المعرضالاستعادي الذي يحتضنه «مركز بيروت للمعارض»، يشكّل فرصة استثنائية للاطلاع على أعمال المعلّم الإيطالي الذي رسم انعطافات في تاريخ الفنّ المعاصر. مساحة نادرة، لا لتتبع تجربته الممتدة من الستينيات إلى اليوم فحسب، بل أيضاً للظهور في مراياه كجزء من أعمال لا تكتمل من دون الجمهور!
يعدّ مايكل انجلو بيستوليتو (1933) أحد أهم الفنانين العالميين الذين رسموا انعطافات في تاريخ الفنّ المعاصر. هناك ما قبل مرآة بيستوليتو وما بعدها. يقدّم «مركز بيروت للمعارض» (بيال ــ بيروت) مختارات من أعمال الفنان الإيطالي الممتدة من الستينيات حتى اليوم، ضمن معرض استعادي يشكّل فرصة مميزة للاطلاع على أعمال أحد مؤسسي «آرتي بوفرا» (الفن الفقير) عن كثب، وعلى الانعكاس في مراياه.
منذ إنتاجاته الأولى في الخمسينيات، كان بحث بيستوليتو يرتكز على مفهوم التمثيل بدءاً برسم البورتريه الذاتي. تطوّر بحثه وبدأ بخوض مرحلة الانعكاس في المرآة كعنصر أساسي في مفهوم التمثيل. وقبل الخوض في مرايا بيستوليتو، لا بدّ من الإشارة إلى أن أعماله ظهرت في مرحلة خصبة للفنّ المفاهيمي. مرحلة كرّسها مارسيل دوشان في أوائل القرن العشرين عبر عمله «النافورة» (١٩١٧)، وصولاً إلى أعمال لوتشيو فونتانا مقدّماً Cuts أوّل أعماله حول الكانفاس الممزقة بسكين بين ١٩٥٨ و١٩٦٨، وغيرهارد ريختر راسماً البورتريهات عن صور فوتوغرافيّة في أوائل الستينيات. بين فونتانا الذي قدّم الكانفاس، تلك المساحة المنسيّة من اللوحة كموضوع العمل الفنيّ بحدّ ذاته، وريختر الذي ساءل صفة التمثيل بين الصورة الفوتوغرافيّة والبورتريه المرسوم، انصبّ اهتمام بيستوليتو في الستينيات على تحويل موضوع لوحته البورتريه، إلى ما يتخطى المادة والبورتريه المرسوم أي إلى انعكاس الجمهور والمساحة المحيطة باللوحة، داخلها، عبر المرآة.
في المانيفيستو الأول عام ١٩٦٤، يقول بيستوليتو: «ليس الشيء (المرآة) عملاً فنيّاً بحدّ ذاته، إنما الفكرة التي تخصّ ذلك الشيء قد تكون كذلك». يعتبر بيستوليتو أن المرآة لا تشكّل عملاً فنيّاً بمجرد تعليقها على الحائط في الغاليري، بل تتحول عملاً فنياً في اللحظة التي ينظر إليها أحد، فيرى انعكاساً.
بدأ بيستوليتو مشوار الانعكاس عبر رسم لوحات بورتريه ذاتي على خلفيّات ذهبية وفضية ونحاسية، من ثم راح يرسمها على خلفيّة سوداء عاكسة في مجموعة «الحاضر» (١٩٦١). بعدها، قدم مجموعة «لوحات المرايا» عام ١٩٦٢ حيث رسم بطرف ريشته فوق صور فوتوغرافية بمقاس طبيعي ملصقة على مرايا «ستانليس ستيل»، فتظهر في تلك الأعمال شخصيات مرسومة في الجزء الأمامي من اللوحة وانعكاس الجمهور في الجزء الخلفي. نالت لوحات «المرايا» شهرة عالمية وأدخلت بيستوليتو إلى أهم المعارض بين أوروبا وأميركا. لكن الضغط الذي مارسه بائعو اللوحات على الفنان لإنتاجٍ أغزر وللقدوم إلى الولايات المتحدة حيث السوق الفنيّة أضخم، دفع به إلى الانعزال في محترفه في تورينو ليتحرّر من ثقل مراياه، وشهرتها العالمية. من محترفه في تورينو، قدّم مجموعته «أشياء ناقصة» (Minus Objects) الشهيرة عام ١٩٦٦ التي أسست لتيّار «آرتي بوفرا» الذي يلجأ إلى مواد نستعملها في حياتنا اليوميّة. هكذا تألّفت «فينوس الخرق» (١٩٦٧) من تمثال غرانيت لفينوس تدير لنا ظهرها، وأمامها تلّة من الخرق الملوّنة التي كان يستعين بها لمسح مراياه، لتصبح تلك الخرق البالية بألوانها المزركشة أكثر حياةً من التمثال الكلاسيكي بغرانيته البارد.
في تلك الفترة من التجارب، أطلق بيستوليتو أيضاً سياقاً جديداً للعمل تحت عنوان Zoo عبر «مانيفستو التعاون» في «بينالي البندقيّة» (١٩٦٨). سياق دعا فيه مجموعة كبيرة من الفنانين إلى عدم التنافس بل التعاون على خلق أعمال مشتركة. كذلك أنتج كتاب «مئة معرض خلال شهر أكتوبر» الذي قدم فيه مئة فكرة لمئة معرض لتنفّذ خلال شهر واحد، وقد نفّذ بعض تلك الأفكار لاحقاً في معارض مختلفة. في السنوات اللاحقة، عاد بيستوليتو للاختبار في المرايا، منتجاً أعمالاً عدة حتى اليوم. في «مركز بيروت للمعارض» نتابع مساراً مهمّاً من تلك التجربة عبر تطورها الزمني. كذلك صبّ اهتماماً آخر في إنتاج المنحوتات الكبيرة والتماثيل، وصولاً إلى «علامة الفنّ» عام ١٩٩٣ التي يخصص المعرض في بيروت غرفة لها. إنها علامة مؤلفة من مثلثين مستوحيين من شكل جسم الإنسان مفتوح اليدين والأرجل، وقد صنع منها أعمالاً عدّة كأبواب وطاولات وأسرّة... عام ١٩٩٨، أسس مختبر Cittadellarte الناشط حتى اليوم في إلهام وإنتاج تغيرٍ مسؤول في المجتمع بواسطة أفكار وأعمال خلاقة، وطاقم عمل ثابت في المختبر والعديد من الفنانين العالميين المدعوين لإقامات فنيّة دوريّة في المركز. في عام ٢٠٠٠، أطلق بيستوليتو مشروع «مكان للتأمل والصلاة» الذي نجد مثالاً عنه في معرضه الحالي، حيث تجتمع أربعة أديان: البوذيّة، واليهوديّة، والمسيحيّة، والإسلام، في مواجهة المرآة. خارج تلك المساحة، نجد لوحات من مجموعة أخرى متمحورة حول البحر الأبيض المتوسط التي أنتجها عام ٢٠٠٢. هكذا يشكل المعرض فرصة نادرة، لا للإطلاع على أعماله في بيروت فحسب، بل أيضاً للظهور في مراياه كجزء من أعمال لا تكتمل من دون الجمهور الناظر إليها والمنعكس فيها.
«معرض مايكل أنجلو بيستوليتو»: حتى 11 كانون الثاني (يناير) ــ «مركز بيروت للمعارض» (بيال ــ بيروت) ــ للاستعلام: 01/962000
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق