بين اللغة الأم، ولغة بلد المهجر، تتنقّل الفنانة اللبنانية في معرضها الجديد المقام في غاليري «صفير زملر». عبر حكايتها الشخصية خلال الحرب الأهلية وهربها إلى أوروبا، وحكاية آلاف اللاجئين السوريين الذين تركوا بلادهم، تتقاطع المصائر والسير والتواريخ لتعيش الجحيم نفسه!
قد تكون نصيحتنا الأساسية لزوار معرض منيرة الصلح (١٩٧٨) الجديد في صالة «صفير زملر» أن تشاهدوا فيديو «الآن كُل نصّي» المعروض ضمن علبة خشبية ضخمة، قبل أن تجولوا على الأقسام الباقية في المعرض الذي يحمل عنوان «عسيرة هي اللغة الأمّ». في «الآن كُل نصّي»، تسرد الفنانة اللبنانية عبر نصّ مكتوب على الشاشة قصة لجوئها وأهلها خلال الحرب الأهلية عند أقاربهم إلى دمشق، بما أنّ والدة الفنانة شاميّة. وتصف يوم زارتهم خالتها الدمشقيّة مع عائلتها أخيراً في بيروت مع ذبيحة خروف للاحتفال بنجاح ابنها. على الشاشة، نرى تفاصيل لسيارة حمِّل سطحها بفرش ولحف وحقائب سفر، وبعض الخضار في صندوقها، ثم نتابع مع الكاميرا تصويراً مفصّلاً لأعضاء ذبيحة حيوانية على خلفية بيضاء، إلى أن تظهر الفنانة في آخر مشهد مختتمةً الفيلم.
في موازاة الصورة، تعبّر الصلح عبر النص المكتوب على الشاشة وبتقاطع مع الرواية الأساسية عن معاناتها في كتابة نصّ الفيديو، وعن هواجسها الجنسية، وعجزها عن التعبير عن الصدمة التي تعيشها. وهنا مفتاح المعرض. على مائدة الفنانة في بيروت ذبيحة احتفالية، وفي الوقت ذاته، ذبيحة إنسانية في الغوطة. لا تستطيع أن تأكل، ولا أن تعبّر عن صدمتها. تقول الصلح في الفيديو: ما من أحد يستطيع أن يعبّر بشكل مباشر عن تجربته خلال الصدمة، فهو لا يعي أثرها الفعلي عليه بعد. أمّا النصوص التي عبّرت عن تجارب مشابهة، فقد أتت في مراحل ما بعد الصدمة، فكيف لها أن تكتب نصّ الفيديو الآن؟ أو كيف لها أن تقدّم معرضاً؟
خارج ذلك الفيديو، يسيطر على المعرض جو من السذاجة الطفولية. على قماشات كبيرة متدلية من السقف، تتشقلب الأحرف لتشكل كلمات مضادة من كل جهة: عبث/ بعث، ملك / لكم، غبر / رغب. على لوحات صغيرة ومثل مبتدئ في تعلّم الخياطة، طرّزت الفنانة عبارات بلغات عدة تختلط فيها الأحرف كما يتلعثم الطفل عند تعلّم الكتابة. وعبر رسم وتلوين طفولي لشخصيات مثل رفيق وسعد الحريري، نبيه ورندة بري، حسن نصر الله وأحمدي نجاد، ومار نصر الله بطرس صفير، تنتقد الفنانة معضلات سياسية وايديولوجية معقدة، بطريقة قد تبدو سطحيّة، بالإضافة إلى بورتريهات ضمن مشروع متواصل يهدف إلى رسم اللاجئين السوريين في لبنان على أوراق صفراء من دفاتر الملاحظات، وقباقيب شامية مصفوفة على الأرضية عند مدخل الصالة. وتعرض على حائط فيديو آخر مقابل دائرة مؤلفة من كراسٍ خشبية تمّ تركيبها كما تركب دوائر التعارف أو النقاش في أنشطة الجمعيات غير الحكومية أو الخيرية. في هذا الفيديو، تقودنا الصلح عبر كاميرتها إلى مركز في مدينة أنتويرب في بلجيكا، حيث وصلت مع حوالى 200 ألف مغترب لفحص مستواهم في اللغة الهولندية، وللتسجيل في صفوف اللغة تحضيراً لمعاملات الهجرة. في المركز، نتابع تخبط الوافدين في نطق اللغات، لتستلهم الفنانة من هنا عنوان معرضها «عسيرة هي اللغة الأمّ». قد نجد علاقة مباشرة بين عنوان المعرض والفيديو الأخير وعلاقته باللغة والتلعثم، واللعب على الكلمات، التي تعيدنا إلى زمن الطفولة المستكشفة للنطق واللغة، والترجمة المباشرة لعقل الإنسان المفكر.
من هنا يمكننا قراءة المعرض بأسره ضمن تلك المقاربة والتركيبة. تستعيد الصلح «سذاجة» الطفل وعلاقته باللغة كي تطرح قضايا معقدة مثل الحروب واللجوء والسياسة والدين. كما يمكن ربطها، كما فعلت في النص المقدم للمعرض، بطروحات أكثر تعقيداً مثل كتاب «كلمن» لأحمد بيضون، و«صوت ولا شيء آخر» لملادن دولر، و«الفصام واللغات» للويس ولفسون. لكن القراءة الأولى والمباشرة غير كافية. أما القراءة الثانية فلا تهمنا حالياً في النتاج الفني الأخير، بل تعني الفنانة في بحثها وتطويرها للعمل. يبقى الملفت تلك العودة إلى السذاجة الطفولية وربطها بفيديو «الآن كُل نصّي» حين يعجز البالغون عن ترجمة معقدّة وبليغة لهول المصيبة والصدمة.
عدد الموتى في سوريا لم يعد ممكناً إحصاؤه، أكان بالكيماوي أم بالبراميل أم بالرصاص أم أي سلاح بجميع ألوانه. كذلك هو عدد اللاجئين في لبنان، وحالتهم الاجتماعية والنفسية والطبية والمادية. هول الكارثة يتخطى الوصف والكلام والصور، فكيف تجسده الصلح، وهي التي عاشت الحرب والنزوح أيضاً؟ من هنا يمكن قراءة رسم أكبر عدد من البورتريهات للاجئين السوريين في لبنان، ضمن مشروعها المتواصل علها تستطيع رسمهم جميعهم، ليس لأن بورتريهات الصلح من أبلغ البورتريهات التي عرفها تاريخ الفن، بل لأنها لا تعلم ماذا تفعل غير ذلك. تشقلب الكلمات، محاولة البحث عن معنى مختبئ بين الأحرف لعلها تجد ما يصف تلك الكارثة، وتتلعثم وهي تحاول الوصف لأن لا كلمات بليغة يمكنها وصف ما يحدث، بل ربما كلمات أخرى تخترعها. وترسم حسن نصر الله مناقشاً أحمدي نجاد حول لوحة لفرانسيس بايكون، لأنّ لا نقاش ثانياً حول الكارثة قد يتجسد في تلك اللوحة. تطلب من زوار المعرض استبدال أحذيتهم بالقباقيب الشامية خلال جولتهم لعلهم يطبقون المقولة الإنكليزية To be in their shoes. لكن مرّة أخرى، وقبل الخروج من المعرض، سؤال يخطر في بال الزائر: لماذا هنا في صالة معرض ضمن مكعب أبيض تقدم الكارثة على شكل أعمال فنية معروضة للبيع؟ وعبر السذاجة الطفولية ذاتها تتساءل: هل يذهب ريع مبيع تلك الأعمال إلى منكوبي الحرب السورية؟
«عسيرة هي اللغة الأمّ» لمنيرة الصلح: حتى ١٩ تموز (يوليو) ـــ «صفير زملر غاليري» (الكرنتينا ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/566550
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق