لا تكتمل الاحتفالات بيوم المسرح من دون الاحتفاء بسعد الله ونوس (1941 ــ 1997)، خصوصاً إذا كانت إحدى أجمل وأبلغ مسرحياته تعرض اليوم في بيروت. عرض «الاغتصاب» (ترجمة روبرت مايرز وندى صعب) يعرض للمرة الأولى بالإنكليزية على خشبة «مسرح إروين» في «الجامعة اللبنانية الأميركية» من إخراج سحر عساف، بعدما قدّمه جواد الأسدي للمرة الأولى في «مسرح بيروت» عام ١٩٩٢.
كتب ونوس «الاغتصاب» عام ١٩٨٩ مستوحياً موضوعها من مسرحية للإسباني أنطونيو بويرو باييخو بعنوان «الحياة المزدوجة للطبيب فالمي» (1964). نقل المسرحي السوري الحكاية إلى الضفة الغربية في زمن الانتفاضة الأولى، لتجري الأحداث بين أسرتين: واحدة فلسطينية وأخرى إسرائيلية، بالإضافة إلى الطبيب النفسي منوحين والفرقة العسكرية الإسرائيلية التي ينتمي إليها اسحق. اللافت أن ونوس حذّر بشدة في مقدمته للمسرحية من تقديم شخصياتها، بخاصة الإسرائيلية بشكل هزلي، وهذا ما نجح فيه القائمون على العمل. بعدما شارك اسحق (سني عبد الباقي) مع زملائه في اغتصاب أسير فلسطيني، يصاب بالعجز الجنسي، ما سيقوده إلى استشارة الطبيب النفسي منوحين (بشارة عطا الله). الطبيب المناهض للصهيونية، سيشخص الحالة بأنها قصاص ذاتي يمارسه اسحق على جسده في لا وعيه. في مكان ما، هو يعلم أن فعله كان إجرامياً رغم رفضه الاعتراف بذلك علناً. حالة الاغتصاب تلك ستجرّ حالات اغتصاب أخرى يمارسها الإسرائيليون على الفلسطينيين، كما ضمن بعضهم، كي تتطور الأمور حتى انفجار اسحق في وجه أمّه سارة (مي أوجدن سميث) ورئيسه العسكري مائير (مارسيل بوشقرا). لا جدوى من طرح تفاصيل الحدوتة هنا، ففي ذلك ظلم لنص ذكي جداً حبكه ونّوس كمن يحيك مسرحية على النول. عقدة في قلب المجتمع الإسرائيلي وعقدة أخرى في قلب المجتمع الفلسطيني، وكما في الحياكة لا تكتمل الرواية إلا ذهاباً وإياباً. لذلك، اختارت سحر عساف تقديم العرض ضمن مساحة واحدة يتبدّل فيها المنزل الفلسطيني بالإسرائيلي.
ووسط المجتمعين، عربة طفل وحيدة تارة تحتضن «وعد» الفلسطيني، وطوراً «دافيد» الإسرائيلي، فيما يبقى الدكتور منوحين من مكتبه المشرف في طبقة ثانية من السينوغرافيا، الوحيد القادر على رؤية صورة أوضح لما يجري في الأسفل، في الحضيض. سينوغرافيا (غيدا حشيشو) ناجحة جداً في ترجمة مساحات النص وإضفاء جوّ قاتم وبارد موظفاً في الرؤية الإخراجية، أكان عبر الإضاءة بالنيون أم عبر اختيار المواد المعدنية والألوان. كذلك، أتت الأزياء (بشار عساف) مكمّلة للخيارات السينوغرافية. أما اعتماد الإخراج الكلاسيكي الذي يولي النص والممثل (الستانيسلافسكي) المساحة الأكبر على الخشبة، فكان أيضاً خياراً موفقاً. النصّ بتعقيداته ما كان ليحمل مساحة لأسلبة التمثيل أو لإضفاء عناصر درامية من خارجه. بل إن واقعيّة التمثيل ــ ضمن محاولة ونوّس مقاربة الصراع العربي ـ الإسرائيلي من زاوية مختلفة ــ كانت ضرورية لمنح تلك المقاربة واقعية طرحها ومساحتها. استطاع الممثلون تقديم عرض متماسك وجذاب لمدة ساعة و45 دقيقة رغم تفاوت الأداء بين المحترفين والهواة. وإن تميّز بشارة عطا الله ومارسيل بوشقرا في تمكنهما من شخصيتيهما، إلا أن ميّ أوجدن سميث قدمت أداءً لافتاً لشخصية معقدّة مثل دور الأم الإسرائيلية «سارة». استطاعت أن تترجم حقد تلك المرأة وتشبثها بالإيديولوجيا الصهيونيّة الذي يتخطى حبها لأفراد عائلتها، من دون أن تقدّم شخصية كاريكاتورية مؤبلسة.أما أهمية «الاغتصاب»، فتتجلى في مشهد يقحمه ونوس في أواخر العرض عن حوار يجري بينه (المثقف العربي) وبين الدكتور منوحين (المناهض للصهيونية). تغريبة بريختية في أواخر العرض، يسائل فيها ونوس هدف المسرحية، وذلك البحث عن الأمل في الأفراد، ولو في قلب معسكر العدو. ثم ينهي الحوار في نقد للأنظمة العربية التي اعتمدت المنهج الصهيوني في حكم شعوبها. عبر ذلك المشهد/ الحوار يضيف ونوّس إلى «الاغتصاب» أهميّة فوق تلك التي تكتنفها أحداث المسرحيّة الأساسيّة. إن كانت ”الإغتصاب“ محاولة لرسم علاقات الجلاد بالضحيّة، فقد يتراءى لبعضهم أنّها تراهن على صحوة ضمير لدى العدو. إلا أن ذلك الحوار بين ونّوس ومنوحين يثبّت ذلك الأمل بالفرد الذي لا يتوانى عن نقد ذاته، ومجتمعه، ودولته قبل أن ينقد عدوه. فرد عربيّ يبحث لدى قاتله عن أفراد آخرين يتشاركون معه في البحث عن الحلّ، عن الإنسان. ذلك هو الأمل الذي تركه لنا سعد ونّوس، وحكمنا به.
* «الاغتصاب»: حتى يوم غد ــ «مسرح إروين» (الجامعة اللبنانية الأميركية – بيروت) ــ للاستعلام: 71/260218 ـ البطاقات في مكتبة «أنطوان»
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق