ضمّ «جسر نحو فلسطين» العديد من الفنانين الفلسطينيين، أبرزهم ناصر السومي. مَن هو ناصر السومي؟ إنه الفنان الذي قصّ صخرة الروشة ضمن مشروع «كورنيش ١٩٩٩» الذي نظمته «أشكال ألوان»، ضمن تجهيزات ومداخلات فنيّة امتدت حينها على طول الكورنيش من عين المريسة حتى رملة البيضاء. يومها حين عاد ناصر السومي إلى بيروت بعدما كان قد غادرها عام ١٩٨٠، صدمته التغييرات الجذرية التي طالت النسيج العمراني للمدينة ومعالمها الثقافية، فقرر أن تتمحور مداخلته حول اقتلاع صخرة الروشة من مكانها.
أمام صخرة الروشة على الكورنيش، اصطفّ عدد من المهندسين أمام طاولاتهم، وراحوا يدرسون كيفية قص الصخرة، فيما كان فريق آخر يتسلق الصخرة عبر الحبال ويحدد بالتنسيق مع المهندسين علامات من حيث يجب قصهّا. في المقابل، كانت كاميرا المصور الفرنسي جيروم مارتان تصوّر وتوثق تفاعلات أهل بيروت مع خبر اقتلاع الروشة من مكانها. مادةّ حولها السومي إلى فيلم عُرض لاحقاً في معرض في باريس، حيث استعرض رأي وتفاعل أهل بيروت مع التغييرات الجذرية التي طالت مدينتهم.
ناصر السومي (١٩٤٨) فنان فلسطيني، درس الفن التشكيلي في معهد الفنون الجميلة في دمشق (١٩٧١ - ١٩٧٧)، ثم انتقل إلى بيروت قبل أن يتابع دراسته في معهد الفنون الجميلة في باريس (١٩٨٠ ــ ١٩٨٢). يعمل بوسائط لا حدود لها، بين التجهيز والنحت والرسم حتى المسرح والرقص والكتابة. يعتبر ناصر السومي من أوائل الفنانين العرب الذين عملوا في التجهيز الفني، إلاّ إنه اشتهر في تطويع المواد العضوية في صناعة أعماله، واللون النيلي الذي يطغى على معظم أعماله. المثير للاهتمام أنّ الفنان الستيني لا يتباهى بالبعد الفكري لأعماله. يقول لـ«الأخبار»: «كانت أعمالي وما زالت تنطلق من فطرةٍ أو إحساس ما. بعد تنفيذها بل بعد سنوات من عرضها، يتنامى البعد الفكري وراء العمل، فيأتي كإضافة وليس كأساس. هذا ما حصل مع اللون النيلي». عندما استعمل السومي اللون النيلي للمرة الأولى في أعماله، كان خياراً عفوياً نابعاً مما اعتادت عيناه على رؤيته خلال الطفولة في بيت عمّه في فلسطين. لم يكن يعلم حينها عن العلاقة الخاصة بين اللون وفلسطين، الذي يعتبر تاريخياً لون فلسطين الأول نسبة إلى نبات النيلة وحيوان المريق البحري المتوافر في فلسطين الذي يستخرج منه أجود أنواع صبغة النيلي.
تلك العلاقة التي اكتشفها السومي بنى عليها ليتابع تقديم أعمال عدة مصبوغة بتدرج النيلي. في «جسر نحو فلسطين»، نتفقد لوحات جديدة مثل «بحر» و«سماء» و«أرض» ولوحتين يظهر فيهما مسجد الأقصى. في تلك اللوحات، استعان الفنان بمواد عضوية، ملونة بالصبغة الطبيعية. أما ميزتها فهي أنّها مؤلفة من طبقات نافرة من اللوحة توحي بأنها لوحات حيّة ذات تضاريس وإعوجاجات مستوحاة من الطبيعة.
كذلك، يظهر اللون النيلي في تجهيزه «أيقونة ليافا». قدم السومي ذلك التجهيز عام ١٩٩٦ في «دارة الفنون» في عمان، وحاز عنه الجائزة الأولى في «بينالي القاهرة». غرفة علّق على جدرانها صناديق خشبيّة مصبوغة باللون النيلي، وداخلها قنينة زجاجية تحتوي على مياه من بحر يافا، وقشر برتقال، وإلى جانبها نصّ صغير عن يافا كتبه الذين ولدوا وكبروا في المدينة قبل أن يصبحوا اليوم مهجرّين عنها وقاطنين في بلد آخر. إلى جانب كل صندوق، نجد شمعة. أمّا على الأرض أسفل الصناديق، فحاويات مستطيلة ملأها الفنان بالمياه ووضع فيها صبغة النيلة. في بيروت، أضاف إلى الصناديق القديمة أخرى جديدة تحتوي على المواد نفسها، لكن النصوص كتبت هذه المرة بأقلام فلسطينيين من سكان يافا حالياً. من لحظة اقترابك من غرفة التجهيز وعند تجوالك داخلها، تشعر أنك تدخل إلى معبد لمدينة يافا حيث اختار الفنان أن يحتفظ بذكريات أهلها ضمن صناديق. «عندما غادر أهل يافا المدينة، حملوا معهم في صناديقهم حاجاتهم الأساسية للسفر. هنا أعيد تقديم تلك الصناديق، لكنها هذه المرّة محملّة بذكرياتهم، وذكريات المدينة». غالبيّة النصوص والشهادات المرويّة في التجهيز تروي قصص الجمال والمجد في يافا، قصة ماض ولّى، قصة أهل مدينة غرقوا في الذكريات الجميلة ورفضوا رؤية الواقع المرير.
«أيقونة ليافا» كجميع الأيقونات، لوحة لا تظهر سوى الجمال، وربما الخلود، لكن لمن هذه المرة؟ لمدينة يافا. قد لا يقصد السومي بتجهيزه «أيقونة ليافا» إعلان موت المدينة، لكنه فعل، فجميع مَن في الأيقونات أموات، وبعضهم ربما يرتجي قيامته.
في «جسر نحو فلسطين»، يقدم السومي أيضاً تجهيزاً فنيّاً يحمل عنوان من «إلى القدس» مستوحى من وصف الرحابنة للقدس بزهرة المدائن. في التجهيز على الأرض، مرآة كتب عليها من جهة بيروت، ومن جهة أخرى القدس. من المرآة تصعد أداة خشبية بإمكان زائر المعرض تحريكها من نقطة بيروت إلى القدس أو العكس. بتحريكه تلك الأداة، يتحرك فوقها مجسّم صممه السومي معلقاً في الهواء كزهرة، أو غيمة أو سحاب يغمر السماء من بيروت حتى القدس. يتنقل اليوم السومي في إقامته بين بيروت وباريس، ويقول لنا إنّه منكبّ حالياً على إنهاء كتابه الجديد الذي يتمحور حول شخصية المسيح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق