«صفير زملر»: الفن المعاصر على بساط البحث

احتفالاً بعيدها الثلاثين في هامبورغ، والعاشر في بيروت، أقامت الغاليري معرضاً ضمّ أعمالاً لمروحة من الفنانين اللبنانيين والعالميين أبرزهم إيتل عدنان. وفي هذه المناسبة، أقامت سمبوزيوم جمع مقتني التحف والمنسّقين المعروفين لمساءلة منظومة الفن المعاصر. 
تحتفل «غاليري صفير زملر» هذا العام بـ 30 عاماً على تأسيس الصالة في هامبورغ (ألمانيا)، وعشر سنوات على صالتها في بيروت (منطقة الكرنتينا). لهذه المناسبة، افتُتح معرض Gallery 3010 في بيروت يضمّ أعمالاً لفنانين لبنانيين وعالميين حول مفهوم «الغاليري» في عالم الفن. تخاطب الأعمال المعروضة المكعب الأبيض، ووسائل وآليات العرض، كما الإدارة والتعامل مع الأعمال الفنيّة. يشارك في المعرض 25 فناناً منهم: إيتل عدنان، هايغ ايفازيان، منيرة الصلح، إيتو برادة، آنا بوغوسيان، إيمان عيسى، ربيع مروة، وليد رعد، خليل رباح، مروان رشماوي، وائل شوقي، ريّان تابت وأكرم زعتري، بالإضافة إلى فنانين أجانب وعالميين.
وفي اليوم الذي سبق افتتاح المعرض، نظمّت الصالة سمبوزيوم حول استكشاف الفن العربي المعاصر (1995 ــــ 2015). نسّق السمبوزيوم كلّ من المعدّ الفني الجزائري عمر برادة، ومديرة الغاليري أندريه صفير. هكذا، احتضنت بيروت في نهار طويل سمبوزيوم ضمّ عدداً من أهم الفاعلين في الحياة الثقافية المعاصرة من فنانين ومنسّقين ومدراء مؤسسات ثقافيّة من بيروت، دمشق، القاهرة، جدّة، الجزائر... وصولاً إلى حضور أجنبي من مقتني التحف العالميين والمنسّقين الفنيين منهم مدير «تايت مودرن» كريس ديركون، ومنسقة «دوكيومنتا 13» كارولاين كريستوف باكاريا، ونظيرتها في «بينالي الشارقة» المقام حالياً أونجي جو... تناول السمبوزيوم مواضيع مهمّة جداً، رغم أنه لم يكن هناك مجال واسع للنقاش مع الجمهور بسبب ضيق الوقت.
بعد كلمة الافتتاح التي ألقتها أندريه صفير عن مشاورها الفني من الرسم إلى التنسيق الفنيّ وتأسيس الغاليري في هامبورغ ثم بيروت، عُرض فيديو مقابلة أجراها هانس أوليرخ أبرويست (سربينتاين غاليري) مع إيتل عدنان في بيتها في باريس. شكّلت المقابلة خير افتتاح للسمبوزيوم مع فنانة بارزة عايشت تطور الساحة الفنيّة المعاصرة بين لبنان والولايات المتحدة وفرنسا، متحدثّة عن مسيرة مليئة بالشغف وبالأمل في دور الفنّ في مجتمعاتنا.
عبر رسالة قرأها عمر برادة بسبب تعذّر حصول لارا الخالدي (قيمة فنية فلسطينية) على تأشيرة لدخول لبنان، تناولت الخالدي سياق نشأة المتاحف في فلسطين خلال السنوات الأخيرة، متسائلة عما إذا يمكننا أن نرى في نشأة تلك المتاحف اليوم نيّة لإعادة توكيد كيان الدولة الفلسطينية.
وتم التعريف بـ «المتحف الفلسطيني» المرتقب افتتاحه في بيرزيت عام 2016 على أنّه «متحف حديث وعصري يهدف إلى رواية القصة الفلسطينيّة للعالم من وجه نظر فلسطينية، وسيختص في البحث والتعريف عن تاريخ فلسطين الحديث والمعاصر». تلك العلاقة بين المتاحف كمؤسسات تعنى بالتوثيق والذاكرة والرواية وواقع فلسطين اليوم، تدفعنا إلى البحث في الدور الذي يمكن لتلك المتاحف لعبه: هل تستعيد تلك المتاحف ما خسرته فلسطين في السياسة؟
من جهتها، تناولت كريستين شايلد (متخصّصة في الانتروبولوجيا وتاريخ الفنّ) نشأة المعارض في بيروت منها أول المعارض التشكيلية التي احتضنها المبنى الذي يتمّ تجهيزه حالياً ليصبح «المكتبة الوطنيّة» (الصنايع) وصولاً إلى التسعينيات ونمو صالات العرض في بيروت في موازاة الفعاليات الثقافيّة التي كانت قائمة ضمن الحيز العام مثل مشاريع «الصنايع» (1994)، و«سيوفي» (1997)، و«الكورنيش» (1999) التي أعدّتها جمعيّة «أشكال ألوان»، مسائلة القيمين على المؤسسات الثقافية اللبنانية اليوم عن سبب تراجع العمل ضمن الحيز العام والتوجه إلى داخل صالات العرض والمكعبات البيضاء والمباني الداخلية.
من جهة أخرى، جاءت مداخلة المقتني البرازيلي لويس تيكسيرا دي فريتاس مميزة جداً. أعرب دي فريتاس عن قلقه مما يحدث اليوم في السوق الفنية. وأشار إلى أنّ الإحصاءات العالمية خلال السنوات العشر الأخيرة تفيد بأن نموّ التبادل التجاري ضمن السوق الفنيّة يشبه بدينامكيته وأرقامه وغياب القوانين المنظمة له ذلك الحاصل في تجارة الأسلحة والمخدرات والإتجار بالبشر. غير أن الفارق الوحيد يبقى أن السوق الفنيّة تتحلى بالصفة القانونية التي تغيب عن التجارات الأخرى. واستفاض في تقديم أمثلة عن العلاقات المعقّدة والشائكة التي تربط مقتني التحف بأصحاب الغاليريهات والمتاحف والمستشارين الفنيين، مؤكّداً الحاجة الضروريّة اليوم لسنّ قوانين عالمية تنظّم تلك العلاقة.

تلك عيّنة من الطروحات التي حملها السمبوزيوم. كان ملفتاً أن تختار أندريه صفير الاحتفال بعيد الغاليري عبر إعادة مساءلة دور الصالات الفنية وأثرها على تطور ساحة الفنّ المعاصر في بيروت والعالم أكان عبر السمبوزيوم أم المعرض اللذين لم يخلوا من نقد ذاتي ومراجعة للواقع الحاضر على ضوء التجربة الماضية. صالة «صفير زملر» من المراكز التي لعبت دوراً أساسياً في نمو الساحة الفنية المعاصرة في بيروت، وإيصالها إلى العالم، وأصبحت عبر مقرّها في منطقة الكرنتينا محطة أساسية لروّاد ومتابعي الفن المعاصر عبر تقديم عدد كبير من المعارض لأهم الفنانين اللبنانيين والعرب والعالميين.

هكذا وظّفت الغاليري شبكة علاقاتها لتدعو إلى بيروت نخبة من أهّم الفاعلين على الساحة الفنية العالمية، أو على الأقل المهتمين بالمنطقة العربية، وفتحت عبر السمبوزوم والمعرض الحالي باب نقاش جدي حول قضايا عدّة تعني كلّ مهتمّ بالفن المعاصر. نقاش انطلق هنا لكن لا بدّ من مواصلته. خير احتفال صنعته أندريه صفير عبر المساءلة المستمرّة والنقدية لمنظومة الفنّ المعاصر.

* Gallery 3010: حتى 1 آب (أغسطس) ــ «غاليري صفير زملر»، الكرنتينا (بيروت) ـ للاستعلام: 01/566550

ألفريد طرزي: تاريخ بصري لذاكرة الحرب


في معرضه الفردي الأول «أرض شاغرة» الذي تحتضنه صالة «جانين ربيز»، يقارب الفنان الشاب الحرب الأهلية التي زعموا انتهاءها عام 1990. يقترح إقامة «نصب مؤقت»، معيداً للضحايا وجوههم وأغراضهم وهويتهم.

رغم تذّمر بعضهم من انشغال العديد من الفنانين اللبنانيين بالحرب الأهلية، إلّا أنها ما زالت تؤرّق ألفريد طرزي (1980)، مكرّساً لها معرضه «أرض شاغرة» في «غاليري جانين ربيز». يميل كثيرون في لبنان إلى طيّ صفحة الحرب. طيّ أعمى يتعمّد التهرّب من مواجهة التاريخ متسلحّاً بقانون «العفو العام» المخجل الذي يحمي المجرمين من المحاسبة من دون أن يمنح على الأقل أهالي المخطوفين والأسرى طمأنينة معرفة مصير ذويهم. لكنّ جيلاً من الشباب اللبناني ينتمي إليه طرزي، يصرّ على عدم طيّ الصفحة، بل يحاول مقاربتها فنيّاً، بما أنّ مقاربتها في المحاكم أمر غير مباح.

وسط الصالة، يقدّم طرزي اقتراح «نصب مؤقت» للحرب الأهلية اللبنانية. التجهيز مؤلف من قواعد من الباطون. من كلّ قاعدة، يخرج عامود حديدي من الفولاذ الصلب. العواميد مصفوفة جنباً إلى جنب على أرض مفروشة بالبحص الأبيض. كل تلك المواد جمعها الفنان من مخلفات مواد البناء. التجهيز المقدّم في الصالة عيّنة عن اقتراح لـ«نصب مؤقت» يقترح طرزي إقامته في وسط بيروت بحيث يدعو أهالي ضحايا الحرب الأهليّة إلى تعليق صور وأغراض شخصيّة ورسائل لأقربائهم الذين فقدوهم خلال الحرب على تلك العواميد. بذلك، يستعيد ضحايا الحرب هوياتهم ويُرفع هذا النصب في ساحة عامة في وسط المدينة المتنكرة لذاكرتها ولفرديّة ضحايا الحرب. المثير للاهتمام أن النصب المقترح يحمل في مواده وتكوينه مفهوم «طور الإعمار». عبر دعوة أهالي ضحايا الحرب للمشاركة في إكمال ذلك النصب، فإنّ طرزي يطلق مشروعاً في «طور إعمار» تاريخ الحرب المهمّش.

في المقابل، يقدّم طرزي لوحة كبيرة وستة أعمال تفاعليّة. في اللوحة، يعيد تقديم مقاربة أخرى للنصب المؤقت حيث يتصدر اللوحة رسم لطفل يحاول عدّ ضحايا الحرب وتحيط به معالم وسط بيروت مثل تمثال الشهداء وتفاصيل من مبنى «ستيتي سنتر». أمّا الأعمال التفاعليّة، فيتألف كلّ منها من صندوق حديدي أو اثنين متوازيين في بعض الأحيان. داخل كلّ صندوق، نرى لفافة من الورق تصل في إحداها إلى 32 متراً، وقد زوّد الفنان تلك الصناديق بآليّة يدويّة تخوّل الجمهور برم اللفافة لمشاهدة الرسوم أو شرائط الصور المولّفة.


                

تتمحور مواضيع تلك الأعمال أيضاً حول تفاصيل الحرب الأهلية. في عملين، يتوازى صندوقان عموديان. اختار طرزي في الأول «شرق وغرب» أن يرسم على ورق كبير مجموعة رسوم مستوحاة من خطوط التماس التي فصلت بيروت خلال الحرب ثم شَطَرها في الوسط إلى قسمين ووضع كلّ قسم منها على لفافة في صندوق. وعبر برم كلّ لفافة على حدة، تنفصل الرسوم عن بعضها لتشكل رسومات جديدة تتألف عناصرها من غرب وشرق مختلفين. في العمل الثاني «يسار ويمين»، أجرى طرزي مداخلته الفنيّة في الصندوق الأول فوق لفافة مؤلفة من بورتريهات نشرتها «حركة أمل» لشهدائها. وفي الصندوق الثاني بورتريهات لشهداء «حزب القوات اللبنانيّة». مواضيع أخرى يتناولها طرزي في تلك الصناديق لذاكرة الحرب، منها «أواني» حيث شهادات حيّة لمقاتلين حربيّن يخبرون عن أساليب تخلّصهم من الجثث بعد المجازر، أصعب المهام بالنسبة إليهم. في ذلك العمل وعبر تقسيم صندوقه، يولّف طرزي شريط صوره الفوتوغرافيّة مع نصوص، ثم يقسم الجزء السفلي للصندوق إلى مستطيلات صغيرة محولاً العمل بأسره إلى شريط سينمائي يدوي يتابع فيه المشاهد تسلسل الصور مع النص، إضافة إلى لقطات مقرّبة لمشاهد أخرى. من أبرز الأعمال في المعرض صندوق «عندما تكون الشمس مرتفعة عند الظهيرة» الذي يتابع فيه المشاهد لفافة بطول 32متراً من رسوم طرزي. رسوم يطغى عليها الأسود والأحمر والذهبي، وتتكرر فيها دراسات لذلك النصب المؤقت بأشكال مختلفة، بالإضافة إلى وجوه يستعيدها من زمن الحرب الأهلية، وذلك الرجل المنتصب والمتكرر في سائر أعماله. عنيفة هي رسومات طرزي كما هي الحرب، لكنّها تختزن جمالية خاصة لا تقع في أسلبة العنف بل تعطيه مفردات وألواناً وخطوطاً واقتراحاً لهوية ملموسة يمكن التفاعل معها ومحاولة قراءتها.


ما يميّز أعمال طرزي أنّها تعيد منح ذاكرة الحرب، المهمشة عن قصد، كياناً ملموساً، فتحوّل الروايات والذكريات المنسيّة إلى شريط رسوم وصور يشارك المشاهد في تداولها، وتمريرها أمام أعينه. كأن الفنان يحولّ ذلك التاريخ المروي إلى تاريخ بصري يختار فيه المشاهد أين يريد أن يوقفه عن الدوران، أنّ يجمّده في الوقت، ليتأمل فيه ويحاول فهمه قبل أن يدفعه من جديد فتتدفق الرسومات والصور والروايات والذكريات. بعبارة أخرى، نجح طرزي عبر صناديقه في تقديم أعمال فنيّة بين اللوحة الجامدة وصور الأفلام المتحركة، مسخّراً عناصر الأسلوبين الفنيّين في خدمة سرد تاريخ الحرب الأهليّة.