إعتمد أنطوان أشقر منهج «المسرح الفقير» في مسرحيته «رسالة حب» عن نص فرناندو أرابال، مستنداً على الممثل والنص كعنصرين وحيدين في رؤيته الإخراجية. هكذا خلا المسرح من العناصر السينوغرافية، ما عدا مكعب تحول إلى سرير في المشهد الأخير، بالإضافة إلى إستعمال شاشة عرض كفاصل بين العرض بأكمله ومشهده الأخير. عنصر أتى كغطاء لإجراء التعديلات البسيطة على الديكور وتغيير الملابس. أما في إدارة الممثل فإعتمد المخرج الطريقة الكلاسيكية الواقعية في تجسيد الشخصيات والتعبير عن إنفعالاتهم. تؤدي رلى حمادة (الأم) وجاد خاطر (الإبن) الشخصيات بتقنية وإحتراف وإحساس عالٍ.
أما في تركيبة النص، وترجمته الدراماتورجية على الخشبة، فقد نجح أشقر في صياغة إيقاعه المتصاعد وتوتراته الدرامية ولكنه أخفق ـ ربما بخيار منه ـ في إستثمار العلاقة الشائكة بين الأم وإبنها، مما أدى إلى وقوع العرض في الرتابة الدرامية في أحيان كثيرة. إن قوة نص أرابال قائمة على عدم قدرة الإبن إتهام أمه على شكوكه بأنّها كانت وراء مقتل أباه، بسبب حبه لها الذي يتخطى محبة الإبن لأمه، بل الرجل لعشيقته. تلك الإزدواجية بين الحقد والعشق التي تحكم علاقة الإبن بأمه، تشكل المفتاح الدرامي لنص أرابال الذي يجعل من علاقة إبن بوالدته مسرحاً يخاطب عبره تناقضات الحرب الأهلية، وأهوالها.
في عرض «رسالة حب»، يغوص أنطوان أشقر في علاقة الإتهام/ الدفاع لكن يمرّ لماماً على علاقة الكراهية/ العشق، مما أضعف شحنة التوتر في العلاقة، والغوص في تفاصيلها الموجعة التي تؤلم أكثر من تفاصيل الحروب الأهلية. أما الضعف الثاني في المقاربة الكلاسيكية لنص أرابال، فيكمن في غياب الصورة. في المناهج المسرحية المعاصرة وبمساعدة العناصر السينوغرافية التقليدية أو الحديثة، يسهل خلق الصور على الخشبة. أما في منهج المسرح الفقير، فعلى المخرج أن يبحث بين تركيبة أجساد الممثلين وعلاقتهم مع فضاء العرض وتدفق كلماتهم، وعناصر أخرى بسيطة بهدف خلق صور تنقل العرض من مجرد قراءة تمثيلية للنص إلى عمل مسرحي، على الطريقة البروكية (بيتر بروك). لم يخلُ العرض من تلك الصور المسرحية الغنية، رغم قلتها، لكن المشهد الأخير أتى لملء ذلك الفراغ، وفضح ضعف المشاهد التي سبقته.
إنطفأ الضوء، على شاشة في أفق المسرح الصغير، تم عرض لوحات لتشكيليين إسبان عن الحرب الأهلية الإسبانية. خلال تلك اللحظات القليلة، بدّل الممثلون تفاصيل الديكور الصغيرة، وتحول المكعب الذي يتوسط الخشبة إلى سرير في مستشفى مغطى بشراشف بيضاء. عاد النور إلى الغرفة، لكن هذه المرة كان أبيض بارداً، بدلاً من الألوان الحامية والدرامية التي سيطرت على المسرحية سابقاً. على السرير، تجلس رلى حمادة مديرة ظهرها للجمهور، بعدما واجهته مباشرة بكل إنفعالاتها خلال العرض. بدلت ثوبها البرتقلي بآخر أبيض، وأحنت كتفيها بصمت بعد عواصف التوتر التي سادت المسرحية. تدخل ممرضة (سيرينا الشامي) الغرفة، تصبحها بالخير، تمشط لها شعرها برقّة، وتضع شالاً على كتفيها، ثم تقودها لمواجهة الجمهور للمرة الأخيرة. لكن هذه المرة لن تنظر حمادة إلى أعين الجمهور، ولن تصرخ وتضحك وتنهار وتتعرى أمامه لتطلعه على جميع مخاوفها. بصمت، سوف تتوجه نحو الممر المحاذي له وتسير نحو آخر النفق المضاء الذي يقود نحو مخرج المسرح. من المرأة القوية التي المجابهة لإتهامات إبنها، والمقاومة لوحدتها بعدما تركها إبنها وتوقّف عن مراسلتها، والمفعمة بالحياة، والمستجمعة للحظات فرح قليلة عاشتها في حياتها علها تسعفها في حزنها العميق المسيطر عليها، تحولت رلى حمادة إلى إمرأة مهزومة، تعبت من الحياة، وإستلمت للسكون. عبر خطواتها البطيئة وهي متجهة نحو آخر النفق، تلمس أحزان وأوجاع الحياة التي أثقلت جسدها فترهل. ذلك الوجه الذي كان ينبض أملاً مراهقاً يحاول التغلب على قسوة الحرب والحياة طوال العرض، إنكسر في المشهد الأخير. إنطفأ بريقه، وبدأت التجاعيد تتآكله. عينان ثاقبتان تنظران إلى آخر النفق ولكن الحزن الدفين يسيطر عليهما. في المشهد الأخير، تنضج نضوج المرأة الثكلى، التي أيقنت أن الحرب أفقدتها أعز من أحبت وأفقدتها ذاتها. في المشهد الأخير، تتجلى رلى حمادة ممثلة عظيمة تختصر مسرحية «رسالة حب» بأكملها. وكأنّ العرض برمته كان مجرد تهيئة لصورة الألم والحزن والإستسلام الصامت التي جسدها المشهد الأخير. صورة الحرب الأهلية في كل الأرض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق