لم تقدّم «مرافعتها» السياسية ضمن الجدران المغلقة وبين جمهور يصفّق لطروحاتها. ذهبت إلى الفضاء العام، وخاطبت أناساً غير معنيين بالقضية التي تحملها. معرضها الحالي في «دارة الفنون» في عمان فرصة لاستعادة تجربة مميزة في الفن المعاصر.
اقتبست املي جاسر عنوان معرضها المقام حالياً في «دارة الفنون» في عمان من قصيدة لغريغوري كورسو «نجمة بعيدة بعد النظر عن عيني/ وقريبة قرب العين منّي». يحوي المعرض الأردني أعمالاً سابقة لجاسر وأخرى جديدة. فرصة مميزة للتجوال في تاريخ أعمال الفنانة الفلسطينية انطلاقاً من عملها Change/ Exchange عام 1998، وصولاً إلى «بدون عنوان» (solidaridad) عام 2013. رحلة فنيّة حول التحولات والتاريخ والتوثيق، من فلسطين إلى العالم، بإمضاء جاسر.
وبما أنّه يستحيل التوقف عند كل الأعمال المعروضة في «دارة الفنون»، فقد اخترنا التركيز على بعض الأعمال المهمّة في بساطتها، والمغايرة في أسلوب طرحها السياسي وفي تفاعلها مع جمهورها. غالباً ما تقدّم الأعمال الفنية المعاصرة السياسية داخل العلبة البيضاء ضمن أطر مفاهيمية وفكرية معقّدة، ومرفقة بنصوص شارحة وداعمة وموجهة لأسلوب قراءة تلك الأعمال. علمّاً أنه عند اختيار الفنان تقديم أعماله ضمن العلبة البيضاء، فإنّه يخاطب جمهوراً محدوداً من المثقفين. جمهور يتشارك غالباً مع الفنان في جزء كبير من طروحاته السياسية. أمّا جاسر فقد قدّمت عدداً من الأعمال المغايرة تماماً للنمط المعهود في هذا السياق. أعمال تتميّز بطابع أدائي اختارت تقديمها ضمن الحيز العام، لا ضمن جدران العلبة البيضاء، وتفاعل معها جمهور مختلف عن ذاك الذي يقصد الصالات والمتاحف. أعمال تشكّل موقفاً سياسياً واختراقاً صغيراً ولكن مهماً للمنظومة السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية والفكرية التي نعيش فيها.
في أول مشاريعها Change/ Exchange عام 1998، تنقلت جاسر بين صرّاف وآخر في باريس كي تحوّل ورقة 100 دولار أميركي إلى فرنك فرنسي، ثم من الفرنك إلى الدولار الخ. انتهى بها الأمر مع نقود حجرية لا يمكن صرفها. شارك في هذا العمل الأدائي ـ من دون أن يدروا ـ حوالى 60 صرّافاً جالت عليهم الفنانة، فتحوّلوا إلى الممثلين المباشرين لمنظومة اقتصادية رأسمالية أرادت جاسر نقدها من دون خطابات مرافقة وداعمة. تركت لذلك الفعل الأدائي البسيط ونتائجه أن يشكّل مثالاً فاضحاً للعالم الاقتصادي المتحكم بإفلاسنا.
مع انتقالها للعيش في نيويورك، صمّمت جاسر عام ١٩٩٩ بطاقات عيد الميلاد بأسلوب مشابه لتلك المتوافرة في الأسواق الأميركية، حيث أظهرت مثلاً مغارة بيت لحم، مضيفةً بعض العناصر على تلك الصور كطائرات إسرائيلية حربية محلقة فوق المغارة. بعدها، وزّعت تلك البطاقات خلسة ضمن البطاقات المعروضة للبيع في المتاجر في نيويورك. بطاقات «عيد الميلاد» وصلت إلى أيدي مواطنين أميركيين قد لا يلتفتون يوماً إلى الحملات الداعية إلى حقّ الفلسطينيين في أميركا، لكنّها اليوم بين أيديهم، وفي منازلهم. هكذا، اخترقت جاسر جمهوراً لا تعرفه ولا يعرفها، وأنشأت علاقة لا تتحكم بها، لكنّها قد تدفع أميركياً ممن يحتفل بولادة المسيح إلى مساءلة دوره ــ كدافع للضرائب ــ ودور حكوماته الداعم لتدمير الاسرائيليين للمدن التي ولد وعاش فيها المسيح مثل بيت لحم والناصرة والقدس.
أما عام ٢٠٠٠، فطلبت جاسر من 60 فلسطينياً يعيشون في نيويورك أن يكتبوا إعلانات شخصية ويرسلوها في الوقت نفسه إلى نشرة Village Voice في نيويورك. حينها، طلبت من المشاركين التزام توجيهين بسيطين: الأوّل أنّه ينبغي لكل مشارك (ة) السعي للحصول على صاحب (ة) يهودي (ة) من أجل العودة إلى الديار باستخدام قانون «العودة» الإسرائيلي، والثاني استخدام كلمة «ساميّين» لوصف أنفسهم باعتبارها وسيلة للطعن في السياق الأميركي الأوروبي حيث تختصّ «السامية» فقط باليهود. حمل المشروع عنوان «السامي المثير». كررت الفنانة المشروع عام 2001، ومن ثم في عام 2002 ضمن العدد الخاص بـ»عيد الحب». عندها لاحظت الوسائل الإعلامية الأميركيّة الأمر وعلّقت بأنه يمثّل تهديداً إرهابياً. خرق جديد للخطاب السياسي السائد، يخاطب جمهوراً واسعاً، مستعيناً بمفردات العدو ليعيد قلب الواقع السياسي.
وفي العمل التداخلي Stazione الذي كان مقرراً تقديمه في «بينالي البندقية 53» (٢٠٠٩)، أرادت جاسر أن تكتب عناوين المحطات على وسائل النقل المائية في البندقية باللغة العربية إلى جانب تلك المكتوبة أصلاً بالإيطاليّة، مسائلةً التاريخ المنسي الذي يربط البندقية بالعرب. لكنّ البلدية ألغت تنفيذ العمل بطريقة مفاجئة. وفي جزء من عمل ex libiris الذي أنتج «لدوكومنتا ١٣» (٢٠١٢)، طبعت جاسر ورسمت لوحات كبيرة على الشارع تظهر إهداءات نقلتها من 30 ألف كتاب نهبتها القوات الاسرائيلية من منازل ومكتبات ومؤسسات فلسطينية عام 1948، علماً أنّ بعضها موجود اليوم في «المكتبة اليهودية الوطنية» في القدس الغربية ضمن خانة «ممتلكات مهجورة». إهداءات تتضمن أسماء فلسطينيين ومدناً ومؤسسات في تواريخ تسبق تاريخ نشوء الكيان العبري.
ما يميّز تلك الأعمال أنّها سياسيّة بامتياز ذات أفعال بسيطة وأغلبها أدائية تخاطب جمهوراً واسعاً خارج حدود العلبة البيضاء. أما ما هو معروض داخل الغاليري، فليس سوى توثيق لها. وتبقى تلك الأعمال مداخلات سياسية مباشرة ومهمة في المنظومة الكبرى، وليس فقط ضمن فقاعة المثقفين. والأهم أنّ جاسر اختارت أن تقدّمها كما هي، كفعل سياسي لا يحتاج إلى شروحات، ولا يمكنها التحكم لا بمتلقيه ولا بوسيلة تفاعله معه، تاركةً تلك الأعمال تمارس فعلها في منأى عنها.
الأسد الذهبي
عام 2007، استحقّت إملي جاسر جائزة «الأسد الذهبي»، في الدورة الثانية والخمسين من «بينالي البندقيّة»، عن «مادة من أجل فيلم». في عملها التجهيزي الفائز، تتبعت الفنانة الفلسطينية قصة اغتيال الدبلوماسي والأديب الفلسطيني وائل زعيتر في روما عام 1972. استعانت بكتاب «ألف ليلة وليلة» الذي كان زعيتر يعمل على ترجمته إلى الإيطالية، ويتأبطه حين أطلق عليه القتلة الرصاص، لتستقر إحداها في الكتاب. هذا العمل بدأته جاسر عام 2005 كمشروع متواصل in progress، قائم على البحث. من خلال الفوتوغرافيا والسينما والأصوات والمواد الأرشيفية، لاحقت جاسر عملية الاغتيال ليأتي عملها متقصّياً للمصائر، وانتقاماً لروح زعيتر بعد حوالى 35 سنة على اغتياله.
حتّى 23 نيسان (أبريل) 2015 ــ «دارة الفنون» (عمان) ـ للاستعلام: daratalfunun.org
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق