في «جولة في تراثنا»، قدّم 20 فناناً شاباً أعمالاً ارتكزت على إرث روّاد المحترف اللبناني. مع ذلك، جاءت المشاريع أضعف من النموذج الأصلي، باستثناء رائد ياسين وروي سماحة وعمر فاخوري وناتالي حرب ومازن كرباج. طلبت القائمتان على معرض «جولة في تراثنا»، جانين معماري وماري طنب، من 20 فناناً معاصراً أن يبتكروا أعمالاً بهدف استكشاف جوانب التشكيل اللبناني المعاصر من خلال الإرث الفني لوجوه ولدت قبل 1930. هكذا اختار الفنانون المعاصرون الارتكاز على لحظة أو سيرة فنية كاملة من تاريخ المحترف اللبناني. لكنّ معظم الأعمال المقدَّمة بقيت أضعف من المقاربة النظرية للنصوص المرفقة بها، وأضعف بكثير من النموذج الأصلي. فيما تميّزت أعمال قليلة بعناصرها الذاتيّة.
يقدّم رائد ياسين عرضاً أدائياً بعنوان «البورتريه الذاتي الأخير» (قيد التشكّل). يستند العمل إلى البورتريه الذاتي الأخير الذي رسمه الفنان خليل صليبي قبل أن يقتل عام 1928 إثر إشكال بين أهالي قريته. هكذا دعا ياسين رسامين يافعين يومياً إلى المعرض، طالباً منهم أن يعيدوا رسم البورتريه بدقة. في البورتريه، ينظر صليبي إلى الناظر إليه، كأنّنا به ينظر إلى جيل اليوم من الرسامين الذين ينظرون بدورهم إلى الماضي في محاولة لإعادة رسمه. بعد مرور أيّام على المعرض، تكدّس عدد كبير من اللوحات تحت اللوحة الأصلية. وقد أصبح الرسامون الشباب هم العمل بذاته، وخصوصاً وهم يرسمون أمام أعين الزائرين ضمن المكعّب الأبيض. كما يحمل سيزيف صخرته كل يوم إلى أعلى الجبل قبل أن تتدحرج من جديد، يواصل الرسامون رسم بورتريه صليبي. تلك الحلقة الإغريقية المفرغة، لا تتمثل في العمل المتكرر فحسب، بل أيضاً في الهرب من لحظة الموت المباغتة التي خطفت صليبي شاباً. كأن رائد ياسين يقدم تعويذة الخلود في هذا التكرار.
أما روي سماحة وعمر فاخوري فيقدمان شريط «تجسّد طائر من لوحة زيتية». انطلق الفنانان من قصة متداولة من روايات الدكتور داهش عن طائر ترك لوحة للفنانة ماري حداد (1889 ـــ 1973)، ليعيش في قفص لسنوات. في الفيديو، نتابع انتقال الطائر من اللوحة إلى قفص موضوع على طاولة يتناول الحاضرون الطعام حولها. في آخر الشريط، تدخل امرأة الغرفة، تمشي على الطاولة، تتناول القفص، ثم تتوجه إلى زاوية الغرفة. ينظر الجميع إليها، فيما يحاولون لمسها، ثم يتبعونها ويصطفون حولها مشكّلين لوحة يتوسطها العصفور في القفص. لا شك في أنّ تلك القصّة البسيطة تحمل جماليّة عالية، لكن ما يميّز الثنائي هو قدرتهما على تحويل الفيديو إلى لوحة متحركة. كل لقطة جسّدت لوحة زيتية معاصرة قائمة بذاتها. اختار الفنانان استبدال لعبة الضوء في اللوحات الزيتية بتقنية التركيز (Focus) في الصورة، مستخدمين نقطة تركيز واحدة مكثّفة في كل صورة، لتصبح كل التفاصيل المحيطة بها خارج حقل التركيز. هكذا تتحول تلك التفاصيل إلى عناصر دقيقة ونافرة، كما هي حال العناصر الأساسية في اللوحات الزيتية. ما خلق جمالية هذا العمل هو حركة الكاميرا البطيئة، والخلفية البيضاء للغرفة، وانعدام الكلام في ظل حركة دائمة لشخصيّات الفيديو.
تلك الخاصيّة نجدها ولو بشكل مختلف في التجهيز الفني «الأم والأب والفنان والحبيب» لناتالي حرب. هنا، استندت حرب إلى لوحات هيلين الخال (1933 ــ 2009) التي تتحول فيها الأجساد إلى طبيعة ومساحة وجسد آخر. داخل غرفة صغيرة، أسقطت حرب ثلاثة فيديوهات على ثلاثة كانفاس بحجم الحائط. يظهر الفيديو الأوّل رجلاً، والثاني امرأة، فيما يظهر الثالث إنساناً. ومن خلال عملية توليف، تخرج النيران من رقبة الرجل، وتحلق طائرة على بطن المرأة. أما على ظهر الجسد، فتظهر مشاهد طبيعية وطرقات. عبر نوع الإضاءة المعتمد في التصوير، وحركة الأجساد الشديدة البطء، والظلام المحيط بالشخصيات، تتراءى هذه الأخيرة كأنها بورتريهات مرسومة على الكانفاس. وقبالة الباب الذي يدخل منه المتفرّج، تركت حرب منصّة غاب عنها الفيديو بروجيكتور، لتجعل من جسد هذا المتفرّج الشخصية الرابعة المفقودة. هكذا تتلاشى الحدود بين الرسم والفيديو، ليصبح الثابت الوحيد في تجهيز حرب هو تفاعل المشاهد مع اللوحة.
في قطعته «المقدّس والمدنّس»، استعاد مازن كرباج منحوتة «وجه مريم العذراء» لإسبرانس غريّب (1923 ــ 2008) لم تعرض قطّ. وأعاد تصنيع 7 نسخ منها، ووضّبها في علب صمّمت بشكل تجاري من حيث طريقة تقديم المعلومات المكتوبة عليها. بذلك، يقارب كرباج تحوّل الأعمال الفنية إلى سلع تجارية. من خلال تكرار هذا التصنيع، يعيدنا إلى التماثيل الدينية المصنّعة بكميات هائلة كأي سلعة أخرى، التي تستعيد قيمتها الدينية والمعنوية في بيوت المؤمنين. مسار لا يبتعد عن طريقة التعامل مع اللوحات ضمن السوق الفنية المعاصرة اليوم. وليست مصادفة أن تكون المنحوتة «قضيبية» (Phallique) وموضّبة بالطريقة التي توضّب فيها الألعاب الجنسية (sex toys). هكذا، يمرّ كرباج على الفن والسلعة والدين والجنس، ليخرج عمله بصيغة تجمع المقدّس والمدنّس. ما يميّز هذه الأعمال الأربعة هو أنها لا تتطلب من المشاهد إلماماً معمّقاً بالأعمال التي استندت إليها، ولا تبني قيمة وجودها على علاقتها بالماضي فقط، بل انطلقت من محطة محددة في الماضي لتقدم عملاً فنياً متكاملاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق