رغم الظروف التي يشهدها لبنان والمنطقة، أصرّ الكوريغراف البلجيكي المغربي على تقديم «هدية وصلاة» إلينا كما قال. ها هو يقدّم عرضه الليلة ضمن فعاليات «مهرجانات بعلبك». وقفة مع شريكته في العمل الفنانة فاديا طنب الحاج.
التقت فاديا طنب الحاج بالكوريغراف سيدي العربي الشرقاوي عبر صديق مشترك. تقول فاديا لـ«الأخبار»: «عندها، لم أكن أفقه شيئاً من الرقص المعاصر. لكن اليوم، أصبحت من أشدّ المعجبين بذلك الفن، وبأعمال العربي». كان ذلك الصديق المشترك مقتنعاً بأنّ تعاوناً ما سيحصل بين صوت الحاج والكوريغراف الذي كانت شهرته قد بدأت تسطع. هكذا أرسل هذا الصديق بعض أعمال الحاج إلى الشرقاوي، فأُعجب جداً بصوتها، وكان اللقاء في باريس، فيما لم يبصر التعاون الأول النور إلا بعد سنتين: في عام ٢٠٠٧، قدّم الفنان البلجيكي المغربي تجهيزاً فنياً على شكل بيت مؤلف من شاشات عُرض عليها فيديو رقص رافقتها غناءً فاديا طنب الحاج. حمل العمل عنوان La Zon-Mai. تصف الحاج التعاون الأول بالأمثل لأنّه فتح مجالاً لاختبار تجانس صوتها ونوع الإنشاد والمغنى اللذين تقدّمهما مع العمل الكوريغرافي للشرقاوي، من دون أن تكون شخصياً موجودة في العمل، بل عبر التسجيل الصوتي. لكنّ المسألة لن تقف هنا. ذلك أنّ الشرقاوي الذي اشتهر بإشراك الموسيقيين والمغنين كعنصر حيّ وفاعل مع الراقصين على المسرح، سيقترح على الحاج المشاركة في «أوريجين» (٢٠٠٨)، ثم في «بابل» (٢٠١٠)، وصولاً إلى عرض Puz/zle (٢٠١٢) الذي يقدم الليلة ضمن «مهرجانات بعلبك الدولية».
عن علاقتها الشخصية بالشرقاوي، تصفها الحاج بأنّهما أصبحا من أعزّ الأصدقاء؛ فهي «لم تعمل يوماً مع فنان بذلك الإحساس والرقة والاحترام والروحانية». في بادئ الأمر، وخوفاً من اضطرارها إلى الغياب عن أسرتها لفترات طويلة خلال التمارين والعروض التي تجول عادة على بلدان عديدة، حاولت تأجيل التعاون عبر فرض شروطها مثل غياب العري في الكوريغرافيا، والأخذ في الاعتبار «حشمة» الإنشاد الديني حين يوظَّف في العروض، لكنّ اللافت أنّ الشرقاوي قبِل بتنفيذ جميع طلباتها، مستعجلاً التعاون بينهما. بعد تعاونهما في مشاريع عدة، أصبحت الحاج تجد في تجربتها تلك غنى كبيراً يسعدها، فلم تتوانَ عن تطويرها، وخصوصاً أنّها تعلّمت الكثير في هذه المغامرة. تقول لـ«الأخبار»: «في الغناء الكلاسيكي عادةً، يتبع الموسيقيّ، مثل عازف البيانو، نفَس المغني. أما هنا، فقد تعلّمت كيف أتبع نفَس الراقصين، وتحرُّك أجسادهم إلى جانبي على المسرح، ما يؤثر على الارتجالات التي أجريها خلال العروض». منذ البداية، اختارت الحاج ألّا تكون مجرد منشدة تقف في زاوية المسرح، بل أن تكون في صلب العروض التي تشارك فيها، وأن تتفاعل مع الراقصين. عند بدء إعداد عرض «بازل»، اختلت الحاج مع فرقة A Filetta الكورسيكية والشرقاوي لمدة أسبوع، حيث عملوا على الموسيقى والمغنى. تجربة فريدة أشرف عليها هذا الكوريغراف الذي يعدّ من أبرز وجوه الجيل الجديد في الرقص المعاصر، من خلال تقديم الاقتراحات ودعوة فاديا للارتجال على الألحان الكورسيكية تارةً، والطلب من A Filetta أداء إيصون خاص لإنشاد فاديا البيزنطي طوراً. (الإيصون في الموسيقى البيزنطية هو الخلفية النغمية التي ترافق الكلمات المرتلة بإصدار طبقة القرار في اللحن). تؤكد الحاج أنّ للشرقاوي أذناً موسيقية مدهشة، حتى إنه كاد يكون موسيقياً محترفاً لو لم يختر الرقص، وأنّه يتعلم عزف الآلات الموسيقية بسرعة مدهشة. تجده مخرجاً بارعاً يبدع في خلق عروض يتكامل فيها الرقص مع الموسيقى كعنصرين حيّين على المسرح. حتى إنها تزوّده دوماً بترجمة مختاراتها الإنشادية باللغة العربية كي يستوحي منها. هكذا مثلاً في ترنيمة «إنّ البرايا بأسرها» (طقس بيزنطي)، يتجمّع الراقصون على الخشبة بخشوع. عبر حركات بسيطة بالأيدي، يمجّدون الخالق، فيما تعبُر الحاج المسرح منشدةً ترتيلة تُعَدّ من أروع ما لحّنَ المرتّل الأول في الكرسي الإنطاكي متري المر، وقد نظم كلماتها القديس يوحنا الدمشقي.
وفي سؤالنا عن حملة الاعتراض التي طاولت استخدام التراتيل في عرض «بازل»، أبدت فاديا طنب الحاج حزنها على انشغال البعض بمنع من يرتّلون في عروض فنية راقية بدلاً من ملاحقة مَن يقتلون ويفجّرون في البلد. على أي حال، مرّت العاصفة بهدوء، ولن يخضع العرض لأي تعديل وفق ما علمت «الأخبار». وهنا لا بد من الإشارة إلى أنّه لطالما لجأ الرقص المعاصر إلى استخدام مؤلفات موسيقية لباخ وموزار أُنجزت خصوصاً للكنيسة وحملت عناوين مثل «آلام المسيح». أما استعمال تلك المؤلفات التي أصبحت ملكاً للتراث الموسيقي العالمي، فهو تقدير لعظمتها وقيمتها الفنية. يذكر هنا أنّ القائمين على المهرجان أكّدوا لنا أنّ المطران جورج خضر سيكون حاضراً في الصفوف الأمامية، مباركاً لابنة أخته الفنانة فاديا طنب الحاج على المسرح.
يُعَدّ الشرقاوي من أهم الكوريغراف في الرقص المعاصر على الساحة العالمية. في عرضه «بازل»، يستخدم الفنان اللعبة المعروفة لمنحها بعداً آخر: في وقت تنجح فيه بعض العلاقات في تأليف وحدة متجانسة ومتكاملة، تفشل محاولات أخرى. هكذا، تتمدّد وتصطدم العلاقات البشرية في هذا البازل الكبير الفكري والعاطفي وحتى الجسدي. في رسالة بعثها الكوريغراف إلى فاديا طنب الحاج قبل أيام، أكّد لها أنّه رغم كل المخاطر الحاصلة في لبنان، إلا أنّ الفرقة مصرّة على القدوم وتقديم العرض كهدية وصلاة. إنّها لفرصة مميزة بأن يقدم «بازل» هنا، وخصوصاً في ظلّ الظروف التي نعيشها، فلنستمتع جميعنا بفسحة خلق وجمال. أما بالنسبة إلى الشق الموسيقي، فيعمد الشرقاوي إلى مزج أنواع وأنماط موسيقية عدة في عروضه. في «بازل»، يتعاون مرة جديدة مع A filetta و«كازوناري أبي» إضافة إلى تعاونه مع الفنانة اللبنانية فاديا طنب الحاج. كما تتنوع الموسيقى الحية بين الإنشاد الديني الإسلامي والمسيحي، فتؤدي الحاج «إن البرايا» من الطقس البيزنطي، إلى جانب فرقة «أفيلياتا» التي تؤدي الموسيقى التقليدية الكورسيكية ضمن قالب معاصر.
العلاقة مع الطبيعة
حلّ Puz/zle على عدد كبير من المسارح والمهرجانات العالمية، محققاً إقبالاً واسعاً، وحاصداً جوائز عدة. وعندما قدّم للمرّة الأولى في «مهرجان أفينيون» العام الماضي مع 11 راقصاً، زار سيدي العربي الشرقاوي فضاء العرض في «لا كاريار دو بولبون» في أفينيون. هذا الفضاء يشكّل مساحة خلاء محاطة بالصخور. حينها، أدرك أنّه لا بد من أن يتمحور العرض حول الحجر/ الصخر كعنصر أساسي في العمل. هكذا وضع الكوريغراف البلجيكي المغربي على المسرح مكعبات ضخمة باللون الحجري، يدحرجها ويقلّبها الراقصون ويتنقّلون داخلها وبينها، لتصبح حركة السينوغرافيا جزءاً لا يتجزأ من كوريغرافيا «بازل». ومن خلال هذا الحوار وتفاعل حركة الراقصين مع الحجر، يبحث الكوريغراف عن علاقة عضوية مع الطبيعة.