على أرض «المعهد الفرنسي» في بيروت، فرشت «دوزيو» علم الإتحاد الأوروبي، وقتلت فوقه ديدمونة، وعطيل، وياجو وإميليا. عبر الأساليب الكلاسيكية المسرحية، قدمت الفرقة الفرنسية عرضاً ذكياً ينطلق من رائعة شكسبير، ليعيد تقديمها في قالب معاصر يحاكي الهواجس السياسية والإجتماعية والإقتصادية الراهنة.
قدمت فرقة «دوزيو» أخيراً عرض «عطيل» في بيروت ضمن مشروع «أرصفة زقاق 2014». عرض سياسي بامتياز لا يروي قصة رومانسية عن الحب والخيانة فحسب بل يسائل مفاهيم الحب والعدالة والحقيقة في الزمن المعاصر. على أرض «المعهد الفرنسي» في بيروت (مقابل مبنى القنصلية)، وأمام جمهور لبناني وفرنسي منه السفير الفرنسي وعقيلته، فرشت «دوزيو» علم الإتحاد الأوروبي، وفوقه قتلت كل من ديدمونة، وعطيل، وياجو وإميليا.
تقول مخرجة العمل نتالي غارو لـ «الأخبار»: «أنا لست ضد أوروبا، لكن ضد السياسات التي تعتمدها تجاه الآخرين، والجرائم التي تُرتكب في العالم باسم أوروبا والديمقراطية». كتب شكسبير نصّه عام 1604 عن علاقة الحبّ بين عطيل وديدمونة بشكل مواز مع حاجة أوروبا إلى عربي لمقاتلة الأتراك، وأنهى قصة الحبّ تلك بخيانة أوروبا له. إنّها ليست قصة حبّ، بل قصّة حيث تخلق الرأسمالية مساحة للحب متى تناسبت مع مصالحها، ثم تخنقه حين ينتفي دورها.
بالأمس، اختير العربي عطيل لتخليص البندقية من الأتراك في قبرص، وأعطيت له إبنة البندقية الراقية ديدمونة رغم معارضة أبيها أحد أعضاء مجلس الشيوخ، مع وعد بأن يصبح الحاكم على قبرص لو حرّرها. بعدما نجح عطيل في مهمته، أمرته البندقية بالعودة وتسليم الحكم إلى الملازم الفلورنسي كاسيو. قام عطيل بقتل نفسه بعد خيانة البندقية له، واكتشافه أنه قتل ديدمونة التي لم تخنه أبداً. بالأمس، كانت البندقية وقبرص وطريق الحرير. أما اليوم، فأصبحت أوروبا وأميركا وبغداد طريق البترول. بالأمس كانت البندقية معقل الرأسمالية، واليوم أصبحت السوق الأوروبية، و«وول ستريت». وتحت غطاء الديمقراطية الأوروبية والأميركية، تقود الرأسمالية الحروب، وتسوّى البلدان بالأرض، ويقتل البشر لتأمين تجارتها.
منذ القرن 17، تكلّم شكسبير عبر عطيل عن إنتاج الرأسمالية لعنصرية تجاه الغريب. تضمحل عند الحاجة إلى هذا الغريب، ثم تعود حين ينتهي دوره. من هنا كان اهتمام «دوزيو» بنصّ «عطيل» الذي ترجمه أوليفييه ساكومانو إلى الفرنسية، ثم أعاد كتابته ليناسب 3 شخصيات. يقدّم «عطيل» ثلاثة ممثلين يتناوبون بإتقان على شخصيات مختلفة ضمن ثلاثيات عدة. الجمهور موزع بشكل دائري حول ساحة العرض التي تتوسع أحياناً إلى ممرات ثلاثة تخترق دائرة المقاعد إلى دائرة كبرى حول الجمهور. أرادت غارو وضع الجمهور في موقع الشاهد على أحداث العرض التي تجري أمامه وحوله، من الحب إلى الخيانة والقتل. أما في إدارة الممثلين، فتم اعتماد تقنية القناع في تبديل الشخصيات بمساعدة أكسسوارات بسيطة. لا سينوغرافيا معقدة. هناك الممثلون ونصّهم فقط. مرّة أخرى، تعيد غارو و«دوزيو» تذكيرنا بأن المسرح المعاصر لا يعتمد بالضرورة على التقنيات المعقدة والمبهرة وإنتفاء الدراماتورجيا والنص والتمثيل. عبر الأساليب الكلاسيكية المسرحية، قدمت «دوزيو» عرضاً رائعاً وذكياً يتخذ من «عطيل» شكسبير أساساً ليعيد تقديمه في فحوى معاصر يحاكي التساؤلات السياسية والإجتماعية الراهنة. عبر تفاصيل بسيطة وذكية في تركيبة النص والدراماتورجيا والإخراج، تعيد الفرقة خلق سياقات مسرحية تطرح معضلات أساسية ومعاصرة. تقدم «دوزيو» مسرحاً سياسياً يعيد الأمل إلى دور الخشبة في معالجة قضايا إجتماعية وسياسية بلغة فنّية متقنة وذكيّة خارج الوعظ والمباشرة.
أما «عطيل» فهو جزء من ثلاثية تعمل عليها الفرقة بعنوان «الطيف الأوروبي» بهدف إنتاج عمل ينطلق من العروض الحالية المبنية على نص «عطيل» لشكسبير إلى كتابة نصّ جديد خاص بالفرقة. تحاكي هذه العروض موقع أوروبا اليوم من الغرباء. علماً أنه بحسب غارو، فإنّ الموقف في أوروبا تجاه العربي اليوم بعد الثورات، إزدوج بين الرغبة بذلك الإنسان الذي عرف الثورات والحروب، والخوف من ذلك «الأصولي» الذي يريد دخول الديار الأوروبية. من بين تلك الثلاثية، سنشاهد في المعهد الفرنسي أيضاً عرض «محاسن الربيع» في ١٢ من الشهر الحالي (مترجم إلى العربية) الذي قدم في بغداد وفرنسا. لا يتناول العرض النص الشكسبيري هذه المرة، بل يستعير منه شخصيتي عطيل وديدمونة فقط. في سياق العرض، ستتم دعوة ممثل عربي وممثلة فرنسية لتجسيد الشخصيتين. لكن غياب المخرجين عن التمارين سيضع الممثلين في تصادم مليء بالأفكار النمطية التي تعشّش في الأعمال الفنيّة المراد منها الحوار بين الغرب والشرق، ما يثير مجدداً الأسئلة حول العلاقة بالآخر المبنية على الرغبة والخوف.
في «أفينيون»
تندرج عروض «دوزيو» في بيروت ضمن مشروع «أرصفة زقاق ٢٠١٤». إلى جانب تقديم «عطيل» و«محاسن الربيع»، سوف تقود المخرجة نتالي غارو ورشة للممثلين في «إستوديو زقاق» (١٧/ ١٨ أيار)، للعمل على البحث والإرتجال والكتابة حول مفهوم الأجنبي في أوروبا والغوص في العلاقات القائمة بين أوروبا والشرق. أما عرض «عطيل» الذي جال على مدن وقرى عدة في فرنسا، فسيقدم هذه السنة في «مهرجان أفينيون» ضمن مساحات موزعة في المدينة، بدعوة من مدير المهرجان الجديد أوليفيه بي. أراد الأخير توسيع المهرجان هذه السنة ليخرج من خشبة المسرح إلى ساحات المدينة.
-----
* «عطيل»: 20:30 مساء الغد ـــ و«محاسن الربيع»: 20:30 مساء ١٢ أيار ـــ المعهد الفرنسي في بيروت (طريق الشام)
* ورشة عمل مع المخرجة نتالي غارو، ١٧ و ١٨ مايو ــ «إستديو زقاق» (العدلية) ـ للاستعلام: 70/910339
----
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق