للوهلة الأولى، تخال أنّ ما تشاهده في Exbroideries الذي يحتضنه «مركز بادغير» حالياً، ليس سوى معرض لإحدى الجمعيات الخيرية تشجيعاً للعمل الحرفي! لكن حالما تقترب من تلك القطع، تلاحظ أنها ليست تطريزات عادية، بل هي كنز اكتشفته الفنانة اللبنانية عام ٢٠٠٩ خلال زيارة بيت جدتها في إسنطبول.
في معرض Exbroideries الذي يحتضنه «مركز بادغير» (راجع الكادر)، تعيد أنيتا توتيكيان (1961) بواسطة الخيوط والأقمشة التي طرزتها جدتها هريبسيم ساركيسيان، حبك قصة جدتها الشخصية ورحلتها مع الألم لتسرد عبرها التراجيديا الأرمنية.
عند مدخل المعرض، تستقبلك صورة هريبسيم ساركيسيان على طاولة خشبية صغيرة أمام مرآة محاطة بخيطان حياكة وزهور (تصميم وائل بطرس). حولها وفي الغرف الخمس، تتوزع عشر قطع مطرزة، ومعلقة في فضاءات الغرف. وعلى الجدران قرب كل قطعة صور فوتوغرافية (طارق مقدم) تُظهر تفاصيل التطريز في كل قطعة، وبعض الأشكال التي نجد صدى لها في التطريزات كرسوم على جدارن الكنائس أو أزهار من الطبيعة.
للوهلة الأولى، تخال نفسك في معرض لإحدى الجمعيات الخيرية تشجيعاً للعمل الحرفي. لكن حالما تقترب من تلك القطع لمشاهدتها عن كثب، تلاحظ أنها لا تشبه بتاتاً ما اعتدتنا على رؤيته في تلك السياقات. لا شك في أنّ الأعمال هنا لا تحترم المبادئ الكلاسيكية للتطريز في التصميم كالتوازي والتناسق أو حتى في اختيار المواد، لكنّها تتمتع بجمالية خاصة جداً، مشحونة بمشاعر معقدّة توحي بالفرح والألم في آونة واحدة.
تلك ليست تطريزات عادية، بل كنز فنيّ اكتشفته توتيكيان عام ٢٠٠٩ في بيت جدتها في إسنطبول. كنز يحمل مع كل عقدة فيه قصة مؤلمة لامرأة تدعى هريبسيم ساركيسيان، طرزت تاريخها ومأساتها، تاريخ ومأساة شعب بكامله من دون أن تدري.
في عام ١٩١٥، نجت هريبسيم صغيرةً من الإبادة الأرمنية، بعدما كانت شاهدة على مقتل أبيها، وأخيها وأعمامها. هربت إلى الجبال وعاشت بين الثلوج وفي الكهوف مع أمها وأخيها الصغير، واقتاتوا الأعشاب والسحليات. عملت كعبدة في الأرض التي كان يملكها أبوها سابقاً، وتزوجت، وهُجرت مع عائلتها مرّة أخرى عام ١٩٣٨، إلى أن عادت إلى إسنطبول حيث عاشت حتى مماتها عام ٢٠٠٠. في أواخر عقدها السادس، لجأت هريبسيم ــ رغم بدء فقدانها النظر ــ إلى تطريز قطع القماش والسجاد لتفريغ ألمها. تطريز يعتمد على حاسة اللمس أكثر منه على النظر. خلال زيارة قامت بها أنيتا توتيكيان عام ٢٠٠٩ لمنزل جدتها في إسطنبول، وقعت بالمصادفة على بعض تلك القطع، وأيقنت مباشرة أنّ ما تمسكه بيدها ليس مجرد قطعة مطرزة، بل «فنّ خام» بامتياز. والفنّ الخام مصطلح استعمله الفرنسي جان دوبوفيه للمرة الأولى عام ١٩٤٨، لوصف نتاج فنيّ ذي خصائص محددة. وينتج «الفنّ الخام» عن أشخاص عاديين خارج الساحة الفنية ومدارسها وتياراتها وتقنياتها. لا شك في أنّ هريبسيم ساركيسيان لم تحتك طوال حياتها بالساحة الفنيّة، وقد تكون المناخات الكنسية الفنّ الوحيد الذي اختبرته في حياتها. من هنا نجد تكرار التصاميم الكنسية في تطريزها. لكن الأهم أنّها لم تقارب يوماً أعمالها التطريزية كعمل فني. وإذا تفقدنا أعمالاً تطريزية أخرى لها، نلاحظ الفرق الواضح في مقاربة التطريز. في الغرفة الأخيرة من المعرض إلى جانب قطعة تتناثر فيها الألوان كلوحة تجريدية، تقدم أنيتا جورباً من الصوف طرّزته جدتها بتقنية كلاسيكية ومتقنة جداً. ذلك الجورب يؤكد مقدرة ساركيسيان على التطريز الكلاسيكي، ورسم الخطوط والأشكال المتناسقة والمتوازية في التصميم. والأهم أنّه يؤكد أنّ ساركيسيان تقصّدت كسر كلّ القيود الكلاسيكية في القطع الأخرى، محوّلةً التطريز إلى فعل ذاتي تمكن قراءته اليوم فنيّاً وعبر التحليل النفسي. كذلك نلاحظ أنّ القطع العشر التي عثرت عليها أنيتا لا وظيفة عملية لها بعكس الجوارب، ولا تتخذ شكلاً هندسياً واضحاً، ما يؤكد أنّ ساركيسيان اختارت تطريز تلك الأعمال بطريقتها الخاصة لأهداف شخصية بحت، وليس للتزيين أو للاستعمال. ذلك السياق بأسره يضعنا أمام أعمال فريدة تصبّ في ما يعرف بالفن الخام.
في المعرض، تحولت مداخلة أنيتا من تقديم أعمالها الخاصة إلى لعب دور القيمة الفنية. عبر اكتشاف تلك الأعمال، ثم الأبحاث، فالتحليل النفسي الذي أجرته، أعدّت أنيتا المعرض ضمن تجهيز فني وتحليلي وفق القصص التي يرويها كل عمل. قسمت الأعمال بين غرف تحمل كل واحدة موضوعها الخاص، ثم ركبّت التجهيز الفني المدعّم بلقطات فوتوغرافية مقرّبة للتفاصيل في التطريز، ملقيةً الضوء على طبقات المعاني الكامنة وراء كل عقدة: قطرات الدم، والمدافن والجثث واستعمال أكياس النايلون لاستكمال القطعة...
تقول أنيتا لـ «الأخبار» إنّها في أعمالها السابقة، تفادت التطرق بشكل مباشر إلى المجزرة الأرمنية. لم تجد صور القتلى والرؤوس المقطوعة مساحة في أعمالها. أما اليوم، ونحن على أبواب الذكرى المئة للمجزرة الأرمنية، فقررت عرض تلك الأعمال لجدتها. بألوانها المزركشة والفرحة، تحمل هذه الأعمال في خفايا عقدها مآسي جدتها التي تعكس ببلاغة مآساة شعب تعرّض لأفظع جرائم الإنسانية في التاريخ الحديث.
في قلب رج حمود
يقام معرض Exbroideries (لأنيتا توتيكيان) في الطابق الأعلى من «مركز بادغير». أسست أربي مانغساريان المركز منذ حوالى سنة وبضعة أشهر، في منطقة برج حمود. في الطابق السفلي، يوجد مطعم جميل ودافئ يقدم المطبخ الأرمني، وإلى جانبه تعمل أربي على إعادة تنشيط مشغل للحياكة والتطريز. أما في الطابق الأعلى، فصالة المعرض مفتوحة بحسب أربي لجميع الفنانين الذين يودون تقديم أعمال معاصرة تخاطب المجتمع المحيط بالمركز.
Exbroideries لأنيتا توتيكيان: حتى نهاية آيار (مايو) ـــ «مركز بادغير» (برج حمود) ــ للاستعلام : 01/240214
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق