قدم وجدي معوض ثلاثيته «نساء» للمرة الأولى عام ٢٠١١ في «مهرجان أفينيون المسرحي» في فرنسا. العرض الكامل الذي يمتد ستة ساعات ونصف، تناول سيرة ثلاث نساء من التراجيديا الإغريقية بقلم سوفوكليس: ديانيرا من «نساء تراخيس» عن القدرة على الحبّ بقدر الألم، وأنتيغون عن العدالة ومحاولة المصالحة، وإليكترا عن إصلاح عملية القتل عبر الانتقام. أما خشبة «مهرجانات بيت الدين»، فستستقبل جزءاً واحداً من الثلاثية هو «أنتيغون» (7 و8 آب/ أغسطس) الذي يمتد ساعة و45 دقيقة.
وجدي معوض (١٩٦٨) كاتب ومخرج وممثل مسرحي لبناني كندي، هاجر إلى فرنسا ثم كندا عام ١٩٨٣ حيث بدأ بكتابة وإخراج أعماله المسرحية، ومن هناك إنطلقت شهرته العالمية. أما اليوم، فيعيش في فرنسا. في كندا، بدأ بإخراج بعض النصوص العالمية، ثم كتابة مسرحياته الخاصة التي تتخذ من الحرب الأهلية اللبنانية، والصراع العربي الإسرائيلي مادة وسياقاً لها. كان يعيد توليفها مع عناصر التراجيديا الإغريقية، لينتج تراجيديا معاصرة. من أشهر مسرحياته «ليتورال»(١٩٩٧) التي نقلها بذاته لاحقاً إلى الشاشة الكبيرة عام ٢٠٠٥، و«حرائق» (٢٠٠٣) التي قدمت على خشبات عدة في العالم، وكانت أول عرض يقدم له في بلده لبنان على خشبة «مسرح المدينة» العام الماضي. «حرائق» أيضاً نقلها المخرج الكندي ديني فيلنوف إلى الشاشة الكبيرة (٢٠١٠) وقدمت في «مهرجان البندقية السينمائي»، ثم عرض الفيلم في الصالات اللبنانية. بالإضافة إلى الجوائز التي نالها في كندا، كانت دعوة «مهرجان أفينيون» له كضيف على المهرجان عام ٢٠٠٩، من أهم محطاته المسرحية، حيث عرض أربع مسرحيات تحت عنوان «دمّ الوعود». وإلى جانب تأسيسه فرقاً مسرحية في كندا وفرنسا، فهو أيضاً شريك في مسرح Grand T في نانت، في فرنسا. وهنا تجدر الإشارة إلى أن لوجدي معوض شهرة مسرحيّة عالميّة، لكن لأعماله وقع مختلف على الجمهور اللبناني والعربي، الذي يجد نفسه مع معوض دائماً أمام قصته التي لم يعد يستطيع التعرف إليها، لأنّها قصة تشوبها بعض الأسئلة السياسية.
أما ثلاثية «نساء» التي تضم «أنتيغون» فأحدث عرضها بلبلة واعتراض بعض المسارح على استقباله، ومقاطعة بعض الجمهور له بسبب مشاركة بيرتران كانتا فيه. مغني الروك الفرنسي الشهير الذي أسس مع رفاقه فرقة Noir Desir كان أقدم عام ٢٠٠٣ على ضرب عشيقته الممثلة الفرنسية ماري ترانتينيان إثر شجار بينهما، ما أدى إلى مقتلها بعد أيام في المستشفى. جريمة ضجّ بها الإعلام العالمي، وانتهت بسجن كانتا ٨ سنوات. بعد خروجه من السجن، حاول العودة إلى الغناء إلاّ أنه لم يستطع إحراز نجاح كبير، إلى أن طلب منه وجدي معوض المشاركة في ثلاثيته «نساء» كملحن، وكمؤد لدور الكورس غناءً حيّاً خلال العروض. لكن مع العرض الأول لـ«نساء» في «مهرجان أفينيون»، كانت المشاكل في انتظار كانتا. سارع الممثل الفرنسي جان لوي ترانتينيان والد ماري ترانتينيان إلى الانسحاب من المهرجان لحظة علم أن قاتل ابنته يشارك في عرض وجدي معوض. فما كان من بيرتران كانتا إلاّ أن أعلن إعتذاره عن وجوده شخصياً على الخشبة في أفينيون، واكتفى بالتسجيل الصوتي «لأسباب شخصية، واحتراماً لآلام جان لوي ترانتينيان». ولكن أيضاً في كندا، أُعلن رفض صعود كانتا إلى الخشبة في عرضين في أوتوا ومونتريال.
تلك البلبلة كان معوض يجيب عليها دائماً بأنّه اختار أولاً موسيقى الروك لمرافقة نسائه في التراجيديا. أما التعامل مع بيرتران كانتا فلأنه من أفضل أصوات الروك، و«شخصية تراجيدية بامتياز»، فالجمهور يشاهد على المسرح رجلاً يتأمل الكارثة في حياته الخاصة. لا يخفى على معوّض أن الموقع الذي وضع فيه كانتا في تراجيدياه، الكورس، ليس في موقع يمكن فصله عن تاريخ كانتا. الكورس في التراجيديا الإغريقية ينطق بصوت الضمير والعدل، فكيف لو كان الكورس المرافق لأنتيغون؟
أنتيغون هي ابنة أوديب وجوكاستا التي أصرّت على دفن أخيها بولينيس بعدما تقاتل مع أخيه إيتيوكل، رغماً عن أمر ملك طيبة الجديد كريون، وتحقيقاً للعدالة. بعدما اكتشف أوديب أنه قتل أباه، وتزوج من أمه وأنجب أربعة أولاد: أنتيغون، وإيسمين وبولينيس وإيتيوكل، فقر عينيه، وهج إلى البرّية، لكنه لعن ولديه قبل ذلك. هكذا تقاتل الشقيقان على عرش طيبة، في معركة قتل فيها الاثنان بعضهما. وبما أن خالهما كريون كان داعماً لإيتيوكل ضدّ أخيه بولينيس، فأقام جنازة تليق بالأبطال للأول، وأمر برمي جثة الثاني خارج سور المدينة ومنع دفنها بعدما أصبح هو الملك على طيبة. وتحقيقاً لحقّ بولينيس بأن يدفن، ستعصي أنتيغون أوامر خالها الملك، وتغمر جسد أخيها بالتراب مقيمة مراسيم دفنه وحيدة، قبل أن يعاقبها كريون بالحبس حيث ستنتحر شنقاً، قائلة لخالها «أنا لم أصنع لأعيش مع كراهيتك، لكن مع الذين أحبهم».
في «أنتيغون»، يلعب الكورس دور الاعتدال ومعرفة الذات، لكن الأهم أنه في الفصل الأخير من التراجيديا يصبح الصوت الثاني لكريون، صوت الضمير الذي يدفعه إلى إعادة التفكير في أفعاله وأحكامه وتحقيق العدالة. بذلك، فإنّ اختيار وجدي معوّض منح دور الكورس لبيرتران كانتا ليس مجرد خيار موسيقي، بل يعطي صوت العدالة والضمير إلى «قاتل». وإذا عدنا إلى أعمال معوّض السابقة، نجد نيّة واضحة لدى الكاتب والمخرج اللبناني المقيم في كندا في شقلبة الأدوار والشخصيات والمواقع التي يستوحيها من الحرب الأهلية اللبنانية، والصراع مع إسرائيل. لذا، فوضع كانتا اليوم في موقع كورس أنتيغون ليس بغريب عليه. وكما يقول معوّض في مقدمة موقعه الإلكتروني: «الفنان مثل الخنفساء يأكل من قرف العالم الذي من أجله يقدم الأعمال، ومن ذلك الطعام الحقير يتوصل، أحياناً، إلى إخراج الجمال».
نحن لسنا هنا في صدد الحكم على معوض بسبب اختياره العمل مع بيرتران كانتا، لكنّنا نستعرض سياق العمل ضمن تلك المقالة يصبّ في ترقب شيّق ومثير لعرض «أنتيغون» على خشبة «مهرجانات بيت الدين». ويبقى للجمهور مشاهدة العرض والحكم الأخير على مقاربة معوض لأحدّ أشهر نصوص المسرح العالمي، «أنتيغون» اجتماعياً وإنسانياً والأهم سياسياً، متشوقين لمعرفة ما إذا كانت للحرب الأهلية اللبنانية أم الحرب مع إسرائيل حصّة من عدالة «أنتيغون».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق