أغنية ملتزمة بالقضايا السياسية والاجتماعية المعاصرة لا تخشى انتقاد السلطة بجميع أشكالها ضمن قالب موسيقي متقن وحديث. الفرقة اللبنانية تواصل مفاجآتها.
نعم أغنية «مولد سيدي البغدادي» نالت من التصفيق والإعجاب الكثير. لكن في جعبة فرقة «الراحل الكبير» أكثر من ذلك. منذ أن أبصرت النور العام الماضي، تعيد الفرقة إلينا الأمل في الإنتاج الموسيقي اللبناني. نحن ننتمي إلى جيل تربى على الإنتاج المصري الغني، من سيّد درويش وزكريا أحمد والشيخ إمام وصولاً إلى أم كلثوم ومَن جمعت حولها من كتّاب وموسيقيين، خلقوا تراثاً موسيقياً خالداً.
وخلال السبعينيات والثمانينيات، كانت حقبة الأغنية الملتزمة، وبرزت إنتاجات فنيّة موجّهة للقضية الفلسطينية، ومناهضة للحرب الأهلية في لبنان من توقيع فنانين أمثال زياد الرحباني وسامي حوّاط وخالد الهبر وأحمد قعبور ومرسيل خليفة... علماً أن تلك الحقبة عرفت أيضاً التأسيس لأسوأ أنواع الموسيقى التي عرفت بالبوب اللبناني مع أمثال سامي كلارك. ثمّ حطّت التسعينيات بثقلها السطحي علينا، وأنتجت ما أنتجته في ظل متابعة بعض الجيل القديم تقديم مادة موسيقية وغنائية قيمة، خصوصاً تعاون زياد الرحباني مع والدته فيروز. وبعيداً من أغنيات البوب التي لُحِّن معظمها على مقام النهوند (علماً أنه مقام غنيّ، لكن استعماله أتى في محدودية هابطة) برزت بعض التجارب التي لا يمكن إنكارها مثل «فرقة الشحادين» وبعض الفنانات الصولو اللواتي استعدن أغنيات من التراث الشرقي، وقدمن أغنيات جديدة، لتبقى تجربة ريما خشيش الأنجح بينهن، بالإضافة إلى التجربة الملتزمة بالكلاسيكي لمصطفى سعيد.
من جهة أخرى، وعلى صعيد الإنتاج اللبناني غير الشرقي، برزت فرقة «الصابون يقتل» مع زيد وياسمين حمدان. تجربة تلقفها الجمهور اللبناني بحماسة كبيرة، واستطاعت أن تقدم إنتاجاً موسيقيّاً فريداً وحديثاً، لكنها للأسف لم تستمرّ طويلاً. أما خلال الفترة الأخيرة، فلم نشهد على الساحة طرحاً جديداً يمكن التوقف عنده والاستبشار به خيراً، إلى أن ظهرت «الراحل الكبير». ما زالت الفرقة في أول المشوار، وربما نلقي عليها حملاً ثقيلاً ومسؤولية كبيرة. لكن حتى اليوم وعبر حفلاتها الأولى العام الماضي، ثم الريبرتوار الجديد هذا العام، استطاعت أن تبرهن أنها تقدم مقاربة وإنتاجاً موسيقياً مثيراً للاهتمام.
منذ ولادتها، أعلنت الفرقة موت «الراحل الكبير». موت جميع من ذكرناهم سابقاً. موت يتيح استعادة أعمالهم لتقدم في قوالب وتوزيعات جديدة، لا تلجأ إلى مزج غير عضوي بين الجاز والرومبا والسالسا مع الموسيقى الشرقية، لا بل تبحث من قلب العناصر الموسيقية الشرقية عن طروحات جديدة. قد تكون استعادات لأغنيات مثل «سايس حصانك» وموشح «لما بدى يتثنى» خير مثال على ذلك، لا بل إنّها من أجمل الاستعادات للأغنيتين. من جهة أخرى، نجد القدرة على التأليف الموسيقي الجميل كما في موسيقى «نحاس عتيق»، أو في أغنية «كلّ يوم منذ الأزل». مؤسس الفرقة خالد صبيح هو الذي يلحن معظم أغنيات الفرقة، فيما يتوزع الأداء بين نمط البطانة الشرقية والكورال الذي يشارك فيه جميع الموسيقيين (عماد حشيشو على العود، وعبد قبيسي على البزق، وعلي الحوت على الإيقاع) والغناء المنفرد المميز لساندي شمعون ونعيم الأسمر. أداء يمزج بإتقان بين الطرب وخفّة المونولوجيست. أما النقطة الأهمّ التي تطرحها فرقة «الراحل الكبير» فتتجلى في إجابتها على سؤال: عن أيّ أغنية نبحث اليوم؟
افتتحت الفرقة حفلتها الأخيرة في «مترو المدينة» بأغنية الشيخ إمام «وهبت عمري للأمل (ولا جاشي)» إعلاناً صريحاً بمحكومية الأمل الونوسيّة التي نعيشها اليوم في العالم العربي. بعد الترحيب بضيوف «الراحل الكبير»، توالت الأغنيات التي تطاول أمور الحبّ (أنا أكتر واحد)، ثم تعداد أيام الجمعة في أغنية «الأربعاء» الساخرة بكلماتها الهزليّة ولحنها الأبلغ من كل ما أنتجته ظاهرة سيمون أسمر وإخوانه، إلى أن وصلنا إلى النقد السياسي. لم تقتصر الحفلة على أغنية تتهكم على الخليفة البغدادي، والإجرام الداعشي، لكنها أيضاً طاولت الانتصارات المزعومة في العالم العربي: «كل اليوم نازل غضب الله علينا. بكرا حتنزل، بردو عليك، زيّ ما نازلة البلاوي علينا». كذلك، تهكمت الأغنية على تعاطي الوسائل الإعلامية، وماكينات البروباغاندا السياسية مع التفجيرات التي لا تطاول شخصيات مهمة «وتفجرّت. ولكن بفضله لم يمت أحد مهمّ». وفي التفجير أيضاً أغنية هي عنوان السهرة «لا بومب». تستعير الأخيرة من لياقة اللغة الفرنسية استئذاناً لذرع قنبلة، «يا مدام» لتنهي الحفلة بأغنيّة «قمت طلعت مع الناس، الناس المكسورين الراس». البداية مع وهب العمر للأمل، والنهاية مع الناس والشارع والثورة التي ستعود حتماً لتثور بإسم الناس وإن سرقت وزيّفت وكفرّت بالإنسانيّة اليوم. تلك هي الأغنية التي نبحث عنها، أغنية ملتزمة بالقضايا السياسية والاجتماعية المعاصرة التي لا تخشى أن تنتقد السلطة بجميع أشكالها ضمن قالب موسيقي جميل ومتقن وحديث، لا يخلو من التهكم وزرع الفرحة على شفاه المستمعين. أنتم الآسفون على موت «الراحل الكبير»، ونحن الفرحون بولادة فرقة جديدة تعد بالكثير.
«لا بومب» لفرقة «الراحل الكبير»: 21:30 مساء 23 و 30 أيلول (سبتمبر) ــــ «مترو المدينة» (الحمرا ـ بيروت) للاستعلام: 76/309363
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق