على مدى ساعة، تضعنا الممثلة والمخرجة الشابة أمام المخاوف والأحلام والهواجس الطفولية من دون أن تثقلها بشحنات ميلودرامية. عرضها الجديد الذي يقدَّم على خشبة مسرح «دوّار الشمس» يعكس واقع المواطن العربي في لحظات البحث عن الوجود الآمن. في بقعة صغيرة تتسع لأربعين مشاهداً، تحلّق الجمهور حول فراش سوسن بوخالد. إنه مسرح رواياتها الممزوجة بالخوف والحلم والتحوّلات في عرضها «أليس» على خشبة مسرح «دوار الشمس». صمت. الليل وظلمته ثقيلان على امرأة وحيدة في فراشها. عمرٌ يمر وتجاعيد تتكاثر لا يمكن تجنبها سوى عبر وضع الخيار على العينين كل يوم قبل النوم. ينطفئ النور، ويعمّ الصمت قبل أن نلج إلى عالم من المخاوف.
وحوش تغزو سكينة الليل. تحت الشرشف، وراء السرير، في زوايا الغرفة، من كل مكان. تتخبط سوسن بوخالد مع قدم وحش، تخرج من تحت فراشها، تتقمص شخصيات لتهرب من خوفها، تستحضر أمّها لتشعر بالأمان، تتحول إلى غيمة، وإلى صديق وهمي. في «أليس»، تعالج سوسن بوخالد الواقع الذي نعيشه اليوم ـــ أحياء وأمواتاً ـــ من دون أن تثقل موضوعاً عميقاً مماثلاً بشحنات ميلودرامية. إنّه واقع المواطن العربي، أو أي واقع إنساني آخر في لحظة البحث عن الوجود الآمن. تلك الحاجة الأساسية إلى الأمان، إلى الطمأنينة، إلى العيش والوجود خارج الخوف. كي تبتعد عن الابتذال ومحدودية المعالجة المباشرة لموضوع مماثل عبر سياقات محددة من الواقع السياسي الاجتماعي، اختارت أن تعود إلى مخاوف الطفولة، المخاوف الأساسية. تلك المرأة وحيدة في الليل، ومثل أي طفل، تخاف الوحوش المختبئة تحت فراشها في العتمة. تخاف ما لا تستطيع رؤيته، أو ملامسته والسيطرة عليه. تخاف المصير. من هنا، يقتصر النص على كلمات طفولية بسيطة تجتمع أحياناً لتخلق جملاً بسيطة هي الأخرى. ورغم أنّ انزلاق النص أحياناً إلى لغة البالغين أدى إلى إضعاف تماسك منطقه، إلا أنّه أضفى بعداً فلسفياً على أصغر التفاصيل، ينبع من الأسئلة الوجودية التي يطرحها الأطفال ومن حاجاتهم الأساسية التي نتعلم أن نتغاضى عنها ونضحّي بها نحن الكبار. «كيف ما بتعرفي الفرق بين ريحة الزهور وريحة الخرا!» تسأل تلك المرأة رفيقتها الوحيدة الدمية القطة «أليس»، في ليلها الطويل. هذا السؤال يختصر عرض سوسن بوخالد. زمن تنتفي فيه قدرة التمييز بين رائحة الزهور ورائحة الخراء. أصغر التفاصيل قابلة للتحول المستمرّ من الجمال إلى القبح ومن الطمأنينة إلى الأرق ومن الحياة إلى الموت والعكس. ما من ثابت، بل كل شيء متحول. سكينة الليل تلامس الموت، والربيع يخبئ في طيّاته وحوشاً تأكل عقول الأطفال، فتمنعهم من الحلم. تلك المخاوف تقدمها سوسن بوخالد ضمن قالب بسيط. عبر مساحة لا تتعدى فراشها المتحوّل إلى فضاءات مختلفة تنتقل سوسن بجمهورها من عالم متحول إلى آخر على مدى ساعة من الزمن. أما باب الحلّ الذي تقترحه، فهو الحلم والخيال. الأطفال يحلمون ويتخيّلون، ويحوّلون مخاوفهم إلى لحظات جمال وطمأنينة. أجمل التحوّلات في «أليس» هو تحوّل الوحش إلى كائن جميل. إنّه المسرح مساحة الخيال. في عالم نعيش فيه ويحوي عدداً كبيراً من الأموات، وربّما نحن أموات أيضاً، لا ملجأ لنا سوى الخيال. «أليس» الذي أسهم «الصندوق العربي للثقافة والفنون ـــ آفاق» في إنتاجه قدّم في القاهرة قبل أشهر، ويقدم اليوم في بيروت. تعاون الثلاثي سوسن بوخالد (كتابة وتمثيلاً وإخراجاً)، وحسين بيضون (سينوغرافيا) وسرمد لويس (إضاءة) أثمر عملاً متقن التفاصيل وغنياً جداً في خلقه للصور. يبرهن حسين بيضون مرّة جديدة على أهمية السينوغرافيا المسرحية الموظفة بشكل كامل لخدمة الرؤية الإخراجية والدراماتورجية التي يندر أن نشهدها في الأعمال المسرحية اللبنانية. العناصر جميعها ببساطتها وتعقيدها، ومن بينها الفيديو، تحضر على المسرح لهدف درامي وليس لمجرد الديكور. بدقته المعهودة، اختار سرمد لويس الألوان وإضاءة منيمالية المناسبة لتدعيم مشاعر الخوف وبرد الليل ولمرافقة لحظات الحلم، راسماً عبر الظلال مساحة أخرى موازية للعرض. هذه العناصر، أعادت سوسن بو خالد توظيفها ضمن رؤية إخراجية، يتنقل فيها جسدها ـــ في مساحة لا تتعدى المترين والمتر ـــ من بقعة إلى أخرى خالقاً في كل مرة لوحة فنية جديدة.
الحلقة الأضعف
النقطة الأضعف في عرض «اليس»، تبقى التركيبة الدراماتوجية. تجرّأت سوسن بوخالد على اللعب على الصمت في عرض مونودرامي لا يرتكز سوى على وجودها بمفردها على الخشبة (بمساندة العناصر السينوغرافية). برعت في تقديم مشاهد صامتة أبلغ من المشاهد الناطقة. لكنّ إيقاع العرض شابه بعض لحظات الفراغ التي ربّما أرادتها بوخالد لتنقلنا معها إلى فراغ الوحدة في الليل المليء بالمخاوف. لكن ثقل تلك اللحظات أثّر على تماسك العرض وانسيابه. تبقى محاولة سوسن بوخالد هي المثيرة للاهتمام، لناحية التجريب في البحث عن إيقاع غير كلاسيكي تتخلله لحظات تغيب فيها الأفعال الصامتة والناطقة، بعيداً عن الحشو الدراماتورجي. لكن في «أليس»، تبقى قوة بعض المشاهد طاغية على العرض بكليته، ما يضع المشاهد أمام لحظات انتظار قدوم مشاهد جديدة لتنتشله من بعض الرتابة. من هنا، لا بد من إعادة النظر في دراماتورجيا العرض من حيث تفاصيل البنية الدرامية لكل مشهد، وتماسكها لتكوين إيقاع العرض العام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق