ما زالت القضية الفلسطينية تنعكس في أعداد هائلة من الصور الإعلامية المتلفزة والإلكترونية والفوتوغرافية التي تقدم إلى الرأي العام العربي والعالمي دليلاً موثقاً عن إجرام الإسرائيليين، وفيها يظهر العنف الجسدي والمعنوي ضد الفلسطينيين، ونجد صوراً تعتمد الرمزية في إشارتها للقضية وأحقيّتها. لكن صورة فلسطين اليوم التي اختار تداولها العرب، صورة مختزلة.
نبحث في محرك غوغل ضمن قائمة الصور عن فلسطين، بعد تخطي صور الأعلام الفلسطينية، وصوراً لإسرائليين يعنفون فلسطينيين، نجدها متجسدة في صورة لمسجد قبة الصخرة، مع بعض النواحي لمدينة القدس في الخلفية التي تبقي المسجد في بؤرة الصورة، كما يظهر في بعضها الجامع القبلي. أما نتائج بحث كلمة ”القدس“ فمختزلة بصور لمسجد قبة الصخرة. إنه الصورة وهو المشهد الفلسطيني الإلكتروني. يعتبر مسجد قبة الصخرة مع الجامع القبلي من أهم معالم المسجد الأقصى، الذي يمثل معلماً مقدساً لدى المسلمين، لكونه أولى القبلتين، وأحد المساجد الثلاثة التي يشدّ المسلمون الرحال إليها مع المسجد الحرام والمسجد النبوي الواقعين في المملكة العربية السعودية. علماً أنه إذا بحثت في محرك غوغل عن ”المملكة العربية السعودية“ فلن تجد صوراً تُذكر للمسجدين الحرام والنبوي، خلافاً لصورة المسجد الأقصى التي تختزل فلسطين والقضية الفلسطينية.
منذ سنوات طرحت فرضيّة أن إسرائيل وراء نشر وتداول هذه الصورة لأنها تريد أن تقنع العالم بأن مسجد قبة الصخرة هو المسجد الأقصى. فيختلط الموضوع على الرأي العام، ويسهل بذلك على إسرائيل هدم أسوار المسجد الأقصى المتبقية، لإعادة بناء هيكل سليمان. لكن في الواقع كثير من العرب والمسلمين يختلط عليهم الأمر، وذلك لأسباب عدّة، منها أن القبة الذهبية لمسجد قبة الصخرة هي الأكثر بروزاً بين ما تبقى من آثار المسجد الأقصى، لذا يسهل تحديدها، بالإضافة إلى لجوء ”قناة الأقصى“ التلفزيونية وكتائب "الأقصى“ إلى اتخاذ مسجد قبة الصخرة شعاراً لهما. حتى لو كانت إسرائيل فعلاً وراء نشر الصورة، فإن العرب قد أمسكوا بها، تلقفوها، تبنوها وتداولوها.
قد تحاول الصورة بطريقة أو بأخرى تحفيز المسلمين على مناصرة القضية الفلسطينية والدفاع عن أحد أهم المعالم المقدسة في الإسلام. بذلك يتمّ استثمار البعد الديني لأرض فلسطين وكونها أرض مقدسة، لجعل القضية الفلسطينية، قضية مقدسة. علماً أن المسجد الأقصى ليس المعلم المقدس الوحيد على أرض فلسطين، ولا حتى في القدس. بنى المسيحيون أولى المعالم المقدسة في تلك الأرض التي ولد وعاش وبشر ومات فيها السيد المسيح وأهمّها كنيسة القيامة. لكن لا نجد صوراً تستثمر البعد الديني المسيحي لنصرة القضية الفلسطينية. وذلك قد يعود إلى تاريخ الكنيسة بقطبيها الأكبرين :الكاثولكية والأرثوذكسية مع القضية الفلسطينية، وإسرائيل، بمنأى عن دور مسيحيي فلسطين والشرق المقاومين الذين كانوا دائماً وما زالوا جزءاً أساسياً من مقاومة إسرائيل.
إن الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان، التي قادت الحروب الصليبية في القرون الوسطى والتي كانت تهدف إلى تحرير الأرض المقدسة من سلطة الدولة الإسلامية، تتخذ اليوم موقفاً مشابهاً لموقف أوروبا من إسرائيل، بحيث تعتبر نفسها مسؤولة جزئياً عن اضطهاد اليهود في أوروبا. من هنا يأتي موقفها من القضية الفلسطينية ممزوجاً بشعور الذنب. ففي العام 1998، تقدم البابا يوحنا بولس الثاني باعتذار رسميّ من اليهود ودولة إسرائيل لعدم قيام الكنيسة بحمايتهم عقب المجازر التي تعرضوا لها في أوروبا كما قام بزيارة إسرائيل وعمل على بناء علاقات ديبلوماسية وطيدة بين دولة إسرائيل ودولة الفاتيكان. أما الكنيسة الأرثوذكسية في القدس، التي تعتبر من البطريركيات الخمس الأولى المؤسسة للكنيسة الأم، فلا يزال يجلس على كرسيها منذ القرن السادس عشر بطريرك يوناني وليس عربياً فلسطينياً، ما يعيدنا إلى السياسة الأوروبية تجاه القضية الفلسطينية وإسرائيل. علماً بأنه في العام 2005، وإثر مجمع مقدس لبطريركية الروم الأرثوذكس في القدس، تم عزل البطريرك إيرينيوس الأول إثر فضيحة بيع أراضٍ لمستثمرين إسرائيليين في القدس القديمة، تعود ملكيتها للكنيسة. إن اشكالية العلاقة ما بين سلطة الكنيسة والقضية الفلسطينية، قد تكون السبب في غياب استثمار البعد الديني للأرض المقدسة كجزء من القضية. أمّا مسيحيو فلسطين والشرق، فكانوا في معظم الأحيان قادة ومنضوين في صفوف المقاومة الوطنية ولم يلجأوا إلى استثمار الدين في حركة المقاومة.
في المقابل نجد رابطاً وثيقاً ما بين الدين الإسلامي والقضية الفلسطينية. وذلك الربط، القديم الجديد، منذ عصور الفتوحات الإسلامية، مرّ بغلبة النزعة القومية العربية على منطق الدفاع عن أرض فلسطين في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، إلى أن عادت النزعة الدينية إثر هزيمة الدول العربية في وجه إسرائيل وتبدد حلم الوحدة العربية. فتحول الدافع وراء تحرير فلسطين بشكل كبير من كونها أرض عربية، إلى كونها أرض مقدسة. حتى إن أبرز حركات المقاومة اليسارية والقومية، مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية تراجعت لتحتل الصدارة مكانها، فصائل الأقصى والمقاومة الإسلامية.
بالطبع إن تلك التحولات من الدافع القومي إلى الدافع الديني، هي نتيجة لعوامل اجتماعية وسياسية واستراتيجية كثيرة ومعقدة لا مجال للدخول فيها الآن. أمّا هيمنة صورة مسجد قبة الصخرة على أي صورة أخرى لفلسطين، فتثير الكثير من الأسئلة حول موقع القضية الفلسطينية اليوم عند العرب، وربطها بالدافع الديني. هل غلبت صفة الأرض المقدسة على ما عداها كمثل صفة الظلم الذي يتعرض له الإنسان الفلسطيني، وحقّه بأرضه؟ ماذا يحصل إذا تمّ التوصل يوماً إلى اتفاق يحيّد أرض المسجد الأقصى عن الصراع؟ أم أن قضية تحرير فلسطين وصلت إلى حائط مسدود فوجب استعمال الورقة الأخيرة، ورقة الدين، والأرض المقدسة، لتبقى واجباً دينياً وحاضرة في وجدان المليار ونصف مسلم في العالم؟ أسئلة في رسم العرب، مسلمين ومسيحيين ويهود ومواطنين.
نشر في رصيف ٢٢
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق