رفيق مجذوب | بورتريهات القلق

دعونا رفيق مجذوب (1971) في معرضه Rain on me إلى ذاته. لا شيء سوى بورتريهات ذاتيّة. بورتريهات تختزن الكثير من الصدق. في معرضه الذي تحتضنه غاليري Art on 56th (الجميزة) حتى 31 كانون الثاني (يناير)، نرى بورتريهات بالأكريليك والباستيل على كانفاس، وأخرى على صناديق خشبية، إلى جانب فيلم وثائقيّ عن الفنان من إخراج آن ميغالا. في الفيلم الوثائقي، يسرد لنا رفيق رحلته، بدءاً بطفولة أمضاها بين عمّان ودمشق وبيروت وسط عائلة محاطة بالفنانين، ثم وصوله إلى بيروت أوائل التسعينيات حيث بدأ باحتراف الرسم بتشجيع من كريستين طعمة، ليقدّم أول معرض له في ما بات يعرف اليوم بـ«زيكو هاوس».
في معرضه الأول، بدت لوحات مجذوب ملوّنة ومسالمة، وفرحة، بعيدة عن تلك التي نعرفها اليوم. أسلوب تخلّى عنه سريعاً، متأثراً بعنف المدينة المدمرة بعد حرب أهليّة طويلة، باحثاً عن أسلوب رسم باطنيّ يخاطب فيه ذاته قبل أن يخاطب به الجمهور. هكذا بدأت تتساقط الغربان السوداء في لوحات مجذوب، وعاد ذلك البرغي الذي عرفه مثبّتاً عظام رجله إثر حادث في طفولته. برغي حفر في جسده عنفاً أعاد رسمه بعنف مواز في لوحاته. تلاشى فرح الألوان، واحتل الأسود المكانة الكبرى، ولم تعد تظهر سوى الألوان الصارخة. يقول مجذوب في الفيلم «غرق بعض أصدقائي البيروتيين في علاقات ومنهم من تزوّج، أما أنا فكنت في علاقة مع الويسكي». 
خلال سنوات طويلة، لم يفارق مجذوب الويسكي الذي بدأ يشربه من القنينة لأنه لم يعد يحتمل رائحة الكحول عند شربه من الكوب، إلى أن قرر أن يدخل مستشفى خاصاً للتخلص من الإدمان. هناك رسم يومياً وأصدر كتابSober Days عام 2012، ومن ثم كتاباً آخر Drinking From a Broken Glass. أمّا معرضه الأخير في بيروت فكان في «غاليري أجيال» عام ٢٠٠٩. بعد ستّ سنوات، تعود بورتريهاته الذاتيّة اليوم لتعلّق على حائط الغاليري كمرايا لذات محكومة بالقلق. رأس نحيل ذو عينين كبيرتين، وخطوط وجه تتساقط رافضة أن تستقر في السكينة. صاعقة بورتريهات رفيق مجذوب، صاعقة بالصدق الذي تحتويه، وبقدرتها على مخاطبة ناظرها، وعكس قلق راسمها. الوجوه تحيط بك من كلّ مكان. وجوه لا يمكن أسر حالتها في شعور محدد، بل تحكمها تعقيدات المشاعر. ورغم التباعد الكلي بين أسلوبَي الرسم، تشعر كأنك حاضر أمام رهبة البورتريهات الذاتيّة لفان غوغ ذات الأذن المبتورة. لكن الرهبة هنا تتولد من بتر غير مرئي، بتر أقسى وأعنف من ذلك الجسدي. رفيق مجذوب ما زال مصراً على إقلاق راحتنا في مدينة تدّعي السكينة. عبر بورتريهاته الساكنة على الحائط وعيونها الجاحظة، يدعو الأرق إلى جفوننا لتبقى لحظة مواجهة الفنان في لوحاته لحظة صدق يندر أن نجدها في الأعمال الفنيّة، فلا تترددوا في زيارة المعرض.
Rain on me لرفيق مجذوب: حتى ٣١ كانون الثاني (يناير) ــــArt on 56th Gallery (الجميزة ــ بيروت). للاستعلام: ٥٧٠٣٣١/01

سمير خداج: الفعل الدرامي بالأبعاد الثلاثة


العام الماضي، أخذنا في رحلة شعرية تشبه الفضاء المهجور الذي قدّم فيه عمله أي مبنى «مسرح المدينة» القديم في كليمنصو. أما اليوم، فيختلف السياق وبالتالي الطرح. يدخلنا الفنان اللبناني خداج إلى فضاء «دوار الشمس» النابض بالعروض والحياة، فكان لا بدّ من التفاعل معه بطريقة مختلفة. هذا ما نشاهده في «صورة ذاتيّة مع الكلارينيت والشاهدان الصامتان».

ضمن فضاء «دوار الشمس»، يقدّم سمير خداج عرضاً متعدد الأبعاد بعنوان «صورة ذاتية مع الكلارينيت والشاهدان الصامتان». خلال العام الماضي، دعانا خدّاج إلى رحلة في مبنى «مسرح المدينة» القديم في كليمنصو. ذلك المسرح الذي شهدت خشبته عدداً كبيراً من العروض المهمة التي عرفتها بيروت، كان قد تحوّل إلى ما يشبه الخربة بعد هجره. حينها، قرر خدّاج أن يعيد اقتحامه بتجهيز ضخم يضمّ عدداً كبيراً من الفيديوهات الموزعة في أرجاء هذا الفضاء المسرحي من المدخل إلى الأدراج وخفايا الغرف التي كانت مغلقة، إلى قاعة المسرح الخالية من المقاعد والخشبة.
يومها، جلنا في رحلة شعرية كمَن يغوص في فضاء مهجور تنبت من زواياه صور وفيديوهات قررت أن تسكنه، فتعطيه حياةً جديدة رسمها وولّفها الفنان سمير خدّاج. أمّا اليوم، فيختلف السياق، ويختلف معه الطرح. يدخل خداج إلى مسرح نابض، وفضاء ما زالت خشبته تقدّم العروض، فكان لا بد من التفاعل مع ذلك الفضاء الحي بطريقة مختلفة، كما عوّدنا دوماً في أعماله، وهكذا فعل. يرتكز العرض إلى فضاء الركح، ويتوجّه إلى الجمهور الجالس في مقاعد المسرح، بعكس عمله السابق في «مسرح المدينة» المهجور حيث كان الجمهور يتنقل سيراً بين الأعمال. تلك العلاقة بين العمل المعروض على الخشبة والجمهور المتلقي، أثارت لدى خداج طرحاً مختلفاً. هكذا نصب في فضاء المسرح شاشات تحتّل أبعاداً متباينة على الخشبة، وفي المقدمة شاشة شفافة كبيرة. على تلك الشاشات، ألقى بصوره وفيديوهاته من مصدرين للصورة يلتقيان وسط المسرح، فيشكلان صوراً ذات أبعاد ثلاثية. أعاد خداج عكس التقنيّة الكلاسيكية في إنتاج الصورة الثلاثية الأبعاد.
بدلاً من التقاط الصورة بعدستين، أنتج فيديو مؤلفاً من مصدرين للصورة. عبر تعدّد الشاشات واعتماد شاشة شفافة في المقدمة، استطاع أن يخلق بعداً ثالثاً للصورة. ظهرت بعض تفاصيل الصورة كما لو أنّها تتطاير في فضاء المسرح. أهميّة مقاربة خداج للصورة في عمله الجديد تكمن في رغبته بمخاطبة الفضاء الذي يعرض فيه. على تلك الخشبة، يقدّم الممثلون عادة بأجسادهم أفعالاً دراميّة، أفعالاً ثلاثيّة الأبعاد، فكان لا بدّ لخداج أن يحاكي ذلك الفعل عبر تخطي حصر الصورة أو اللوحة بأبعادها الثنائية، وتحويلها إلى أجسام تحتّل بعداً ثالثاً في فضاء المسرح.
هكذا أعطى لوحاته وصوره حضوراً مختلفاً فوق الخشبة، حضوراً ملأ الفضاء. لم يكتف بذلك، بل كان من وقت إلى آخر يدخل بجسده إلى الخشبة، ليصبح جزءاً من عالم صورته ثم يختفي وراء شاشاته. مثير سمير خداج في مقاربته لأعماله الفنية حتى اليوم، هو الذي يقول عنه المخرج روجيه عساف «تتجلى دينامية الفنان الذي يرفض أن يكتفي بعرض لوحاته في مكان لا تنتمي إليه، بل يقرر أن يحتل المكان، أن يغويه، وأن يدخله في عالم صوره (...) الفنان لا يعرض لوحاته، بل يقوم بإخراج مشهد تشكيلي». تلك الخصائص التي يتميّز بها خداج (١٩٣٩) ترجمها منذ معرضه الأول في «الكارلتون» عام ١٩٨٩، مروراً بمرحلة انتقاله إلى باريس عام ١٩٩٠، وصولاً إلى اليوم.
فنان متجدد يسائل في كل عمل له الشكل والمضمون والسياق الذي يعرض فيه. هكذا يعيد طرح الفعل الدرامي على الخشبة بين سطوة شاشات الفيديو على المسارح واحتلال الأبعاد الثلاثيّة لشاشات السينما من دون أن يقضي على جسد وفعل الممثل على الخشبة.
إلا أنّ سؤالاً وحيداً يبقى ملحاً في «صورة ذاتيّة مع الكلارينيت والشاهدان الصامتان» ويتعلّق بمضمون العرض. خَلق الفعل على المسرح بتقنياته المتعددة وتلقيه من قبل الجمهور يحصلان في الدقائق الأولى فيما طوال العرض، تتوالى فيديوهات وصور تبقى غير قابلة لبناء حوار مع المتلقي، بل تنحصر في المفهوم الجمالي للشكل المطروح. علماً أنه كما يدّل العنوان، فجميع تلك المواد تصبّ في صورة الفنان الذاتية، وإن كان على الخشبة فعلاً شاهدان صامتان. إلا أن الجمهور أيضاً تحوّل شاهداً صامتاً وعاجزاً عن التفاعل مع المواد المقدّمة، ربما لأنّ هذه المواد بقيت ذاتيّة جداً في لغتها وتفاعلها في ما بينها، ما شكّل حاجزاً أمام تواصلها مع المتلقي.
«صورة ذاتيّة مع الكلارينيت والشاهدان الصامتان: عرض متعدد الأبعاد» ـــ من 23 حتى 31 كانون الثاني (يناير) 20:30 مساءً ــ «دوار الشمس» (الطيونة ـ بيروت) ــ للاستعلام: 01/381290

كسر الصورة النمطية عن المرأة اللبنانية


يندرج فيلم «يلا عقبالكن» (كتابة نيبال عرقجي، وإخراج إيلي خليفة) ضمن ما يعرف بالسينما التجارية «الخفيفة»، ويميل أكثر إلى المقاربة التلفزيونيّة منه إلى فيلم ذي طرح سينمائي بكل العناصر المؤلفة له، حتى التجارية منها. قررت كاتبة العمل ومنتجته نيبال عرقجي التي تجسّد أيضاً شخصية «لايان» في العمل أن تتناول قصة أربع نساء في محور رئيس: العلاقات مع الجنس الآخر. منذ بداية الفيلم، نحن أمام تركيبة من أربع نساء: ندى أبو فرحات، مروى خليل، دارين حمزة، ونيبال عرقجي. لكل منهن قصّتها الشخصيّة مع الرجال وتعقيداتها، في محاولة لتقديم عيّنة عن أربع نساء عازبات من المجتمع اللبناني، واختلاف نظرتهن إلى العلاقات ومفهوم الزواج والرجل.
في البداية، يبدو الأمر مثيراً للاهتمام، إذ يقارب شخصيات من الحياة الحقيقية التي غالباً ما نجد صورة مزيفة لها على الشاشة الكبيرة ولا تشبه كثيراً أرض الواقع. النساء الأربع هنا يتكلمّن في ما بينهن عن علاقاتهن، عن تجاربهن الجنسيّة، عن طول القضيب عند الرجال الذين مارسوا الجنس معهم ليلة أمس. في حوار بين تالين (ندى أبو فرحات)، وياسمينا (دارين حمزة)، تسأل الأخيرة تالين إن كانت ترضى بممارسة الجنس مع رجل مقابل مليون دولار أميركي. لا تتردد تالين في الإجابة: «عم نام معن ببلاش، مستكترة عليّ مليون دولار!». ثم لا تتردد ياسمينا في طرح السؤال على والدتها (جوليا قصّار) السيدة المحافظة، تنهرها والدتها وتنهر أخاها الذي لا يجد أيضاً ضرراً في مضاجعة صاحب المليون دولار. وحين تصبح وحدها، نرى الوالدة تعيد التفكير في الموضوع وتشعر بالميل لقبوله قبل أن تعود إلى «رشدها». من الضروري أن نرى على شاشة السينما اللبنانيّة شخصيات تشبه مجتمعنا، تشبه سكان بيروت التي يتناولها الفيلم. إنّهن لسن جميعهن عذراوات في انتظار الزواج لممارسة الجنس، والحمد لله! حتى إنهن يشتمن كما تشتم أيّ فتاة لبنانيّة عندما تغضب. هكذا في بداية الفيلم، نتلمس تلك النزعة التحرريّة لدى المرأة العزباء ضمن المجتمع الذكوري الشرقي. لكن للأسف، لا يلبث السيناريو أن يقود شخصيات الفيلم إلى الحبكة الكلاسيكيّة لأفلام «الرومنتيك كوميدي». ولن نغوص هنا في كيفية انتهاء جميع المشاكل إلى جميع الحلول المتوقّعة كي لا نفسد عليكم «حدوتة» الفيلم. لكن ليت عرقجي اختارت تحدي النهايات النمطية كما تحدّت بعضاً من الصورة النمطيّة للمرأة في السينما اللبنانيّة. ورغم المجهود المبذول في إضفاء عفويّة ضرورية، إلا أنّ بعض التكلّف الذي نقع عليه في الحوارات السينمائية والمسلسلات اللبنانيّة، بقيَ مسيطراً على جزء كبير من حوارات الشريط. علماً أن التجربة السابقة لنيبال عرقجي في كتابة فيلم «قصّة ثواني» (2012) كانت أكثر متانةً ضمن صيغة الأفلام الدراميّة التجاريّة، إذا وضعنا جانباً استعارة تركيبة القصص المعزولة التي تلتقي في إحدى لحظات الفيلم. في نهاية الأمر، من الظلم نقد أفلام مماثلة عبر معايير سينمائيّة، لكن لا بدّ أيضاً للسينما التجاريّة من بذل مجهود أكبر لتقديم نتاج حذق في تسلية ذكية للجمهور الواسع كما «للسينيفيليين»، فهم أيضاً يذهبون إلى السينما للتسلية. وكما لسينما المؤلف جودتها، كذلك لتلك التجاريّة.

ميليا مارون: تصاميم «معاصرة»


في «مركز بيروت للفن»، يقدَّم «الآن/هنا» للمصممة اللبنانية المعروفة. تجهيزان يحاكيان مفاهيم شغلت الفن المعاصر في التسعينيات مع وليد صادق وصولاً إلى جيل اليوم، مثل الحضور والتحول والغياب.
اعتاد «مركز بيروت للفن» على دعوة مصممين لتقديم أعمالهم في موازاة المعارض الفنيّة ضمن سلسلة معارض BAC Design. وفي موازاة «عتبات ٢٠١٤»، يقدّم المركز اليوم مصممة الأزياء اللبنانيّة ميليا م (مارون) في معرض «الآن/ هنا».
درست ميليا مارون تصميم الأزياء في مدرسة «إس مود» العريقة في عالم الأزياء في باريس، وعادت إلى بيروت حيث عملت في تصميم اللانجري قبل إطلاق علامتها «ميليا إم» عام ٢٠٠٠. بعدها، افتتحت متجرها في «صيفي فيلاج» (٢٠٠٤)، وأخيراً متجراً جديداً في لندن. منذ إطلاق علامتها، اختارت ميليا مباشرة دخول عالم Prêt à Porter (الثياب الجاهزة) وتصميم أزياء في متناول فئة كبيرة من المجتمع بدلاً من الخوض في عالم الـ Haute Couture، الموجهة إلى طبقة اجتماعيّة محددة جداً. أمّا ما يميّز ميليا حتى اليوم، فهي أنّها من الأسماء النسائية اللبنانيّة القليلة (إلى جانب ريم عكرا) التي تعمل في عالم تصميم الأزياء، عالم يسيطر عليه مصممون رجال.
أما في معرضها في «مركز بيروت للفن»، فقد اختارت أن تنطلق من مقولة الفيلسوف هرقليطس «كلّ شيء في سيلان دائم، لا شيء يبقى جامداً» لتقديم تجهيزين. الأول الذي يحمل عنوان Panta Rei يتألّف من ٩٦ قميصاً منقّطة بألوان عديدة، ومصفوفة جنباً إلى جنب لتؤلف معاً ــ وعبر النقاط الموزعة على كل قميص بتصميم مختلف ــ كلمة Nowhere (هنا الآن) من جهة، وكلمة Everywhere (أينما كان) من الجهة الأخرى. تلك القمصان معروضة للبيع. وكلما أقدم زائر على شراء قميص انتزعه من اللوحة العامّة، تُفكَّك اللوحة شيئاً فشيئاً، فتستحيل قراءة الكلمة، وتتحول من «هنا الآن» إلى «أينما كان». في التجهيز الثاني Common Thread، وضعت مارون عدداً من رقع القماش تؤلّف فستاناً على جسد مانيكان. وبالقرب من المانيكان، تقف سيدّة تعيد نسج شالات من الخيطان بعد أن تكرّها من رقع قماش الفستان. هكذا تختفي تلك الرقع، ويختفي معها الفستان، لتتألف الشالات بطريقة جديدة.
ما يميّز معرض «الآن/هنا» أنّ مارون بذلت مجهوداً لتحاكي عالم الفنون المعاصرة. في معظم الأحيان، كنا نشهد سابقاً معارض في BAC Design لا تتخطى عرض التصاميم أكانت الأزياء، أم المجوهرات أم الأثاث، لا بل كان بإمكان تقديمها في أيّ صالة عرض تجاريّة. إلا أنّه بالتجهيزين المقدمين في المعرض، تحاكي ميليا مارون مفاهيم مثل الحضور والتحول والغياب. ولا يغيب على أيّ متتبع للفنون المعاصرة، خصوصاً في لبنان أنّ تلك المفاهيم شغلت عدداً كبيراً من الفنانين اللبنانيين، أكان من الجيل الذي انطلق في التسعينيات مثل أعمال وليد صادق حول الغياب أو أعمال الثنائي خليل جريج وجوانا حاجي توما حول الغياب والتحوّل، وصولاً إلى العديد من الأعمال المعاصرة اليوم. كذلك، يندرج «هنا/ الآن» ضمن العنوان الذي اختارته مديرة «مركز بيروت للفنّ» ماري موراسيول لمعرض «عتبات ٢٠١٤» الموازي لمعرض مارون. إذ اختارت عنوان «قيد البنيان» كثيمة عامة للمعرض. عنوان ينطبق بسهولة على معرض «هنا/ الآن».
في النهاية، لا بدّ من الإشارة إلى أنّه في حديث مع «الأخبار» أعلمتنا مديرة المركز الجديدة موراسيول أنّ ميليا مارون سوف تكون آخر ضيف على «مركز بيروت للفنّ» ضمن سلسلة BAC Design، فالإدارة تجد أنه رغم أهميّة المعارض السابقة وما أضافته إلى المركز، إلّا أن الأخير يفضّل التركيز على تقديم المعارض الفنيّة. أمّا معارض التصميم، فبحاجة إلى إدارة وتوجّه مختلف لا نيّة للمركز في اعتماده. 
«هنا/ الآن» لميليا مارون: حتى ٧ شباط (فبراير) ــ «مركز بيروت للفن» (جسر الواطي) ـــ للاستعلام: 01/397018

ادوار الياس: بورتريهات اللجوء والأسى

يقدّم «المعهد الفرنسي في بيروت» معرضاً فوتوغرافياً للمصور الفرنسي الشاب إدوار إلياس (١٩٩١) عن اللاجئين السوريين في لبنان. ولد إدوار في منطقة الغار في فرنسا، وعاش عشر سنوات في القاهرة ليعود إلى فرنسا عام ٢٠٠٩ حيث درس التصوير الفوتوغرافي في مدرسة «كوندي» في آنسي. اهتمام ادوار بصور الحرب قاده إلى مخيمات اللاجئين في تركيا وبورما كذلك دخل حلب. في ٦ حزيران (يونيو) ٢٠١٣، أُسر في شمال حلب مع ثلاثة صحافيين آخرين، ليطلق سراحهم بعد عشرة أشهر من الأسر.
أما اليوم في قاعة المعارض في «المعهد الفرنسي في بيروت»، فيقدم إدوار سلسلة صور فوتوغرافيّة التقطها في مخيمات اللاجئين في لبنان حيث تعمل منظمة الإغاثة الأوليّة. في بعض الصور، يظهر عمّال المنظمة وهم في المخيمات يحاولون مساعدة اللاجئين في تأمين بعض حاجاتهم، فيما تلتقط صور أخرى بعض اللحظات اليوميّة من معيوش اللاجئين كأطفال يلعبون، ورجال في وقت الصلاة، وأخرى ملتقطة داخل الصفوف أو خلال ورش عمل. تبقى الصور الأكثر تعبيراً هي بورتريهات لأطفال وبالغين ضمن فضاء البؤس الذين يعيشون فيه. رغم التشابه بين الصور الفوتوغرافيّة الصحافيّة للاجئين السوريين أينما كانوا، إلا أنه جلياً أن لدى ادوار حساسيّة عالية وذكاء مكنّاه من التقاط بورتريهات تقدّم كثيراً من المعلومات عن الأسى والمصاعب التي تأسر وجوه بورتريهاته من دون أن يقع في فخ استثارة الشفقة. 
لكنّ السؤال الذي يطرح دائماً حول صور الحرب وأهميّتها يبقى مطروحاً هنا في المعرض. لمن ولماذا تلتقط الصور؟ هل الهدف تقديم معلومة مفقودة والتأثير في الرأي العام؟ وعن أيّ رأي عام نتكلم؟ ها نحن في لبنان حيث التقطت تلك الصور لم نحرّك ساكناً إثر إصدار دولتنا قانوناً جديداً مخزياً لتقليص اللجوء السوري في لبنان عبر فرض إجراءات قسيمة دخول تصل في أحد بنودها إلى فرض نظام الكفالة. ولنا شوط من العنصريّة تجاه السوريين لا يتنهي، ويظهر في إحدى صور إدوار الملتقطة ليافطة لبلديّة حلبا تفرض حظر التجول على السوريين. أمّ أنّ هذه الصور قد تؤثر في الرأي العام الفرنسي والدولي الذي تسهم حكوماته في إطالة أمد الحرب لحين إيجاد حل سياسي؟ أمد يذهب ضحيته مزيد ومزيد من القتلى، ويتزايد عبره اللاجئون الهاربون من الرصاص ليموتوا في برد بقاع لبنان وعكاره. من المؤكد أن تلك الصور سوف تبقى للتاريخ توثيقاً لحرب جديدة تضاف فيها صور اللاجئين السوريين، إلى جانب صور الأسد خلال زياراته جنود الجيش السوري في جوبر ليلة رأس السنة، بعدما شكّك بصدقيتها كثير من المعارضين. ويبقى للتاريخ حقّ الفصل.

«زقاق» تدعونا إلى «وليمة» الموت


في «مونو»، قدّمت الفرقة «الموت‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬العيون» و«هو الذي رأى» كثمرتين لبحثها حول تيمة الموت والخلود. بينما ذهب العمل الأول إلى مقاربة الموضوع في وسائل الإعلام، أخذنا الثاني في رحلة من جلجامش إلى برك الدماء التي تغرق فيها مدننا المعاصرة من بغداد مروراً بالشام وصولاً إلى غابة الأرز في لبنان!
تستقبل فرقة «زقاق» السنة بعروض عن الموت. في «مونو» بصالتيه الكبيرة والصغيرة، تقدم الفرقة عرضين «الموت‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬العيون» و«هو الذي رأى» كنتاجين لانكباب «زقاق» على البحث والعمل حول موضوع الموت والخلود. بتكليف وإنتاج من مهرجان Schwindelfrei المسرحي، قدمت الفرقة «الموت يأتي من العيون» للمرة الأولى في مانهايم الألمانية عام ٢٠١٤ قبل أن نشاهده اليوم في بيروت.
عرض قصير (٢٠ د) تؤديه مايا زبيب وكريستيل خضر على خشبة «مسرح مونو» الصغير (إخراج مايا زبيب وعمر أبي عازار) متناولاً مسؤوليتنا في مواجهة تمثيلات الموت الذي يحيط بنا اليوم من خلال وسائل الإعلام. في العرض، تضع الممثلتان قناعين خفيّين: قناع السعادة على وجه مايا الدائمة الابتسام حتى في أكثر اللحظات دراميةً، وقناع التعاسة على وجه كريستيل. الممثلتان كمهرجتين (السعيد، والتعيس) تخبراننا عن الموت، عن ميتات تاريخية درامية و«عظيمة». بوعي كامل ومنطوق، تقرر الممثلتان البحث عن لحظة الموت الأكثر درامية لتقدمانها لنا نحن الجمهور على خشبة المسرح. على طاولة وليمة، مع باقة من الزهور، وشموع، وصحن فاكهة «عرمرميّ»، وكأس نبيذ أحمر، تلتهم مايا زبيب بهدوء دجاجة مشويّة فيما تطلب منّا أن نشاهد كريستيل خضر تمّثل موتها. تضع بعض الموسيقى الكلاسيكيّة الجنائزيّة لجرعة إضافيّة من الدراما. على الخشبة أرضاً، تمثّل كريستيل موتها بدراميّة فائقة. إعادة تمثيل لحادثة محاولة وصول الطفلة السودانيّة إلى مركز للطعام فيما ينتظرها نسر لتموت، فيلتهمها. لحظة خلّدها المصور كيفن كارتر بعدسته عام ١٩٩٣ لتصبح أشهر صورة في التعبير عن إشكاليّة علاقة الميديا بالموت.
حين تنقل مشاهد الموت، تلجأ وسائل الميديا غالباً إلى ستر وجه الضحايا، وعرض الأشلاء الجسديّة مبكسلة، أو إلى قطع المشهد قبل وصول السكين إلى رقبة الضحية لتنحره، مبررةً شهوتها نشر الصورة عبر زعمها بأنها تحافظ على مشاعر المشاهد. كأنها لا تعلم أنّ مخيلّة الإنسان أقوى من بصره. في «الموت يأتي من العيون»، لا يلجأ العرض إلى تلك الوسائل «الرخيصة»، بل على العكس يدعونا إلى المضي في شهواتنا المريضة حتى التطرف، فنحتفل بالإجرام والموت، كما فعل بازوليني في فيلمه «سالو»، علنا نرتجف أمام فظاعتنا، فنتوقف قليلاً لنفكّر بما يحصل حولنا ونتّخذ موقفاً مغايراً.
على الخشبة الكبيرة، شاهدنا عرضاً ثانياً تلا الأول يحمل عنوان «هو الذي رأى» (إخراج عمر أبي عازار ومايا زبيب) ويشارك في أدائه: لميا أبي عازار، وهاشم عدنان، وكريستيل خضر، وجنيد سري الدين ومايا زبيب.
يتناول «هو الذي رأى» أيضاً موضوع الموت في المجتمعات المعاصرة انطلاقاً من ملحمة جلجامش. واستوحته الفرقة أيضاً من أعمال أنطونين‭ ‬آرتو،‭ ‬وهوارد‭ ‬باركر، ‬ومحمود‭ ‬درويش،‭ ‬ومارغريت‭ ‬دوراس،‭ ‬وكريستا‭ ‬وولف،‭ ‬وفراس‭ ‬السوّاح... يستعيد العمل رحلة جلجامش للبحث عن الخلود. رحلة تسقطها «زقاق» على مدننا المعاصرة من بغداد مروراً بالشام وصولاً إلى غابة الأرز في لبنان.
مدن تغرق اليوم في بركة الدم ويسيطر عليها الموت. في «هو الذي رأى»، تلجأ «زقاق» إلى أسلوبها الذي اعتمدته في أعمالها الأخيرة. يرتكز العرض إلى التقنية المستوحاة من مسرح الكورس الإغريقي الذي يتواصل مباشرة مع الجمهور ويسرد النصّ المسرحي كلاماً ولحناً، فيما يبقى التكرار العنصر الأساسي المسيطر، أكان في الكلام، والفعل المسرحي، أو الشكل، تاركاً مجالاً لمشاهد ثنائية من وقت إلى آخر. ذلك القالب والطرح المسرحي بدأ مع الفرقة منذ «هاملت ماكينه»، ثم تبلور في «أليسانه، التدريب على الطاعة». بعدها، جاء «جنّة، جنّة» ليبدو فيه هذا القالب مكتملاً بعناصره التي مزجت الكورس الإغريقي بالفلكلور الشعبي، والسرد الحكواتي، والمونولوجات الدرامية ضمن تركيبة ناجحة استطاعت أن تطال جمهوراً واسعاً وتأسره في لحظات تتأرجح بين الفرح والتعاسة.
لا شكّ في أن جميع تلك العناصر المسرحية من كورس وتكرار وغناء (فولكلور أو ندبيات) مؤاتية جداً لموضوع مثل الموت، لكنها هنا في «هو الذي رأى» لم تكن كافية لملء فراغ الخشبة الكبيرة، لا بل غرق العرض في تكرار لسرديات تحوّلت كلاماً تفرّع شيئاً فشيئاً عن معناه، فبدا ناقصاً في فعله المسرحي المتماسك. يبدأ العرض أمام الخشبة مع عبارة «مات رفيقي مبارح... بس ما حسيّت بشي». شعور ثقيل جداً يحمله لنا الممثلون في البداية.
لكن بدلاً من الغوص في ذلك الإحساس، اللاشيء، في فظاعته، وصداه الأليم، وهستيريته الصامتة، حملنا الممثلون معهم إلى خشبة فارغة إلا من لوحة عملاقة من القماش تتركب ببطء في عمق المسرح (سينوغرافيا نتالي حرب، رسومات جوزيف قاعي) فيما الممثلون يتناوبون على مشاهد الكورال ومشاهد ثنائيّة لرحلة جلجامش المعاصرة. رحلة بقيت عالقة في السرد والغناء، في رسم خطوط تربط بين عراق وسوريا ولبنان الأمس وتلك اليوم من دون أن تبني على تلك الخطوط فعلاً درامياً معاصراً. رحلة ربطت بين الموت في رواية جلجامش والموت الذي يحيط بنا من كل صوب اليوم من دون الغوص في تفاصيل تحاكي الحاضر وتلمس الفرد المعاصر، ومعنى الموت المتلفز (أو على قنوات التواصل الاجتماعي) وعلاقتنا به. ما يبقى مثيراً في عمل «زقاق» إصرارها على اختيار البحث عن مواضيع شائكة، والتجريب في قوالب مسرحيّة خاصة بها. 
«هو الذي رأى»: 20:30 مساء اليوم ـــ «مسرح مونو» (بيروت) ـ للاستعلام: 01/218078