صورة الجلاد وصورة الضحيّة في الحرب


منذ اندلاع الثورة السوريّة والنقاش دائر حول أهميّة الصورة، جدواها، وكيفيّة التعامل معها. في هذا المقال نحاول المشاركة في النقاش من زاوية مختلفة، متناولين معضلة قوّة الصورة، أهدافها، جمهورها وسهولة أو صعوبة منالها، لنصبّ فيما يعرف ضمن مصطلحات الصورة بال " Hors Champ " (خارج حقل الصورة) إذ تتوفر فيه المشكلة وفي الوقت ذاته إقتراح الحلّ للمعضلة المطروحة.

قوّة الصورة:

إن التاريخ، وللأسف، أثبت لنا أن الصورة في وقت الحرب تكون قويّة في يد الجلاد القويّ، وضعيفة في يد الضحية الضعيفة، سواء كانت تلك الصورة حقيقيّة أم زائفة. وإذا أخذنا مثال الصورة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، يبدو لنا ذلك جلياً. 

منذ النكبة حتى اليوم، تمّ إلتقاط جميع أنواع الصور للقضية الفلسطينيّة ، الدمويّة منها إلى تلك الخاليّة من الدماء ولكن المعبّرة. فعلى سبيل المثال، تعتبر صورة الطفل محمد الدرّة وأبيه في الإنتفاضة الثانية للأقصى من أقوى الصور التي شهدتها البشريّة خلال العقود الأخيرة. هزت هذه الصورة الرأي العام العالمي، ودفعته إلى التحرك. ولكن، ماذا حدث بعدها؟ هل توقّف الظلم؟ لا،  بل إزداد قتل الفلسطينيين، واحتلال الأراضي وبناء المستوطنات. حصل ذلك أيضاً خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على غزّة، حيث ساهمت الصور التي أظهرت للعالم هول الدمار الذي أحدثته إسرائيل، في خروج المظاهرات في عدد من عواصم العالم للتنديد بالعدوان. اليوم وبعد توقف العدوان، هل أسفرت تلك المظاهرات إلى محاكمة جرائم إسرائيل دولياً، أو حتى إلى حلحلة الوضع اللا إنساني في غزّة ؟ لا. هل حققت إسرائيل أهدافها خلال العدوان؟ بجزء كبير منها، نعم.
في المقابل أنتجت إسرائيل وعلى امتداد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي عدداً أقل بكثير من الصور والتي كانت كافية لإقناع الإسرائيلين والعالم أنها تدافع عن حقّها. هل لأن الصور التي أنتجتها الإسرائيليون كانت أقوى من تلك التي أنتجها الفلسطينيون؟ بالطبع لا، ولكن لأنّ إسرائيل أقوى من فلسطين.

من جهة أخرى، خلال العقود الأخيرة قدّمت الولايات المتحدة صوراً مفبركة عن العراق، وأقنعت العالم بأحقيّة هجومها عليه. هل نفع إعتراض أحد على هذه الصور المزيّفة؟ لا!

حتى إن صور المذبحة اليهوديّة في أوروبا، لم تنفع يهود أوروبا خلال الحرب العالميّة الثانية لإيقاف المذبحة، بل احتاج اللوبي الصهيوني أن يصبح قوياً لكي يتمكن فيما بعد من إستعمال صور المذبحة إلى يومنا هذا لأهداف أخرى. كذلك هو الحال مع معظم صور الحرب الشهيرة خلال التاريخ. تلك الصور نالت شهرتها، وأصبحت رمزاً لتلك الحروب بعد انتهاء تلك الأخيرة. أمّا قرار ابتداء الحروب وانهائها، فلم تستطع يوماً صورة الضحيّة أن تتحكم فيه، بقي ذلك القرار منوطاً بأسباب ومصالح إقتصادية وسياسيّة بعيدة كلّ البعد عن نصرة المظلوم وإحقاق العدالة، وأغلبنا يعلم تلك الحقيقة السوداء.

الهدف - الجمهور - المنال:

مهمّة الجلاد سهلة. صورته واضحة الهدف، محددة الجمهور وسهلة المنال. يهدف الجلاد عبر صورته  إلى البرهنة عن جبروته، وإثارة الذعر عند خصومه. أمّا الجمهور فليس سوى الخصم : سواء كان هنا الشعب السوري الثائر، أو الجيش الحرّ  أو حتى الكتائب الإسلاميّة الأصوليّة المتقاتلة فيما بينها. في جميع الأحول، وعند رغبة الجلاد  بتوظيف أي صورة من إنتاجه يبقى جمهوره واضح، ويعلم جيداً أين يجده. من جهة أخرى من السهل جداً على الجلاد إلتقاط صورته : إلتقاط صورة لعملية نحر رقبة، لحرق إنسان، لإصابة هدف، لنصب كمين، لهدم مبنى. صورة محددة الإطار، تهدف إلى إظهار فعل أوحد. تلك هي  صورة الجلاد. لذلك كان من السهل أيضاً ومع توفّر معدات متطورة في أيدي الجلادين أن يتفننوا في إلتقاط صورهم. إذ إن ذلك التفنن، وبطبيعة الحال، يصب في هدف تضخيم الفعل ومن ثم تضخيم أثره عند المتلقي. هذا ما شهدناه، وما زلنا، في الصور التي ينتجها نظام الأسد وداعش والنصرة. الجلاد هنا ليس بحاجة لبرهنة أيّ شيئ. فهولا يلتقط صورته إلاّ لكي يبلغ العالم بأنه قويّ. يعلن إنتصاره عبر الصورة، ويثير الرعب.

أمّا مهمة الضحية فمهمة صعبة للغاية. فصورتها وبالرغم من أن هدفها واضح إلّا أن جمهورها غير محدد ، وهي صعبة المنال، فالضحية تصوّر خلال الحروب لكي تبرهن للعالم أنها تتعرض للقتل، للقصف، للتعذيب... ، تصوّر لتبرهن أنها الضحيّة، وأنها بحاجة للمساعدة لرفع الظلم عنها. أمّا جمهورها فهو ما يطلق عليه إسم ”الرأي العام العالميّ“، الذي عليه بدوره أن يمارس الضغط على أصحاب القرار للمشاركة في رفع الظلم عن الضحية. وجميعنا يعلم أن ذلك الدور معقّد جداً ويحتاج إلى تفاقم جهود جبّارة لتتلاقى مصلحة الضحيّة مع مصلحة أصحاب القرار من القوى العظمى لكيّ تتدخل تلك الأخيرة لإنقاذ الضحيّة. أمّا من ناحية التقاط تلك الصورة، فكيف تستطيع الضحيّة أن تحصر التعذيب والدمار والموت في صورة وإثنتان ... وألف.  كم قتيل ومذبحة تحتاج الضحيّة لكي تبرهن للرأي العام العالميّ أنّها الضحيّة؟ وما هو اتساع إطار الصورة القادر على استيعاب هول الكارثة؟

إذاً في الوقت الذي تصيب فيه صورة الجلاد أهدافها بتفنن وتضخيم، تبقى دائماً صورة الضحية ضعيفة ومكلفة وغير قادرة على تحقيق هدفها كاملاً. بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما تقوم الضحيّة باستهلاك الصورة التي ينتجها الجلاد، وتقوم بمشاركتها عبر وسائل إعلامها، فتتوسع رقعة متلقي صورة الجلاد، فيما لا يستهلك الجلاد صورة الضحية فتبقى محصورة التلقي.

إن كانت صورة الجلاد خلال الحرب أقوى، حتى ولو كانت زائفة، وصورة الضحيّة أضعف مهما كانت محقّة. وإن كانت القراءة السالفة للهدف، والجمهور والمنال ما بين صورة الجلاد والضحيّة تصبّ لصالح الجلاد، فهل يعني ذلك أنّ على الضحيّة أن تتوقف عن إلتقاط الصور؟ بالتأكيد لا...
ولكن الحاجة ملحّة لمقاربة الصورة من قبل الضحيّة بطريقة مغايرة.

الصورة كتوثيق:

هنا يجب التمييز، في سياق هذا النقاش، ما بين الصورة خلال الحرب والصورة ما بعد الحرب. إذ مما لا جدال فيه أن صورة الضحيّة وحتى لو لم تستطع أن تحقق أيّاً من أهدافها خلال الحرب إلّا أنها مهمّة جداً في توثيقها لإجرام الجلاد، ولكتابة التاريخ الذي لعلّه يوماً ما سينصر الضحيّة ويجرّم الجلاد. ول ”حسن الحظّ“ أن العدّو المباشر للشعب السوري الثائر والضحيّة، ليس إسرائيل أو الولايات المتحدة الأميركيّة، وإنما نظام الأسد والكتائب الإسلاميّة الأصوليّة، مما يزيل عقبة أمام محاكمتهم يوماً ما في المحاكم الدوليّة، حيث أن الصورة تبقى دليلاً أساسيّاً تستعين به تلك المحاكم، دون أن يتمّ اللجوء سلفاً إلى استعمال حقّ الفيتو كما اعتدنا في الحالة الأمريكيّة والإسرائيليّة. ولتلك المحاكم وفعاليتها أمثلة تاريخيّة كما هو الحال في: يوغوسلافيا ورواندا وأوغندة الشماليّة وجمهوريّة الكونغو الديمقراطيّة والجمهوريّة الأفريقيّة الوسطى ودارفور. لكن إلى أن تنتهي الحرب، وتصبح للصورة تلك القوّة الوثائقيّة أمام المحاكم، لا بدّ من محاولة مقاربتها بشكل مختلف لعلها تفيد الضحيّة اليوم.


Hors Champ - مابين المشكلة والحلّ:

المشكلة

إنّ أيّ مصّور، محترف كان أم هاوٍ، ولحظة التقاطه لصورته، يختار ما لا يريد ضمن صورته ”خارج حقل الصورة“ (Hors Champ) بمقدار ما يختار ما في صورته ”حقل الصورة“ (Champ). تقتضي عمليّة التصوير أن تحدّ المادة المصورة داخل إطار الصورة وعزلها عن كلّ ما هو خارج الإطار. وما لا جدال فيه أن ما هو خارج الإطار، أكبر وأوسع بكثير مما هو في داخله. وبالتالي إنّ الحقيقة خارج الصورة، أكبر وأوسع بكثير مما في داخلها. أيّ إننا في كلّ لحظة نلتقط فيها صورة، نعمد وعن قصد إلى اجتزاء الحقيقة وإلى التقاط جزء صغير منها. تلك هي مشكلة  ال”Hors Champ“. مشكلة لا تعني الجلاد، إذ إن هدفه إظهار فعل أوحد، محدود داخل إطار صورته. لا بل إنه لا يريدنا أن نرى ال”Hors Champ“. أمّا الضحية وعلى العكس، تختار مادتها داخل الصورة لأنها مجبرة على الإختيار، وهي في الوقت ذاته تعلم أن هناك خارج إطار صورتها، أيّ ضمن ال”Hors Champ“، مادة ومعلومات لو استطاعت شملها داخل الصورة لما ترددت، لكنها ورغماً عنها تختار أن تجتزء الحقيقة وتحصرها في تفصيل أوحد داخل الصورة. وتلك هي المعضلة الأساسيّة التي تواجهها الضحيّة، إذ لا إطار باستطاعته توثيق هول الكارثة. هل تلتقط صورة لذلك المنزل المدّمر، وتتجاهل جميع المنازل الأخرى؟ هل تلتقط صورة لتلك الجثة هناك وتتجاهل جميع الجثث الأخرى؟ هكذا يشكل مفهموم ال” Hors Champ“ أزمة للضحية، فيما لا يعني الجلاد كثيراً.

الحلّ

إن الحل عملياً يكمن في تعويض ذلك النقص الموجود في  ال” Hors Champ“. يعمد الجلاد إلى تسليط الضوء على ما هو داخل صورته، لأنّ الموجود في ال” Hors Champ“ يفضح زيفه. التقاط جزء من الحقيقة وحصرها داخل إطار الصورة، وعزلها عن سياقها، سياسة تناسب الجلاد، وتضر بالضحيّة، والعكس صحيح. من هنا يقتضي على الضحية أن تقوم بأمرين:

أولاً، تعويض النقص في الصورة وإستبدال ال” Hors Champ“ بمادة أخرى. قد تكون تلك المادة ليست سوى تقديم سرد يكمل الرواية. في قراءة إدوارد سعيد لفشل الفلسطينيين والعرب في الصراع مع إسرائيل يحيل إلى أن أحد الأسباب الأساسيّة يكمن في فشل الفريق الأول في توحيد روايته في وجه الفريق الثاني، فيما استطاع اللوبي الصهيوني أن يقنع العالم بأن فلسطين هي الأرض الموعودة لليهود. لذلك يجب أن لا تكتفي الضحيّة في تقديم الصور المجتزئة للعالم، بل على كلّ صورة أن تحمل إلى جانبها رواية تعيد موقعة الصورة في سياق واضح ومكمّل للحقيقة. إذ على الضحية أن لا تنسى أنها تملك الرواية الحقيقية، وهدف الجلاد أن يشوّه تلك الحقيقة لكي يبرر ظلمه. من هنا، على الضحيّة أن توحّد الرواية، وأن تدعّم صورتها ب”Hors Champ“ مختلف في مادته. قد يكون عبر الرواية كما اقترحنا هنا، أو عبر أيّ مادة أخرى توصل الحقيقة كاملة.

ثانياً، إن كان هدف الجلاد عزل الصورة عن ال”Hors Champ“، فهدف الضحية يجب أن يكون فضح ال”Hors Champ“. الجلاد لا يريدنا أن نرى ما هو خارج إطار الصورة الذي رسمه لنا، إذ أن في خارج ذلك الإطار تكمن إدانته. لذلك على الضحيّة، وبدلاً من مشاركة صور الجلاد اعتقاداً منها أنهّا تفضحه -وهي بفعلها هذا توسيع رقعة جمهوره-، أن تعمل على فضح ال”Hors Champ“ الذي يريد الجلاد أن يستره. ذلك ال”Hors Champ“ الذي يفضح زيفه، وروايته.

هل تلك العلاقة مع ال”Hors Champ“ بإمكانها أن تقدم فعلاً حلاً، وترفع الظلم عن الضحية خلال الحرب؟ للأسف وكما ذكرنا في البداية، لم تستطع يوماً الصورة أن توقف حرباً. وتبقى الصورة قويّة في يد الجلاد القويّ، وضعيفة في يد الضحية الضعيفة. لكن إن إستطاعت صورة الضحيّة أن تدفع باتجاه اكتمال الرواية واكتمال الحقيقة، وإن نجحت الضحية في فضح زيف صورة الجلاد، فإن ذلك قد يساهم في توسيع رقعة التأثير على الرأي العام العالميّ، وربما قد يزيد الضغط على أصحاب القرار، مما قد يعجّل في تأمين الحلّ.



لور غريب ومازن كرباج: حوار الفن والبنوة والحياة

تحت عنوان «أبجديّة لور غريب ومازن كرباج»، التقى الفنانان في «غاليري جانين ربيز» لتنفيذ ٢٦ رسماً بالحبر الصيني. بعد سلسلة تجارب مشتركة، ها هما يواصلان استكشاف إمكانيات لسيرة ذاتيّة ثنائية.
ليست التجربة الأولى التي تجمع الفنانة لور غريب بابنها مازن كرباج (1975). لكن هذه المرّة، قررا الالتقاء وكلّ بريشته لتنفيذ ٢٦ رسماً بالحبر الصيني حيث يواصلان استكشاف إمكانيات لسيرة ذاتيّة ثنائية. ما يميّز تلك الأعمال تقنياً هذه المرة أنها نفّذت بأربع أيادٍ. انطلق التعاون بين الفنانين عبر رسوم الحرب في صيف ٢٠٠٦، ثم نفذا بورتريهاً ذاتياً مزدوجاً بعنوان «‬أنت وأنا والبابيي بان» عام ٢٠٠٨، ثم المعرض الذي حمل العنوان نفسه في ٢٠١٠ والقصة المصوّرة «غداً لن يأتي» عام ٢٠١٤. أمّا اليوم، فيخوضان تجربة جديدة تحمل عنوان «أبجديّة لور غريب ومازن كرباج» تحتضنها «غاليري جانين ربيز». يحمل المعرض ذلك العنوان، حيث تتوزع اللوحات الـ٢٦ على تسلسل أحرف الأبجدية اللاتينية، وتبدأ بحرف الألف بلوحة تحمل اسم الزوج والأب «أنطوان» نسبة إلى الممثل أنطوان كرباج.
في تلك اللوحة الأولى، تشترك الزوجة والابن في رسم أنطوان كرباج وشخصياته المسرحيّة وبالأخص تلك التي اشتهر بها مع الرحابنة إلى جانب فيروز، فيما تتوسط رأس اللوحة عبارة «ملك ملوك المسرح». بعدها، تتوزع اللوحات على عناوين مختلفة تستمد تسلسلها من أحرف الأبجديّة اللاتينيّة: قناع، شبح، الله، الزمن، الشيطان، لبنان...
في كل لوحة، تمتزج خطوط لور بمازن. تتداخل الرسومات والأشكال والأحرف والكلمات، بحثاً عن تمثيلين يجتمعان سويّة لتأليف لوحات مفتوحة على طرح الأسئلة لا تقديم الإجابات. يقتحم الرسامان ــ كلٌّ بأسلوبه ـــ خطوط الآخر، فتنجلي الحدود بينهما ضمن إطار الرسمة الواحدة كي تعيد تشكيل قراءة ثنائية لكلمة واحدة. ضمن تلك القراءة الثنائيّة ورغم قدرة المشاهد على تمييز أسلوب لور غريب عن أسلوب مازن كرباج في معظم الأحيان، إلا أنّ ذلك التمييز يصبح باطلاً أمام تشابك الأفكار ضمن اللوحة ذاتها وتناقضها لتصبّ بكليّتها في عمل لا حدود له. هكذا، تصبح غير مجديةٍ معرفة هويّة كلّ خطّ، بل إن الفنانين يدعوان المشاهد إلى الولوج في تلك الرحلة الاستكشافيّة ضمن طبقات المعاني المتوافرة في رحلتهما الذاتيّة.

لقاء جميل يجمع خطّ لور غريب (١٩٣١) بخطّ مازن كرباج (١٩٧٥)، خصوصاً أنه قبل اجتماعهما سويّة في الرسم، كوّن كلٌّ منهما شخصيّة فنيّة ذات هويّة واضحة، لا بل صارخة الملامح. ذلك اللقاء بين الأسلوبين يؤمن لتلك التجربة مساحة خلق واسعة لا تخلو من التوتر الذي يولّد مساحات اكتشاف أعمق في كلّ لوحة. فكيف لو كان ذلك اللقاء يجمع أمّاً وابنها على مساحة ورقة واحدة؟ ومن يعرف لور ومازن عن كثب، يعلم أن علاقتهما ليست كلاسيكيّة بل متجددة، تظهر ملامحها في التعاون المستمر والمتطور بينهما.
في إحدى اللوحات التي تحمل عنوان «حشيش» تنتشي الشخصيات رسماً، حيث يقدّم الفنانان في أسفل اللوحة تقنيّة لفّ سيجارة حشيش ضخمة مع أربعة فيلترات. أمّا «الله»، فيظهر كائناً أسطورياً بعين واحدة كبيرة مليئة بالوجوه، وتستقر فوق جسد طفولي ذي فم كبير مبتسم. وفي «ويسكي»، تمتزج العيون بزجاجة كأس مليئة بوجوه أناس، ورواية عن أول كلمة وأول قطرة ويسكي، وحانة تقدّم آخر كأس. أما «الزمن»، فحلزونة تدور في فلكها وجوه ونصوص كأنها تخنق كلّ من فيها أو تعيد بعثها. هكذا ضمن رحلة أحرف الأبجديّة تلك، يأخذنا الفنانان في كلّ لوحة في رحلة تيه بين التفاصيل والروايات التي جمعت لور بمازن، وأصبحت اليوم حبراً على ورق يكتبان بها أبجديّة علاقتهما وأبجديّة الحياة. 
* معرض «أبجديّة لور غريب ومازن كرباج»: حتى ٣ نيسان (أبريل) ــ
«غاليري جانين ربيز» (الروشة – بيروت) ـ للاستعلام: 01/868290

رائدة طه: اكتشاف الموسم


من أجمل العروض التي قدّمت هذا العام على خشبات مسرح بيروت «ألاقي زيك فين يا علي». يمكننا القول إن بيروت تعرّفت إلى ممثلة جميلة جداً تدعى رائدة طه من مواليد القدس التي غادرتها بعد حرب الـ ٦٧ إلى عمان ثم بيروت حيث تربت ودرست، فإلى تونس حيث عملت سكرتيرة لأبو عمار. تزوجت فعادت إلى رام الله ومنها إلى بيروت مجدداً. إنّها ابنة الشهيد علي طه، الناشطة الفلسطينية التي وصلت إلى خشبة المسرح متأخرّة.
في «مسرح بابل»، صعدت للمرة الأولى عام ٢٠١٣ لتمثل دور «صفيّة» في عرض «عائد إلى حيفا» لغسان كنفاني الذي أخرجته لينا أبيض. يومها، شكّلت ليلى كنفاني، ابنة كنفاني وصديقة رائدة منذ الطفولة، صلة الوصل بينها وبين لينا أبيض. في العام ذاته، قدّمت دور «لميا» في مسرحيّة «٨٠ درجة» من إخراج عليّة خالدي. وأخيراً، شاهدناها في مونودراما «ألاقي زيك فين يا علي» من كتابتها وإخراج لينا أبيض. في هذا العرض، تجلس رائدة بمفردها على كنبة في زاوية المسرح، وتقدّم لمدّة ساعة ونصف قصص طفولتها وعائلتها. قصّة ابنة علي طه الذي استشهد في العملية الفدائية لخطف طائرة «سابينا» في مطار اللدّ عام ١٩٧٢. قصّة أمها وأخواتها اللواتي تعايشن مع واقعهن الجديد. قصّة علاقتها مع ياسر عرفات، وبالأخص قصّة عمتها التي أبت إلا استعادة جثمان علي طه لدفنه، ما اضطرها لطلب جثمانه من كيسينجر نفسه. كتبت الكثير من المقالات عن المسرحية التي مُدِّدت عروضها مراراً على خشبة «بابل»، قبل أن تقدم قبل يومين في «الجامعة اللبنانية الأميركية». لسنا هنا بصدد تقديم مادة نقدية للعرض، لا بل للاحتفاء باكتشاف الممثلة رائدة طه. سيدّة جميلة ذات صوت مسرحي جميل يؤمن لها حضوراً كاريزماتياً منذ أن تطأ قدماها الخشبة. لكن فوق كلّ ذلك، فإن تلك المرأة التي لم تدرس المسرح في الصغر، و«تأخرت» للصعود إلى الخشبة، تملك بالفطرة أسرار تلك الخشبة. تأسرك رائدة في عالمها منذ اللحظة الأولى. بنضج، تسيطر على جسدها وحركتها على المسرح، فلا تقع في «جعدنة» حركيّة بل تقدم للجمهور الحركة البسيطة والكافية بلا مبالغة. تملك كلماتها وتطلقها بعفوية المستمع إلى الجمهور قبل النطق بالنص، فيأتي نصّها متماسكاً ذا إيقاع ضمني عضوي. لا تكلّف ولا تصنّع، والأهم لا كبرياء، بل دراية بالمساحة التي تحتلها على المسرح وكيفية توظيفها في طاقة تتوزع على طول مدة العرض كي لا تقدم مشاهد متفاوتة في الأداء. وفوق كل ذلك، تستعين بسلاح ابتسامتها الخفيفة متى احتاجت إلى تلطيف الأجواء. لكن فعلاً ما يميّز رائدة طه، هو قدرتها على تطويع النص مهما كان درامياً أو ميلودراميّاً واللعب به على مستويات عدّة من المعنى، فلا تسلمّه إلى الجمهور بلون واحد بل بتعقيداته وخفايا معانيه. هكذا أعادت رواية قصتها كابنة شهيد بحب لا يخلو من النقد. استطاعت أن تبكينا وتضحكنا في آن. أعادتنا إلى خامات ممثلات تونس مثل جليلة بكار، وفاطمة بن سعيدان، ورجاء بن عمّار... وعبر تأديتها لأدوار مماثلة في مسرحها، مارست فعلاً سياسياً بامتياز دفعنا إلى إعادة التفكير بعمق في القضية الفلسطينية، وطرحها على المسرح من منظار ذكي ونقدي كما فعل كنفاني وونّوس كي لا يتحول النقاش حول القضية إلى إيديولوجيا مفرّغة، بل لكي تبقى حيّة عبر النقاش والنقد.

سعد الله ونوس... معاصرنا


لا تكتمل الاحتفالات بيوم المسرح من دون الاحتفاء بسعد الله ونوس (1941 ــ 1997)، خصوصاً إذا كانت إحدى أجمل وأبلغ مسرحياته تعرض اليوم في بيروت. عرض «الاغتصاب» (ترجمة روبرت مايرز وندى صعب) يعرض للمرة الأولى بالإنكليزية على خشبة «مسرح إروين» في «الجامعة اللبنانية الأميركية» من إخراج سحر عساف، بعدما قدّمه جواد الأسدي للمرة الأولى في «مسرح بيروت» عام ١٩٩٢.
كتب ونوس «الاغتصاب» عام ١٩٨٩ مستوحياً موضوعها من مسرحية للإسباني أنطونيو بويرو باييخو بعنوان «الحياة المزدوجة للطبيب فالمي» (1964). نقل المسرحي السوري الحكاية إلى الضفة الغربية في زمن الانتفاضة الأولى، لتجري الأحداث بين أسرتين: واحدة فلسطينية وأخرى إسرائيلية، بالإضافة إلى الطبيب النفسي منوحين والفرقة العسكرية الإسرائيلية التي ينتمي إليها اسحق. اللافت أن ونوس حذّر بشدة في مقدمته للمسرحية من تقديم شخصياتها، بخاصة الإسرائيلية بشكل هزلي، وهذا ما نجح فيه القائمون على العمل. بعدما شارك اسحق (سني عبد الباقي) مع زملائه في اغتصاب أسير فلسطيني، يصاب بالعجز الجنسي، ما سيقوده إلى استشارة الطبيب النفسي منوحين (بشارة عطا الله). الطبيب المناهض للصهيونية، سيشخص الحالة بأنها قصاص ذاتي يمارسه اسحق على جسده في لا وعيه. في مكان ما، هو يعلم أن فعله كان إجرامياً رغم رفضه الاعتراف بذلك علناً. حالة الاغتصاب تلك ستجرّ حالات اغتصاب أخرى يمارسها الإسرائيليون على الفلسطينيين، كما ضمن بعضهم، كي تتطور الأمور حتى انفجار اسحق في وجه أمّه سارة (مي أوجدن سميث) ورئيسه العسكري مائير (مارسيل بوشقرا). لا جدوى من طرح تفاصيل الحدوتة هنا، ففي ذلك ظلم لنص ذكي جداً حبكه ونّوس كمن يحيك مسرحية على النول. عقدة في قلب المجتمع الإسرائيلي وعقدة أخرى في قلب المجتمع الفلسطيني، وكما في الحياكة لا تكتمل الرواية إلا ذهاباً وإياباً. لذلك، اختارت سحر عساف تقديم العرض ضمن مساحة واحدة يتبدّل فيها المنزل الفلسطيني بالإسرائيلي.
ووسط المجتمعين، عربة طفل وحيدة تارة تحتضن «وعد» الفلسطيني، وطوراً «دافيد» الإسرائيلي، فيما يبقى الدكتور منوحين من مكتبه المشرف في طبقة ثانية من السينوغرافيا، الوحيد القادر على رؤية صورة أوضح لما يجري في الأسفل، في الحضيض. سينوغرافيا (غيدا حشيشو) ناجحة جداً في ترجمة مساحات النص وإضفاء جوّ قاتم وبارد موظفاً في الرؤية الإخراجية، أكان عبر الإضاءة بالنيون أم عبر اختيار المواد المعدنية والألوان. كذلك، أتت الأزياء (بشار عساف) مكمّلة للخيارات السينوغرافية. أما اعتماد الإخراج الكلاسيكي الذي يولي النص والممثل (الستانيسلافسكي) المساحة الأكبر على الخشبة، فكان أيضاً خياراً موفقاً. النصّ بتعقيداته ما كان ليحمل مساحة لأسلبة التمثيل أو لإضفاء عناصر درامية من خارجه. بل إن واقعيّة التمثيل ــ ضمن محاولة ونوّس مقاربة الصراع العربي ـ الإسرائيلي من زاوية مختلفة ــ كانت ضرورية لمنح تلك المقاربة واقعية طرحها ومساحتها. استطاع الممثلون تقديم عرض متماسك وجذاب لمدة ساعة و45 دقيقة رغم تفاوت الأداء بين المحترفين والهواة. وإن تميّز بشارة عطا الله ومارسيل بوشقرا في تمكنهما من شخصيتيهما، إلا أن ميّ أوجدن سميث قدمت أداءً لافتاً لشخصية معقدّة مثل دور الأم الإسرائيلية «سارة». استطاعت أن تترجم حقد تلك المرأة وتشبثها بالإيديولوجيا الصهيونيّة الذي يتخطى حبها لأفراد عائلتها، من دون أن تقدّم شخصية كاريكاتورية مؤبلسة.أما أهمية «الاغتصاب»، فتتجلى في مشهد يقحمه ونوس في أواخر العرض عن حوار يجري بينه (المثقف العربي) وبين الدكتور منوحين (المناهض للصهيونية). تغريبة بريختية في أواخر العرض، يسائل فيها ونوس هدف المسرحية، وذلك البحث عن الأمل في الأفراد، ولو في قلب معسكر العدو. ثم ينهي الحوار في نقد للأنظمة العربية التي اعتمدت المنهج الصهيوني في حكم شعوبها. عبر ذلك المشهد/ الحوار يضيف ونوّس إلى «الاغتصاب» أهميّة فوق تلك التي تكتنفها أحداث المسرحيّة الأساسيّة. إن كانت ”الإغتصاب“ محاولة لرسم علاقات الجلاد بالضحيّة، فقد يتراءى لبعضهم أنّها تراهن على صحوة ضمير لدى العدو. إلا أن ذلك الحوار بين ونّوس ومنوحين يثبّت ذلك الأمل بالفرد الذي لا يتوانى عن نقد ذاته، ومجتمعه، ودولته قبل أن ينقد عدوه. فرد عربيّ يبحث لدى قاتله عن أفراد آخرين يتشاركون معه في البحث عن الحلّ، عن الإنسان. ذلك هو الأمل الذي تركه لنا سعد ونّوس، وحكمنا به. 
* «الاغتصاب»: حتى يوم غد ــ «مسرح إروين» (الجامعة اللبنانية الأميركية – بيروت) ــ للاستعلام: 71/260218 ـ البطاقات في مكتبة «أنطوان»

عمر خوري في «أجيال»: 61 صورة من وجهي الشتائي


أعماله المعروضة في «غاليري أجيال»، تحملنا في رحلة تخبط المشاعر داخل وجه واحد خلال شهرين من الزمن. تدخلنا عوالم ذاتية قرر الفنان أن يشاركنا بها حميميته. 
سلسلة من اللوحات الشخصية بين الأكريليك والغواش يقدّمها عمر خوري في معرضه الفردي «٦١ وجهاً من وجوه الشتاء» الذي تحتضنه «غاليري أجيال». صاحب «صالون طارق الخرافي» عرفناه كعضو مؤسس لمجلة «السمندل» ومشارك رئيس فيها. خلال الفترة الأخيرة، بدأنا نتعرف إلى لوحات البورتريه التي رسمها لعدد من السياسيين والفنانين والأصدقاء حوله. كان من بينها ديبتيك «رفيق وحافظ» و«سعد وبشار»، وأخرى للسيد حسن نصرالله، ولوليد جنبلاط وغيرهم. أمّا اليوم في «أجيال»، فتنحصر الرسومات ببورتريهات ذاتية يتخللها من وقت إلى آخر ظهور لزوجته فيها. في مشروع سابق، رسم خوري عدداً من البورتريهات الذاتيّة، لكن بالاستناد إلى انعكاس صورته في المرآة. لحظة الانتهاء من هذه الرسوم، أيقن عمر أن عينيه ثابتتا الموقع في جميع اللوحات، فيما يتغير باقي ملامح وجهه.

حينها، قرر أن ينتج فيديو متحركاً يثبّت فيه العينين داخل الصورة، فيما تتبدل تفاصيل وجهه مع تبدل اللوحات في الفيديو، منتجة بذلك ومجتمعة وجوهاً عدة لوجه واحد. انطلاقاً من تلك التجربة، وكلما سنحت له الفرصة، كان عمر يعمد إلى الاختبار في رسم البورتريهات الذاتية إلى أن تمّت دعوته في شتاء ٢٠١٣ إلى إقامة فنية في فرنسا لمدة شهرين. هناك، واظب خوري على رسم بورتريه ذاتي كل يوم، لكن هذه المرّة انطلاقاً من صورة رقمية، بدلاً من الاستناد إلى الانعكاس في المرآة، لا بل انطلاقاً من صورة «سيلفي». خلال إقامة الشهرين هذه، كان عمر يلتقط كل يوم صورة له عبر هاتفه المحمول، تختلف في سياقها وخلفيتها، وطبعاً في تعابير وجهه خلال تلك اللحظة، ومشاعره أيضاً. هكذا تظهر اللوحات المعروضة في «غاليري أجيال» من اليمين إلى اليسار تبدلات وجه الفنان خلال شهري الشتاء ذاك، متضمنةً مشاهد من داخل غرفته، وأخرى في السوبرماركت، أو خلال حلق ذقنه. وفي أول ظهور لبورتريه لا يعود إلى الفنان، نشاهد بورتريهاً لامرأة ليست سوى زوجة الفنان التي افتقدها في عيد العشاق، فقرر رسم لوحة لها عن صورة كانت بحوزته. ثمّ تظهر الزوجة مجدداً في لوحات أخرى إلى جانبه خلال زيارات تبادلاها بين باريس ولندن حيث كانت تقيم هي. في بادئ الأمر، انطلق عمر بالرسم عبر الأكريليك. وكان كلمّا انتهى من لوحة، وضع ألوانه جانباً ليعود إليها في اليوم الثاني، فيعيد استعمالها بعد إضافة ألوان أخرى كلما نفدت إحداها. من هنا، نجد تسلسل الألوان المتقاربة في اللوحات المتقاربة في الزمن. وفي إحدى المراحل، كان يشعر بالشوق والحزن، فقرر الانتقال إلى «الغواش» ليبتعد قليلاً عن الألوان القاتمة، ونغوص معه في وجوه تعجّ بالحياة. جميلة جداً هي لوحات عمر خوري، تحملنا معها في رحلة تخبط المشاعر داخل وجه واحد خلال شهرين من الزمن، وتدخلنا عبر تفاصيلها إلى عوالم ذاتية قرر الفنان أن يشاركنا بها حميميته.

استبدال خوري لمرآته بصور «السيلفي» تحديداً، ليس خياراً عفوياً، لا بل هو مهمّ جداً ضمن سياق معرضه. تتميز «السيلفي» عن سائر الصور الفوتوغرافية بتركيزها على تفاصيل الوجه وعدم إيلائها اهتماماً كبيراً بما يدور حولها. هي توثّق تفاعل وجه ملتقطها مع ما يدور حوله من دون أن يكون المشاهد على دراية تامة بالسياق. كذلك بسبب سهولة التقاطها، وتحوّلها إلى موضة، أغرقت صور «السيلفي» مواقع التواصل الاجتماعي لتتحول توثيقاً شبه يومي لحالة ملتقطها، تأسر بداخلها حالات نفسية متعددة، وتمتد على خط زمني واضح. بذلك، تشكّل صورة «السيلفي» عبر تدفقها وارتباطها بالزمن، أحد أبرز أوجه إعادة التمثيل التي نعرفها اليوم. أما فعل عمر خوري، فيكمن في فترة رسم لوحته. بين الثانية الواحدة التي تحتاجها «السيلفي» لتتشكل، ومدة العشرين دقيقة حتى الساعتين التي كان عمر يستغرقها في رسم لوحته، تتشكل مساءلة فعل إعادة التمثيل. عمر لا يهدف إلى تأمين بديل عن الصورة في اللوحة كما فعل غيرهارد ريختر، لكنه في كل لوحة يعيد ترجمة حالة الوجه ومشاعره وأحاسيسه في حرية اختبار تمازج ألوانه ضمن لوحته. وبذلك تستعيد تلك اللحظة التائهة بين ملايين «السيلفي» الملتقطة يومياً حضورها الخاص، وبالتالي تمثيلها الخاص. لا يقدّم خوري مجرد رسم لبورتريهات ذاتية أسوة بتلك التي عرفها تاريخ الفنّ لكل رسّام، بل يغرقنا في 61 بورتريهاً متلاصقة في الزمن. إغراق معاصر يبحث ضمنه عمر خوري عن ذاتيّة وفرادة كلّ صورة/ لوحة. 
* «٦١ وجهاً من وجوه الشتاء» لعمر خوري: حتى 28 آذار (مارس) ـ «غاليري أجيال» (الحمرا) ـ 01/345213

كريستين طعمة تواصل أشغالها الداخلية


نالت كريستين طعمة أخيراً جائزة Audrey Irmas للتميّز في التنسيق الفني لعام 2015 التي يقدّمها «مركز دراسات التنسيق الفني» في «كلية بارد» الأميركية في نيويورك. إنها المرّة الأولى التي تقدم فيها تلك الجائزة لمنسق فني عربي، بعدما نالها كثر أمثال كاترين دافيد، وأكوي أنويزر. بطبيعة الحال، سعدت طعمة بتلك الجائزة العالمية.
لكن بعيداً عن ذلك، تقرأ في تلك الخطوة اليوم بداية تحوّل في نظرة الغرب واهتمامه بفهم أحداث منطقتنا عبر الأشخاص الفاعلين فيها، بعدما كان، وعبر منطق ما بعد كولونيالي، يموضع ذاته كعراب للفن المعاصر العربي. ذلك التحول في نظرة الغرب إلى المنطقة يبقى ــ بالنسبة إلى طعمة ــ نقطة يجب التوقف عندها، ومحاولة فهم تداعياتها، والبقاء حريصين أيضاً على نقدها. أسست طعمة «أشكال ألوان» في التسعينيات. حينها، كان للجمعيّة مكتب متنقل، ومشاريع كبيرة في صندوق سيارتها الخاصة. اليوم أصبحت «أشكال ألوان» أهم جمعية ثقافية في بيروت، ومن الأهم في العالم العربي، وتتخذ من مركزها في جسر الواطي فضاءً تنطلق منه إلى المدينة والعالم. مع تطور مشاريع «منتدى أشغال داخلية»، و«أشغال فيديو»، والإقامات الفنية وغيرها، أطلقت الجمعية قبل خمس سنوات «برنامج فضاء أشغال داخليّة» الذي جذب بفرادته فنانين لبنانيين وعرباً وأجانب.
بعد ٢٢ سنة، كبرت «أشكال ألوان». لذا، تجد طعمة أن هذا هو الوقت المناسب لرسم علاقة مختلفة لها مع الجمعية. «لن أتركها، لكننا في «أشكال ألوان» نبحث عن مدير يضخ نفساً جديداً فيها، بينما أبحث شخصياً عن رسم علاقة جديدة مع الجمعية، تغنيها عبر مشاريع جديدة أجريها خارج إطارها». قبل ثماني سنوات، بدأت طعمة العمل على تأسيس مجلس أمناء للجمعية، أصبح فاعلاً في تحديد سير عمل الجمعيّة اليوم. 
لاحقاً، سلّمت إدارة «برنامج فضاء أشغال داخلية» إلى أمل عيسى، بعدما كانت قد دعت عدداً من المنسقين الفنيين إلى مشاركتها في «إعداد منتدى أشغال داخلية» الأخير. وقد أطلقت الجمعية أخيراً، نداءً تبحث فيه عن رئيس إداري لـ«أشكال ألوان» ليبدأ العمل في نيسان (أبريل) المقبل، ويتسلم المهمة الإدارية عن كريستين طعمة.
من جهة أخرى، تجد طعمة حاجة ملحة لإعادة مساءلة دور الفن في المجتمع، وعلاقته بالمجتمع المدني. تقول «في التسعينيات، كان لدينا مشروع سياسي لمدينة وبلد خارجين من حرب أهلية. وضمن ذلك المشروع، تأسست «أشكال ألوان». أما مع ما يحدث حولنا حالياً، فعلينا أن نجد أنفسنا جميعاً مسؤولين عن نمو التطرف والرجعيّة في لبنان وسائر البلدان المجاورة. من هنا، جاءت الحاجة الملحّة للخروج من الفقاعة الانعزالية للفن، والعمل مع جمعيات المجتمع المدني للبحث معاً عن حلول ضمن ذلك المخاض». هكذا بدأت طعمة العمل مع جمعية «مرسى ــ مركز الصحة الجنسية» ضمن «منتدى أشغال داخلية»، حيث تخصص، في الخريف المقبل، مساحة في البرنامج للتشبيك بين الفن والجمعيات العاملة مع الفئات المهمشة في المجتمع.

صحيح أن الجائزة كانت مناسبة لإجراء نقاش مع طعمة، إلا أن أيّ متابع أو فاعل في الحياة الثقافيّة في لبنان يدرك تماماً الدور الذي لعبته في تطوير الحياة الثقافيّة في لبنان والمنطقة من دون الحاجة إلى جائزة من نيويورك لإثبات ذلك. غير أن طعمة أثبتت أنها حتى اليوم لا تزال مستعدة لمساءلة مشروعها، والإقدام على خطوات متجددة وجريئة تعيد عبرها تثبيت فعاليته في الحيز الثقافي والاجتماعي والسياسي. جرأة نحتاج إليها لدى المسؤولين في عالم الفن، كما في المجتمع المدني، بما أنه لا أمل يرتجى من مسؤولي الدولة.



غسان سلهب ينظر إلى بيروت من «الوادي»

يتلقّى كارلوس شاهين مساعدة من أشخاص يحاولون إصلاح سيارتهم، بعدما نجا من حادث سير على طريق البقاع. ما اسمه؟ من أين هو آت؟ وإلى أين يذهب؟ لا أحد يعلم ولا حتى هو. فقد ذاكرته بعد الحادث. يساعدهم في إصلاح سيارتهم، فيأخذونه معهم إلى مزرعة مخفيّة في البقاع. كارول عبود، فادي أبي سمرا، منذر بعلبكي، يمنى مروان، عوني قواص، رودريغ سليمان وأحمد غصين يعملون في تلك المزرعة المحمية بالسلاح، وبسريّة لإنتاج المخدرات.
مع نهاية «الوادي»، تستعيد تلك الشخصية ذاكرتها لحظة اقتحام الطائرات سماء البقاع، فتندلع حرب ضخمة في الشرق الأوسط، ويطاول الدمار بيروت. هل أفسدنا عليكم حدوتة الفيلم؟ ربما. لكن الحدوتة لم تكن يوماً العنصر الأهم في أفلام غسان سلهب (1958)، إنما البحث عن تجليات زمن الكارثة وما بعدها في السينما. منذ أن بدأ سلهب صنع أفلامه في التسعينيات، حاول فهم وتصوير ذلك الزمن في بيروت المدمّرة جراء حرب أهليّة، وعلاقته وعلاقة سكانها بها. في السنوات الأولى، كان ثقل الماضي مسيطراً على المدينة. ماضٍ يعود ليقلق راحة من قرر متابعة الحياة كأن شيئاً لم يكن، فكانت «أشباح بيروت» (١٩٩٨). لكن بعد سنوات على محاولة التأقلم مع الحاضر، وجد سلهب المدينة وسكّانها خائفين من النظر إلى الماضي أو التطلع إلى المستقبل، عالقين في «أرض مجهولة» (٢٠٠٢). مَن استطاع متابعة العيش في مدينة اغتُصبت ذاكرتها، تحول إلى مصاص دماء يعيش على «أطلال» (٢٠٠٦) تلك المدينة إلى أن غادر سلهب بيروت. حمل حقيبته وصعد إلى عزلة «الجبل» (٢٠١٠) ومن الجبل توجّه إلى «الوادي» (٢٠١٤). هل فعلاً صنع سلهب أفلاماً خارج بيروت؟ أمّ أنه صنع أفلاماً عن غضبه على شخصياته التي حاولت الهروب من بيروت؟ غضب أشبه بغضب الآلهة الإغريقية على من قرّر تغيير مصيره من البشر. في فيلمه الأول خارج بيروت، هرب فادي أبي سمرا من المدينة إلى «الجبل» بحثاً عن العزلة والصمت. هناك، أراد سلهب أن يستكشف الإنسان خارج سياقه المديني. وضعه في غرفة في فندق بعيد. أقفل باب الغرفة عليه، وأغرقه في الصمت والسواد. وحين قرر فادي أبي سمرا الخروج في رحلته الوحيدة إلى الطبيعة في نهاية الفيلم، اصطدم بالموت، بانتحار المخرج فوق الثلج. عاقبه سلهب وعاقب ذاته بالموت خارج المدينة. في «الوادي»، عاد كارلوس شاهين إلى لبنان كي يلتقط صوراً لبيته الذي احتله السوريون في البقاع، وأصبح اليوم محرراً. عاد ليستعيد جزءاً من ذاكرته. لكن لحظة تطأ قدمه أرض البقاع، سيصاب بحادث يفقده ذاكرته. في وسط سهل البقاع، يقف رجلٌ، ليس شبحاً من «أشباح بيروت»، ولا مصاص دماء من «الأطلال»، وليس في «أرض مجهولة»، وإنما هو الأرض المجهولة، بلا ذاكرة، ولا تاريخ. أبى سلهب أن يمنح بطله التراجيديّ سلام التصالح مع الماضي، فأفقده ذاكرته.


وضعه في وسط سهل البقاع، وبين مجموعة سرية تتخفى في مزرعة معزولة لصنع المخدرات. رغم أنّ لجميع الشخصيات الأخرى حضورها الخاص والمميز في «الوادي»، إلّا أنها بالمعنى التراجيدي، ليست سوى كومبارس، ومصنع مخدراتها ليس سوى ديكور لتراجيديا ذلك الرجل. خلال الفيلم، تتطور علاقة هؤلاء مع الرجل بين التعاطف والخوف والرغبة الجنسية والحقد. وتبقى تلك الشخصية التراجيدية في منأى عن علاقة الآخرين بها، فجلّ ما تبحث عنه هو استعادة ذاكرتها. ذاكرة لن يعيدها سلهب إلى بطله إلّا حين تندلع حرب ضخمة تدمّر الشرق الأوسط ومن ضمنها بيروت. حتى تلك الحرب المدمّرة يوظفها سلهب في معاقبة بطله. ما نفع استعادة الذاكرة في تلك اللحظة إلا لإعادة تكريس دوامة الكارثة التي علقت فيها تلك الشخصيّة التراجيديّة؟ حتى اليوم، لم تغب بيروت عن أفلام سلهب، بل خرج منها ليراها عن بعد ويطرح أسئلة مختلفة ويرسم لها مصيراً يتكرّس فيه زمن الكارثة وما بعده. ويبقى «الوادي» ثاني الثلاثيّة، بعد «الجبل»، فيما يعمل سلهب حالياً على الفيلم الأخير. وبعد تقديم «الوادي» (إنتاج «أبوط») في مهرجانات عدة ونيله جائزة أفضل إخراج في «أبو ظبي»، ها هو يصل إلى بيروت ليُعرض ضمن «أيام بيروت» (14/3) قبل أن يُطرح في الصالات اللبنانية.



يارا بونصّار... بيروت وشم على جسد


تدخل يارا بونصّار من زاوية المسرح الصغير في «مونو». تتوجه نحو الجمهور وفي يدها حقيبة سفر. تقف أمامنا بصمت لفترة، ثم تتوجه إلينا بعفوية، وتخبرنا أنها لا تجيد الغناء ولا الرقص، ولكنها سوف تخبرنا قصّة مدينتها، وقصّة مدن زارتها. في زاوية المسرح الأخرى إلى جانب الجمهور، يجلس باد كونكا مع آلاته ليرافق يارا موسيقيّاً خلال العرض.
في نصّ التعريف عن المسرحية، يقول الثنائي: امرأة تروي قصّة رحيلها المنْسوج حول صدفةٍ دعاها إليها صوتٌ ما. نقطة انطلاقها: مدينتها بيروت. تتعاقب محطات رحلتها في مدن لم تعرفها قبلاً. تجمَع من كل مدينة غرضاً واحداً لتحكي من خلال كل غرض القصة المختبئة وراء كل مدينة. مع كل رحيل، تنكشف طبقة من ماضيها حيث يركدُ ركام ذكرياتها في بيروت. تتحوّل وقائع المدن التي تزورها إلى مرآة لبقايا ذكرياتها قبل رحيلها، وتقودها لاكتشاف هدف رحلتها الحقيقي. تلك هي قصّة عرض «بيت بلدي: حكايات مدن بلا حيطان» الذي كتبته وأخرجته يارا بونصّار.
قدّم الثنائي العرض للمرة الأولى في مدينة بِرن في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، بعد إقامة فنيّة لهما في سويسرا. وإن كان العرض قدّم باللغة الإنكليزية، إلا أنّ يارا أعادت لبننة النصّ في مناسبة تقديمه في بيروت، وشاركها إيلي يوسف في التسجيلات الصوتيّة، علماً أنّه أيضاً دراماتورج للعرض. ضمن فضاء المسرح، تنصب يارا عاموداً وتوصل حباله بجدران المسرح الأربعة، لتنشر على تلك الحبال الأغراض التي جلبتها من المدن التي زارتها. لكل غرض حكاية، أو بالأحرى لكل حكاية غرض، يرفع من الحقيبة ويعلّق على تلك الحبال لتتألف رويداً رويداً تلك السينوغرافيا (رينات ونش) البسيطة. لكنها ببساطتها تؤمن وظيفتها الدراميّة، وتحمل ضمن فضاء المسرح قصص المؤديّة/ قصص المدن/ قصص العرض.
من مدينة إلى أخرى، تحملنا معها يارا بو نصّار. تستعين بأغراضها لا لتروي عبرها الحكايا، بل لترسم صوراً فيما تسرد قصصاً عن مدن لا أسماء لها، لتبقى بيروت المدينة الوحيدة المذكورة في العرض. 
ما يميّز الأخير هو الخيارات في توظيف النص إخراجياً، وتوظيف الموسيقى هنا، والسينوغرافيا هناك، ومشهد رقص تستمدّه يارا من حركة المشي، وقلم تكتب به على جسدها كلمات من قصصها، كمن يطبع وشماً من رواية لا يريد أن ينساها... كلها خيارات بسيطة ومتناغمة لم يطغَ فيها عنصر على آخر، بل استطاعت أن تقدّم عرضاً مسرحياً سلسلاً في وصوله إلى الجمهور، وغنيّ بصوره الجماليّة. أمّا يارا بأدائها العفويّ والمتقن، فاستطاعت أن تفرض حميميةً على ذلك السرد المسرحي، وجذب الجمهور إليها على مدى ساعة.
يبقى النص العنصر الأساسي الذي يدفعنا إلى طرح بعض الأسئلة حول أسلوب صياغته وخيار الصور فيه. باستثناء نصوص بعض المشاهد من العرض مثل البداية والنهاية، ومشهد الراديو الصامت، ومشهد انتظار المفقودين في تلك المدينة، غلب على نصّ العرض في الإجمال أزمة إغراقه في صور هائمة ونبرة نوستالجية إلى زمن، وإلى معالم مدينة غير واضحين، مفتقداً بلاغة وتعقيد النصوص المسرحية. طبعاً تلك تجربة شجاعة ليارا بونصار بتأدية وإخراج نص من كتابتها لمدة ساعة، ولا يصبّ النقد هنا في التزمت بالالتزام بالنصوص المسرحية الكلاسيكية. تجربة يارا بو نصّار، خصوصاً أنها تنتمي إلى جيل مسرحي شبابي، تدفعنا إلى التساؤل حول نوع النص المسرحي الذي نبحث عنه اليوم، في لغته، وصوره، وصياغته، لا سيما أنّ «بيت بلدي: حكايات مدن بلا حيطان» يتناول بيروت، وسكانها، والهجرة منها والعودة إليها. أيّ نصّ معاصر نخاطب فيه مدننا اليوم؟ أليست بيروت مشبّعة أدبياً ومسرحياً بالصور الهائمة التي لا قاع لها؟ هل نحن بحاجة إلى مقاربة أكثر فجاجة لواقع المدينة وواقعنا؟ تجربة «بيت بلدي» تقربنا أكثر من ذلك النقاش الذي يصنعه الشباب المسرحيون اللبنانيون. 
* «بيت بلدي: حكايات مدن بلا حيطان»: 20:00 مساء من ٤ حتى ٨ آذار (مارس) ـ «مسرح مونو»، الأشرفية ـ للاستعلام: 01/202422