتوثيق:

هنا يجب التمييز، في سياق هذا النقاش، ما بين الصورة خلال الحرب والصورة ما بعد الحرب. إذ مما لا جدال فيه أن صورة الضحيّة وحتى لو لم تستطع أن تحقق أيّاً من أهدافها خلال الحرب إلّا أنها مهمّة جداً في توثيقها لإجرام الجلاد، ولكتابة التاريخ الذي لعلّه يوماً ما سينصر الضحيّة ويجرّم الجلاد. ول ”حسن الحظّ“ أن العدّو المباشر للشعب السوري الثائر والضحيّة، ليس إسرائيل أو الولايات المتحدة الأميركيّة، وإنما نظام الأسد والكتائب الإسلاميّة الأصوليّة، مما يزيل عقبة أمام محاكمتهم يوماً ما في المحاكم الدوليّة، حيث أن الصورة تبقى دليلاً أساسيّاً تستعين به تلك المحاكم، دون أن يتمّ اللجوء سلفاً إلى استعمال حقّ الفيتو كما اعتدنا في الحالة الأمريكيّة والإسرائيليّة. ولتلك المحاكم وفعاليتها أمثلة تاريخيّة كما هو الحال في: يوغوسلافيا ورواندا وأوغندة الشماليّة وجمهوريّة الكونغو الديمقراطيّة والجمهوريّة الأفريقيّة الوسطى ودارفور. لكن إلى أن تنتهي الحرب، وتصبح للصورة تلك القوّة الوثائقيّة أمام المحاكم، لا بدّ من محاولة مقاربتها بشكل مختلف لعلها تفيد الضحيّة اليوم.


Hors Champ - مابين المشكلة والحلّ:

المشكلة

إنّ أيّ مصّور، محترف كان أم هاوٍ، ولحظة التقاطه لصورته، يختار ما لا يريد ضمن صورته ”خارج حقل الصورة“ (Hors Champ) بمقدار ما يختار ما في صورته ”حقل الصورة“ (Champ). تقتضي عمليّة التصوير أن تحدّ المادة المصورة داخل إطار الصورة وعزلها عن كلّ ما هو خارج الإطار. وما لا جدال فيه أن ما هو خارج الإطار، أكبر وأوسع بكثير مما هو في داخله. وبالتالي إنّ الحقيقة خارج الصورة، أكبر وأوسع بكثير مما في داخلها. أيّ إننا في كلّ لحظة نلتقط فيها صورة، نعمد وعن قصد إلى اجتزاء الحقيقة وإلى التقاط جزء صغير منها. تلك هي مشكلة  ال”Hors Champ“. مشكلة لا تعني الجلاد، إذ إن هدفه إظهار فعل أوحد، محدود داخل إطار صورته. لا بل إنه لا يريدنا أن نرى ال”Hors Champ“. أمّا الضحية وعلى العكس، تختار مادتها داخل الصورة لأنها مجبرة على الإختيار، وهي في الوقت ذاته تعلم أن هناك خارج إطار صورتها، أيّ ضمن ال”Hors Champ“، مادة ومعلومات لو استطاعت شملها داخل الصورة لما ترددت، لكنها ورغماً عنها تختار أن تجتزء الحقيقة وتحصرها في تفصيل أوحد داخل الصورة. وتلك هي المعضلة الأساسيّة التي تواجهها الضحيّة، إذ لا إطار باستطاعته توثيق هول الكارثة. هل تلتقط صورة لذلك المنزل المدّمر، وتتجاهل جميع المنازل الأخرى؟ هل تلتقط صورة لتلك الجثة هناك وتتجاهل جميع الجثث الأخرى؟ هكذا يشكل مفهموم ال” Hors Champ“ أزمة للضحية، فيما لا يعني الجلاد كثيراً.

الحلّ

إن الحل عملياً يكمن في تعويض ذلك النقص الموجود في  ال” Hors Champ“. يعمد الجلاد إلى تسليط الضوء على ما هو داخل صورته، لأنّ الموجود في ال” Hors Champ“ يفضح زيفه. التقاط جزء من الحقيقة وحصرها داخل إطار الصورة، وعزلها عن سياقها، سياسة تناسب الجلاد، وتضر بالضحيّة، والعكس صحيح. من هنا يقتضي على الضحية أن تقوم بأمرين:

أولاً، تعويض النقص في الصورة وإستبدال ال” Hors Champ“ بمادة أخرى. قد تكون تلك المادة ليست سوى تقديم سرد يكمل الرواية. في قراءة إدوارد سعيد لفشل الفلسطينيين والعرب في الصراع مع إسرائيل يحيل إلى أن أحد الأسباب الأساسيّة يكمن في فشل الفريق الأول في توحيد روايته في وجه الفريق الثاني، فيما استطاع اللوبي الصهيوني أن يقنع العالم بأن فلسطين هي الأرض الموعودة لليهود. لذلك يجب أن لا تكتفي الضحيّة في تقديم الصور المجتزئة للعالم، بل على كلّ صورة أن تحمل إلى جانبها رواية تعيد موقعة الصورة في سياق واضح ومكمّل للحقيقة. إذ على الضحية أن لا تنسى أنها تملك الرواية الحقيقية، وهدف الجلاد أن يشوّه تلك الحقيقة لكي يبرر ظلمه. من هنا، على الضحيّة أن توحّد الرواية، وأن تدعّم صورتها ب”Hors Champ“ مختلف في مادته. قد يكون عبر الرواية كما اقترحنا هنا، أو عبر أيّ مادة أخرى توصل الحقيقة كاملة.

ثانياً، إن كان هدف الجلاد عزل الصورة عن ال”Hors Champ“، فهدف الضحية يجب أن يكون فضح ال”Hors Champ“. الجلاد لا يريدنا أن نرى ما هو خارج إطار الصورة الذي رسمه لنا، إذ أن في خارج ذلك الإطار تكمن إدانته. لذلك على الضحيّة، وبدلاً من مشاركة صور الجلاد اعتقاداً منها أنهّا تفضحه -وهي بفعلها هذا توسيع رقعة جمهوره-، أن تعمل على فضح ال”Hors Champ“ الذي يريد الجلاد أن يستره. ذلك ال”Hors Champ“ الذي يفضح زيفه، وروايته.

هل تلك العلاقة مع ال”Hors Champ“ بإمكانها أن تقدم فعلاً حلاً، وترفع الظلم عن الضحية خلال الحرب؟ للأسف وكما ذكرنا في البداية، لم تستطع يوماً الصورة أن توقف حرباً. وتبقى الصورة قويّة في يد الجلاد القويّ، وضعيفة في يد الضحية الضعيفة. لكن إن إستطاعت صورة الضحيّة أن تدفع باتجاه اكتمال الرواية واكتمال الحقيقة، وإن نجحت الضحية في فضح زيف صورة الجلاد، فإن ذلك قد يساهم في توسيع رقعة التأثير على الرأي العام العالميّ، وربما قد يزيد الضغط على أصحاب القرار، مما قد يعجّل في تأمين الحلّ.



لور غريب ومازن كرباج: حوار الفن والبنوة والحياة

تحت عنوان «أبجديّة لور غريب ومازن كرباج»، التقى الفنانان في «غاليري جانين ربيز» لتنفيذ ٢٦ رسماً بالحبر الصيني. بعد سلسلة تجارب مشتركة، ها هما يواصلان استكشاف إمكانيات لسيرة ذاتيّة ثنائية.
ليست التجربة الأولى التي تجمع الفنانة لور غريب بابنها مازن كرباج (1975). لكن هذه المرّة، قررا الالتقاء وكلّ بريشته لتنفيذ ٢٦ رسماً بالحبر الصيني حيث يواصلان استكشاف إمكانيات لسيرة ذاتيّة ثنائية. ما يميّز تلك الأعمال تقنياً هذه المرة أنها نفّذت بأربع أيادٍ. انطلق التعاون بين الفنانين عبر رسوم الحرب في صيف ٢٠٠٦، ثم نفذا بورتريهاً ذاتياً مزدوجاً بعنوان «‬أنت وأنا والبابيي بان» عام ٢٠٠٨، ثم المعرض الذي حمل العنوان نفسه في ٢٠١٠ والقصة المصوّرة «غداً لن يأتي» عام ٢٠١٤. أمّا اليوم، فيخوضان تجربة جديدة تحمل عنوان «أبجديّة لور غريب ومازن كرباج» تحتضنها «غاليري جانين ربيز». يحمل المعرض ذلك العنوان، حيث تتوزع اللوحات الـ٢٦ على تسلسل أحرف الأبجدية اللاتينية، وتبدأ بحرف الألف بلوحة تحمل اسم الزوج والأب «أنطوان» نسبة إلى الممثل أنطوان كرباج.
في تلك اللوحة الأولى، تشترك الزوجة والابن في رسم أنطوان كرباج وشخصياته المسرحيّة وبالأخص تلك التي اشتهر بها مع الرحابنة إلى جانب فيروز، فيما تتوسط رأس اللوحة عبارة «ملك ملوك المسرح». بعدها، تتوزع اللوحات على عناوين مختلفة تستمد تسلسلها من أحرف الأبجديّة اللاتينيّة: قناع، شبح، الله، الزمن، الشيطان، لبنان...
في كل لوحة، تمتزج خطوط لور بمازن. تتداخل الرسومات والأشكال والأحرف والكلمات، بحثاً عن تمثيلين يجتمعان سويّة لتأليف لوحات مفتوحة على طرح الأسئلة لا تقديم الإجابات. يقتحم الرسامان ــ كلٌّ بأسلوبه ـــ خطوط الآخر، فتنجلي الحدود بينهما ضمن إطار الرسمة الواحدة كي تعيد تشكيل قراءة ثنائية لكلمة واحدة. ضمن تلك القراءة الثنائيّة ورغم قدرة المشاهد على تمييز أسلوب لور غريب عن أسلوب مازن كرباج في معظم الأحيان، إلا أنّ ذلك التمييز يصبح باطلاً أمام تشابك الأفكار ضمن اللوحة ذاتها وتناقضها لتصبّ بكليّتها في عمل لا حدود له. هكذا، تصبح غير مجديةٍ معرفة هويّة كلّ خطّ، بل إن الفنانين يدعوان المشاهد إلى الولوج في تلك الرحلة الاستكشافيّة ضمن طبقات المعاني المتوافرة في رحلتهما الذاتيّة.

لقاء جميل يجمع خطّ لور غريب (١٩٣١) بخطّ مازن كرباج (١٩٧٥)، خصوصاً أنه قبل اجتماعهما سويّة في الرسم، كوّن كلٌّ منهما شخصيّة فنيّة ذات هويّة واضحة، لا بل صارخة الملامح. ذلك اللقاء بين الأسلوبين يؤمن لتلك التجربة مساحة خلق واسعة لا تخلو من التوتر الذي يولّد مساحات اكتشاف أعمق في كلّ لوحة. فكيف لو كان ذلك اللقاء يجمع أمّاً وابنها على مساحة ورقة واحدة؟ ومن يعرف لور ومازن عن كثب، يعلم أن علاقتهما ليست كلاسيكيّة بل متجددة، تظهر ملامحها في التعاون المستمر والمتطور بينهما.
في إحدى اللوحات التي تحمل عنوان «حشيش» تنتشي الشخصيات رسماً، حيث يقدّم الفنانان في أسفل اللوحة تقنيّة لفّ سيجارة حشيش ضخمة مع أربعة فيلترات. أمّا «الله»، فيظهر كائناً أسطورياً بعين واحدة كبيرة مليئة بالوجوه، وتستقر فوق جسد طفولي ذي فم كبير مبتسم. وفي «ويسكي»، تمتزج العيون بزجاجة كأس مليئة بوجوه أناس، ورواية عن أول كلمة وأول قطرة ويسكي، وحانة تقدّم آخر كأس. أما «الزمن»، فحلزونة تدور في فلكها وجوه ونصوص كأنها تخنق كلّ من فيها أو تعيد بعثها. هكذا ضمن رحلة أحرف الأبجديّة تلك، يأخذنا الفنانان في كلّ لوحة في رحلة تيه بين التفاصيل والروايات التي جمعت لور بمازن، وأصبحت اليوم حبراً على ورق يكتبان بها أبجديّة علاقتهما وأبجديّة الحياة. 
* معرض «أبجديّة لور غريب ومازن كرباج»: حتى ٣ نيسان (أبريل) ــ
«غاليري جانين ربيز» (الروشة – بيروت) ـ للاستعلام: 01/868290

رائدة طه: اكتشاف الموسم


من أجمل العروض التي قدّمت هذا العام على خشبات مسرح بيروت «ألاقي زيك فين يا علي». يمكننا القول إن بيروت تعرّفت إلى ممثلة جميلة جداً تدعى رائدة طه من مواليد القدس التي غادرتها بعد حرب الـ ٦٧ إلى عمان ثم بيروت حيث تربت ودرست، فإلى تونس حيث عملت سكرتيرة لأبو عمار. تزوجت فعادت إلى رام الله ومنها إلى بيروت مجدداً. إنّها ابنة الشهيد علي طه، الناشطة الفلسطينية التي وصلت إلى خشبة المسرح متأخرّة.
في «مسرح بابل»، صعدت للمرة الأولى عام ٢٠١٣ لتمثل دور «صفيّة» في عرض «عائد إلى حيفا» لغسان كنفاني الذي أخرجته لينا أبيض. يومها، شكّلت ليلى كنفاني، ابنة كنفاني وصديقة رائدة منذ الطفولة، صلة الوصل بينها وبين لينا أبيض. في العام ذاته، قدّمت دور «لميا» في مسرحيّة «٨٠ درجة» من إخراج عليّة خالدي. وأخيراً، شاهدناها في مونودراما «ألاقي زيك فين يا علي» من كتابتها وإخراج لينا أبيض. في هذا العرض، تجلس رائدة بمفردها على كنبة في زاوية المسرح، وتقدّم لمدّة ساعة ونصف قصص طفولتها وعائلتها. قصّة ابنة علي طه الذي استشهد في العملية الفدائية لخطف طائرة «سابينا» في مطار اللدّ عام ١٩٧٢. قصّة أمها وأخواتها اللواتي تعايشن مع واقعهن الجديد. قصّة علاقتها مع ياسر عرفات، وبالأخص قصّة عمتها التي أبت إلا استعادة جثمان علي طه لدفنه، ما اضطرها لطلب جثمانه من كيسينجر نفسه. كتبت الكثير من المقالات عن المسرحية التي مُدِّدت عروضها مراراً على خشبة «بابل»، قبل أن تقدم قبل يومين في «الجامعة اللبنانية الأميركية». لسنا هنا بصدد تقديم مادة نقدية للعرض، لا بل للاحتفاء باكتشاف الممثلة رائدة طه. سيدّة جميلة ذات صوت مسرحي جميل يؤمن لها حضوراً كاريزماتياً منذ أن تطأ قدماها الخشبة. لكن فوق كلّ ذلك، فإن تلك المرأة التي لم تدرس المسرح في الصغر، و«تأخرت» للصعود إلى الخشبة، تملك بالفطرة أسرار تلك الخشبة. تأسرك رائدة في عالمها منذ اللحظة الأولى. بنضج، تسيطر على جسدها وحركتها على المسرح، فلا تقع في «جعدنة» حركيّة بل تقدم للجمهور الحركة البسيطة والكافية بلا مبالغة. تملك كلماتها وتطلقها بعفوية المستمع إلى الجمهور قبل النطق بالنص، فيأتي نصّها متماسكاً ذا إيقاع ضمني عضوي. لا تكلّف ولا تصنّع، والأهم لا كبرياء، بل دراية بالمساحة التي تحتلها على المسرح وكيفية توظيفها في طاقة تتوزع على طول مدة العرض كي لا تقدم مشاهد متفاوتة في الأداء. وفوق كل ذلك، تستعين بسلاح ابتسامتها الخفيفة متى احتاجت إلى تلطيف الأجواء. لكن فعلاً ما يميّز رائدة طه، هو قدرتها على تطويع النص مهما كان درامياً أو ميلودراميّاً واللعب به على مستويات عدّة من المعنى، فلا تسلمّه إلى الجمهور بلون واحد بل بتعقيداته وخفايا معانيه. هكذا أعادت رواية قصتها كابنة شهيد بحب لا يخلو من النقد. استطاعت أن تبكينا وتضحكنا في آن. أعادتنا إلى خامات ممثلات تونس مثل جليلة بكار، وفاطمة بن سعيدان، ورجاء بن عمّار... وعبر تأديتها لأدوار مماثلة في مسرحها، مارست فعلاً سياسياً بامتياز دفعنا إلى إعادة التفكير بعمق في القضية الفلسطينية، وطرحها على المسرح من منظار ذكي ونقدي كما فعل كنفاني وونّوس كي لا يتحول النقاش حول القضية إلى إيديولوجيا مفرّغة، بل لكي تبقى حيّة عبر النقاش والنقد.

سعد الله ونوس... معاصرنا


لا تكتمل الاحتفالات بيوم المسرح من دون الاحتفاء بسعد الله ونوس (1941 ــ 1997)، خصوصاً إذا كانت إحدى أجمل وأبلغ مسرحياته تعرض اليوم في بيروت. عرض «الاغتصاب» (ترجمة روبرت مايرز وندى صعب) يعرض للمرة الأولى بالإنكليزية على خشبة «مسرح إروين» في «الجامعة اللبنانية الأميركية» من إخراج سحر عساف، بعدما قدّمه جواد الأسدي للمرة الأولى في «مسرح بيروت» عام ١٩٩٢.
كتب ونوس «الاغتصاب» عام ١٩٨٩ مستوحياً موضوعها من مسرحية للإسباني أنطونيو بويرو باييخو بعنوان «الحياة المزدوجة للطبيب فالمي» (1964). نقل المسرحي السوري الحكاية إلى الضفة الغربية في زمن الانتفاضة الأولى، لتجري الأحداث بين أسرتين: واحدة فلسطينية وأخرى إسرائيلية، بالإضافة إلى الطبيب النفسي منوحين والفرقة العسكرية الإسرائيلية التي ينتمي إليها اسحق. اللافت أن ونوس حذّر بشدة في مقدمته للمسرحية من تقديم شخصياتها، بخاصة الإسرائيلية بشكل هزلي، وهذا ما نجح فيه القائمون على العمل. بعدما شارك اسحق (سني عبد الباقي) مع زملائه في اغتصاب أسير فلسطيني، يصاب بالعجز الجنسي، ما سيقوده إلى استشارة الطبيب النفسي منوحين (بشارة عطا الله). الطبيب المناهض للصهيونية، سيشخص الحالة بأنها قصاص ذاتي يمارسه اسحق على جسده في لا وعيه. في مكان ما، هو يعلم أن فعله كان إجرامياً رغم رفضه الاعتراف بذلك علناً. حالة الاغتصاب تلك ستجرّ حالات اغتصاب أخرى يمارسها الإسرائيليون على الفلسطينيين، كما ضمن بعضهم، كي تتطور الأمور حتى انفجار اسحق في وجه أمّه سارة (مي أوجدن سميث) ورئيسه العسكري مائير (مارسيل بوشقرا). لا جدوى من طرح تفاصيل الحدوتة هنا، ففي ذلك ظلم لنص ذكي جداً حبكه ونّوس كمن يحيك مسرحية على النول. عقدة في قلب المجتمع الإسرائيلي وعقدة أخرى في قلب المجتمع الفلسطيني، وكما في الحياكة لا تكتمل الرواية إلا ذهاباً وإياباً. لذلك، اختارت سحر عساف تقديم العرض ضمن مساحة واحدة يتبدّل فيها المنزل الفلسطيني بالإسرائيلي.
ووسط المجتمعين، عربة طفل وحيدة تارة تحتضن «وعد» الفلسطيني، وطوراً «دافيد» الإسرائيلي، فيما يبقى الدكتور منوحين من مكتبه المشرف في طبقة ثانية من السينوغرافيا، الوحيد القادر على رؤية صورة أوضح لما يجري في الأسفل، في الحضيض. سينوغرافيا (غيدا حشيشو) ناجحة جداً في ترجمة مساحات النص وإضفاء جوّ قاتم وبارد موظفاً في الرؤية الإخراجية، أكان عبر الإضاءة بالنيون أم عبر اختيار المواد المعدنية والألوان. كذلك، أتت الأزياء (بشار عساف) مكمّلة للخيارات السينوغرافية. أما اعتماد الإخراج الكلاسيكي الذي يولي النص والممثل (الستانيسلافسكي) المساحة الأكبر على الخشبة، فكان أيضاً خياراً موفقاً. النصّ بتعقيداته ما كان ليحمل مساحة لأسلبة التمثيل أو لإضفاء عناصر درامية من خارجه. بل إن واقعيّة التمثيل ــ ضمن محاولة ونوّس مقاربة الصراع العربي ـ الإسرائيلي من زاوية مختلفة ــ كانت ضرورية لمنح تلك المقاربة واقعية طرحها ومساحتها. استطاع الممثلون تقديم عرض متماسك وجذاب لمدة ساعة و45 دقيقة رغم تفاوت الأداء بين المحترفين والهواة. وإن تميّز بشارة عطا الله ومارسيل بوشقرا في تمكنهما من شخصيتيهما، إلا أن ميّ أوجدن سميث قدمت أداءً لافتاً لشخصية معقدّة مثل دور الأم الإسرائيلية «سارة». استطاعت أن تترجم حقد تلك المرأة وتشبثها بالإيديولوجيا الصهيونيّة الذي يتخطى حبها لأفراد عائلتها، من دون أن تقدّم شخصية كاريكاتورية مؤبلسة.أما أهمية «الاغتصاب»، فتتجلى في مشهد يقحمه ونوس في أواخر العرض عن حوار يجري بينه (المثقف العربي) وبين الدكتور منوحين (المناهض للصهيونية). تغريبة بريختية في أواخر العرض، يسائل فيها ونوس هدف المسرحية، وذلك البحث عن الأمل في الأفراد، ولو في قلب معسكر العدو. ثم ينهي الحوار في نقد للأنظمة العربية التي اعتمدت المنهج الصهيوني في حكم شعوبها. عبر ذلك المشهد/ الحوار يضيف ونوّس إلى «الاغتصاب» أهميّة فوق تلك التي تكتنفها أحداث المسرحيّة الأساسيّة. إن كانت ”الإغتصاب“ محاولة لرسم علاقات الجلاد بالضحيّة، فقد يتراءى لبعضهم أنّها تراهن على صحوة ضمير لدى العدو. إلا أن ذلك الحوار بين ونّوس ومنوحين يثبّت ذلك الأمل بالفرد الذي لا يتوانى عن نقد ذاته، ومجتمعه، ودولته قبل أن ينقد عدوه. فرد عربيّ يبحث لدى قاتله عن أفراد آخرين يتشاركون معه في البحث عن الحلّ، عن الإنسان. ذلك هو الأمل الذي تركه لنا سعد ونّوس، وحكمنا به. 
* «الاغتصاب»: حتى يوم غد ــ «مسرح إروين» (الجامعة اللبنانية الأميركية – بيروت) ــ للاستعلام: 71/260218 ـ البطاقات في مكتبة «أنطوان»

عمر خوري في «أجيال»: 61 صورة من وجهي الشتائي


أعماله المعروضة في «غاليري أجيال»، تحملنا في رحلة تخبط المشاعر داخل وجه واحد خلال شهرين من الزمن. تدخلنا عوالم ذاتية قرر الفنان أن يشاركنا بها حميميته. 
سلسلة من اللوحات الشخصية بين الأكريليك والغواش يقدّمها عمر خوري في معرضه الفردي «٦١ وجهاً من وجوه الشتاء» الذي تحتضنه «غاليري أجيال». صاحب «صالون طارق الخرافي» عرفناه كعضو مؤسس لمجلة «السمندل» ومشارك رئيس فيها. خلال الفترة الأخيرة، بدأنا نتعرف إلى لوحات البورتريه التي رسمها لعدد من السياسيين والفنانين والأصدقاء حوله. كان من بينها ديبتيك «رفيق وحافظ» و«سعد وبشار»، وأخرى للسيد حسن نصرالله، ولوليد جنبلاط وغيرهم. أمّا اليوم في «أجيال»، فتنحصر الرسومات ببورتريهات ذاتية يتخللها من وقت إلى آخر ظهور لزوجته فيها. في مشروع سابق، رسم خوري عدداً من البورتريهات الذاتيّة، لكن بالاستناد إلى انعكاس صورته في المرآة. لحظة الانتهاء من هذه الرسوم، أيقن عمر أن عينيه ثابتتا الموقع في جميع اللوحات، فيما يتغير باقي ملامح وجهه.

حينها، قرر أن ينتج فيديو متحركاً يثبّت فيه العينين داخل الصورة، فيما تتبدل تفاصيل وجهه مع تبدل اللوحات في الفيديو، منتجة بذلك ومجتمعة وجوهاً عدة لوجه واحد. انطلاقاً من تلك التجربة، وكلما سنحت له الفرصة، كان عمر يعمد إلى الاختبار في رسم البورتريهات الذاتية إلى أن تمّت دعوته في شتاء ٢٠١٣ إلى إقامة فنية في فرنسا لمدة شهرين. هناك، واظب خوري على رسم بورتريه ذاتي كل يوم، لكن هذه المرّة انطلاقاً من صورة رقمية، بدلاً من الاستناد إلى الانعكاس في المرآة، لا بل انطلاقاً من صورة «سيلفي». خلال إقامة الشهرين هذه، كان عمر يلتقط كل يوم صورة له عبر هاتفه المحمول، تختلف في سياقها وخلفيتها، وطبعاً في تعابير وجهه خلال تلك اللحظة، ومشاعره أيضاً. هكذا تظهر اللوحات المعروضة في «غاليري أجيال» من اليمين إلى اليسار تبدلات وجه الفنان خلال شهري الشتاء ذاك، متضمنةً مشاهد من داخل غرفته، وأخرى في السوبرماركت، أو خلال حلق ذقنه. وفي أول ظهور لبورتريه لا يعود إلى الفنان، نشاهد بورتريهاً لامرأة ليست سوى زوجة الفنان التي افتقدها في عيد العشاق، فقرر رسم لوحة لها عن صورة كانت بحوزته. ثمّ تظهر الزوجة مجدداً في لوحات أخرى إلى جانبه خلال زيارات تبادلاها بين باريس ولندن حيث كانت تقيم هي. في بادئ الأمر، انطلق عمر بالرسم عبر الأكريليك. وكان كلمّا انتهى من لوحة، وضع ألوانه جانباً ليعود إليها في اليوم الثاني، فيعيد استعمالها بعد إضافة ألوان أخرى كلما نفدت إحداها. من هنا، نجد تسلسل الألوان المتقاربة في اللوحات المتقاربة في الزمن. وفي إحدى المراحل، كان يشعر بالشوق والحزن، فقرر الانتقال إلى «الغواش» ليبتعد قليلاً عن الألوان القاتمة، ونغوص معه في وجوه تعجّ بالحياة. جميلة جداً هي لوحات عمر خوري، تحملنا معها في رحلة تخبط المشاعر داخل وجه واحد خلال شهرين من الزمن، وتدخلنا عبر تفاصيلها إلى عوالم ذاتية قرر الفنان أن يشاركنا بها حميميته.

استبدال خوري لمرآته بصور «السيلفي» تحديداً، ليس خياراً عفوياً، لا بل هو مهمّ جداً ضمن سياق معرضه. تتميز «السيلفي» عن سائر الصور الفوتوغرافية بتركيزها على تفاصيل الوجه وعدم إيلائها اهتماماً كبيراً بما يدور حولها. هي توثّق تفاعل وجه ملتقطها مع ما يدور حوله من دون أن يكون المشاهد على دراية تامة بالسياق. كذلك بسبب سهولة التقاطها، وتحوّلها إلى موضة، أغرقت صور «السيلفي» مواقع التواصل الاجتماعي لتتحول توثيقاً شبه يومي لحالة ملتقطها، تأسر بداخلها حالات نفسية متعددة، وتمتد على خط زمني واضح. بذلك، تشكّل صورة «السيلفي» عبر تدفقها وارتباطها بالزمن، أحد أبرز أوجه إعادة التمثيل التي نعرفها اليوم. أما فعل عمر خوري، فيكمن في فترة رسم لوحته. بين الثانية الواحدة التي تحتاجها «السيلفي» لتتشكل، ومدة العشرين دقيقة حتى الساعتين التي كان عمر يستغرقها في رسم لوحته، تتشكل مساءلة فعل إعادة التمثيل. عمر لا يهدف إلى تأمين بديل عن الصورة في اللوحة كما فعل غيرهارد ريختر، لكنه في كل لوحة يعيد ترجمة حالة الوجه ومشاعره وأحاسيسه في حرية اختبار تمازج ألوانه ضمن لوحته. وبذلك تستعيد تلك اللحظة التائهة بين ملايين «السيلفي» الملتقطة يومياً حضورها الخاص، وبالتالي تمثيلها الخاص. لا يقدّم خوري مجرد رسم لبورتريهات ذاتية أسوة بتلك التي عرفها تاريخ الفنّ لكل رسّام، بل يغرقنا في 61 بورتريهاً متلاصقة في الزمن. إغراق معاصر يبحث ضمنه عمر خوري عن ذاتيّة وفرادة كلّ صورة/ لوحة. 
* «٦١ وجهاً من وجوه الشتاء» لعمر خوري: حتى 28 آذار (مارس) ـ «غاليري أجيال» (الحمرا) ـ 01/345213