تصوير "ماريّا كسّاب" |
نهار الأحد الماضي، توقفت سيارة قرب كورنيش عين المريسة، وترجّلت منها إمرأة زنّرت نفسها بأصابع كبيرة من الـ T.N.T، قبل أن تتوجّه بخطوات واثقة نحو درابزين الكورنيش. وقفت هنالك تدير ظهرها للبحر، وتنظر إلى الناس حولها. لا شكّ في أنّ لحظة وصولها وسيرها بين الجموع، أثارت إستغراباً وتيقظاً ملحوظين. لكن دقائق قليلة كانت كفيلة بأن تبدأ الهواتف الذكية بالإرتفاع في فضاء الكورنيش، ولتنهال الكاميرات ملتقطةً الصور لتلك المرأة المزنرة بالديناميت.
وإن كان الحاضرون في بادئ الأمر حافظوا على مسافة بضعة أمتار تفصلهم عن هدف الصورة، إلا أنهم ما لبثوا أن توافدوا واحداً تلو الآخر، وإتخذوا أمكنتهم الأنسب ليلتقط لهم أصدقاؤهم الصورة الأجمل إلى جانبها. ثم بدأ بعض الأهل يشجعون أولادهم لفعل المثل، كمن يطلب من ولده الوقوف قرب شجرة العيد أو الجلوس في حضن بابا نويل لإلتقاط صورة. وفي المقابل، بقي البعض متخوفاً، ورافضاً الإقتراب، فيما إستنفر البعض الآخر طالباً منها الرحيل بعيداً، منبهاً الموجودين من الإقتراب منها.
إنها ريما نجدي، فنانة لبنانية، تخرجت من فرع المسرح في الجامعة اللبنانية، وتابعت دراستها في فنون العرض في مدينة نيويورك قبل أن تستقر حالياً في برلين. خلال عطلة رأس السنة، عادت نجدي إلى لبنان لزيارة الأهل والأصدقاء، لتشهد إنفجارين خلال إقامتها القصيرة في بيروت. مثل كل اللبنانيين، أثارت الإنفجارات وتفشي حالة الإنتحاريين في البلد، أسئلة كثيرة لدى نجدي. ضاعفتها خلال الفترة الأخيرة، الرسائل المحذرة من سيارت مفخخة هنا، وعبوة هنالك، وشائعات عن تهديدات لتلك المنطقة أو أخرى. هكذا قررت قبل مغادرتها إلى برلين، أن تشارك مجتمعها أسئلتها الكثيرة على طريقتها الخاصّة: فنون العرض. خلال أيام قليلة جداً، طلبت نجدي من أصدقائها مساعدتها في تنفيذ المشروع، فصممت لها ريّا قزعون الزيّ المزنر بأصابع ديناميت ضخمة. وقد أتى قرار تصميم زيّ كاريكاتوري ومبالغ فيه بعض الشيء، بهدف إيحاء الفكرة لا إخافة الناس فعلاً. أما أحمد نجدي وماريّا كسّاب وساندي شمعون ودانا ضيا، فقد تناوبوا على قيادة السيارة وتوثيق المداخلة الفنية في الشارع عبر الفيديو والصور الفوتوغرافية. هكذا ولدت «مدام بومبا». الهدف كان التنقّل في أرجاء بيروت بين كورنيش عين المريسة/المنارة، ثم «زيتونة باي» قبل التوجه إلى وسط البلد، فشارع الجميزة، ثم الأشرفية، مروراً بتقاطع بشارة الخوري راس النبع قبل أن تختتم الرحلة في شارع الحمراء.
قد يكون هذا الخيار الجريء والصادم في شكل المداخلة الفنية في الشارع، خلافياً بعض الشيء. لكن أليس هذا المطلوب في ظل وضع كالذي نعيشه اليوم في لبنان؟ مداخلة فنية في الشارع تهدف إلى خضّ الواقع، وطرح الأسئلة، المؤلمة منها قبل المهادنة. كيف تتفاعل مع ذعرك اليومي حين يتجسد على شكل إمرأة «مزنرة بالديناميت» تسير بقربك في الشارع؟
طبعاً منع الحراس الأمنيون دخول مدام بومبا إلى «الزيتونة باي». بإبتسامة مهذبة تتوافق مع السياسة الإعلانية للمكان، أبلغ أحد الحراس الفنانة أنها ممنوعة من الدخول، لأن «الزيتونة باي» "ملك خاص»، ودخولها للسير على الكونيش البحري «قد يثير الذعر في نفوس الزبائن، خصوصاً الأجانب، مما يضرّ بمصلحة الشركة» المستملكة لإحدى الواجهات البحرية العامة لمدينة بيروت. الرفض ذاته واجهته في أسواق بيروت، رغم أن الحراس الأمنيين أحضروا في بادئ الأمر كلباً متخصصاً لشمّها من دون أن يتمكن من العثور على أي مادة متفجرة في حوذة «مدام بومبا»، لكن ما لبث مدير الشركة الأمنية أن حضر بنفسه ليمنعها من الدخول إلى الأسواق الخاصة. فما كان من ريما نجدي إلى أن تابعت سيرها في شوارع أسواق بيروت، حيث قام أحد العناصر الأمنية بالتغزل بها قائلاً «لو كل الإنتحاريون متلك، كنت هلأ بتفجر». أما أحد أفراد الشرطة أمام مبنى بلدية بيروت، فهتف بها «يلاّ، ١، ٢، ٣، بوم» وضحك مع رفاقه. في شارع فوش، لم يعترض أي مقهى على إستقبالها وتقديم القهوة. كذلك في شارع الجميزة حيث دخلت إلى إحدى الحانات، وإحتست كأساً، ثم نرجيلة في أحد مقاهي الحمرا، قبل أن تصطدم بدعوة أخيرة للخروج من أحد المحلات التجارية.
حيثما حلت «مدام بومبا»، كانت ردات الفعل تتفاوت بين الرفض والإستقبال، الخوف والسخرية، إلتقاط الصور لها أو معها أو التنبه والإبتعاد عنها. لكن لحظات قليلة على كورنيش عين المريسة كانت كفيلة بطرح جميع الأسئلة. هناك، أحضر شاب رجلاً مسناً على كرسي مدولب ووضعه إلى جانب المرأة المزنرة بالديناميت، وتركه هناك لبضع ثوان ليلتقط له صورة معها. كانت على وجه ذلك الرجل، المقعد والصامت والمتجمد، نظرة مؤلمة، نظرة تطرح أسئلة كثيرة ومخيفة: لماذا تلتقط لي صورة مع إمرأة مزنرة بالديناميت؟ لماذا تسلمني أيها الشاب إلى الموت بهذه السهولة؟ منذ متى أصبح الإقتراب من الموت بهذه السخافة؟ وأنتم إلامَ تنظرون جميعاً؟ ما الذي تنتظرونه؟ اللقطة الأجمل، الأفضل، الأفظع، الأقوى، الأبلغ، ألا تعلمون أنكم لن تستطيعوا يوماً إلتقاط صورة الموت؟ وأن الموت أسرع من عدسات كاميراتكم مهما كانت ذكية؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق