«عتبات 2013»: عن الحياة والموت والكوارث الآتية

ياسمين عيد الصباغ وروزين كيري «حياة ممكنة ومتخيّلة» (٢٠١٢، صورة من تجهيز)
ككل عام، تنوّعت الأعمال في المعرض السنوي الذي يقيمه «مركز بيروت للفن». لعل أقواها تلك التي قدّمها وائل قديح، وشيرين أبو شقرا، ومهى قيس، ورندا ميرزا، وياسمين عيد الصباغ وروزين كيري. تجارب تلجأ إلى وسائط وأشكال مختلفة لتقارب الموت والمرض والحرب وقضايا أخرى راهنة.

في دورته الخامسة في «مركز بيروت للفن»، يقدّم «عتبات» أعمالاً معاصرة لفنانين لبنانيين أو يقيمون في لبنان. من أبرز هذه الأعمال «حياة ممكنة ومتخيلة» لياسمين عيد الصباغ وروزين كيري. تجهيز يسرد قصة جوسلين، وفريدا، وستيلا وغرازييلا، أربع نساء قويات ومشاكسات، أخوات من جنسية فلسطينية لبنانية عشن خلال القرن العشرين، ونفيت كل واحدة إلى مكان مختلف: بيروت، القاهرة، باريس ونيويورك. داخل غرفة مظلمة، ألقي الضوء على صور علِّقت ضمن إطارات صغيرة و«فينتيج» على الحائط. في العمق، نرى آلتين لشرائح الصور تلقيان على الحائط القريب أمامهما صوراً نستنتج أنها تعود إلى النسوة الأربع في صباهن. أما الشريط الصوتي، فيتوزّع على مكبرات الصوت الأربعة في الغرفة، ويتخلله سرد لحيوات النساء بصوتهن، مع بعض المقاطع الموسيقية. يتميز «حياة ممكنة ومتخيلة» بأنه يخلق عالماً سردياً توزعت عناصره داخل غرفة العرض لتعود وتترابط في خيال المشاهد على طريقته. صور جامدة وأخرى متحركة وشريط صوتي... عناصر ثلاثة مفصولة بعضها عن بعض، لكنها تلتقي عند المشاهد/ المستمع. لعل «حياة ممكنة ومتخيلة» أفضل ما يطرح تلك العلاقة المتساوية بين الصوت والصورة في الأعمال الفنية. القصة السردية المرتكزة على الوقائع والممزوجة بالخيال تلقى صداها في زواية الغرفة، وتتخذ أشكالاً عدة من الصورة الثابتة إلى المتحركة فالصوت، حتى فضاء الغرفة المظلم يتحول إلى عوالم تسكنه قصص الشخصيات الأربع. في أحد الحوارات، تقول إحدى النساء الأربع وهي تنظر إلى صورة فوتوغرافية: «لا لم أكن في ذلك العرس، ولا حتى أبي ولا أختي. تلك ليست ذكريات. إنه توليف». تلك الجملة تختصر عمل ياسمين عيد الصباغ وروزين كيري. صحيح أنّهما لجأتا إلى أرشيف وقصص قديمة، لكن عبر هذا الطرح التوليفي. لم تسردا ذكريات، بل خلقتا عوالم جديدة أصبحت ملك المشاهد/ المستمع.
في غرفة ثانية، تعرض رندا ميرزا مجموعة بورتريهات بعنوان «حول الجنس والجندر». في صورها الفوتوغرافية، مزجت ميرزا أجساداً عارية ليكتسب كل بورتريه جسداً جديداً يمتزج فيه الذكر والأنثى. ما يميز عمل الفنانة هو نجاحها في خلق أجساد تفرض ذاتها على المشاهد بحضور يتخطى التحديد التنميطي للمساحة بين الجنس والجندر. تختلط المساحتان هنا. إنّها دعوة لرؤية أجسادنا من معايير مختلفة. سؤال الهوية الجنسية يتخذ أشكالاً وأبعاداً مختلفة. على أحد جدران الغرفة، تركت رندا ثقباً يمكنك أن تختلس منه النظر إلى امرأتين مستلقيتين عاريتين على كنبة في غرفة جلوس.
أما مهى قيس، فتعرض فيديو «كأنها برلين». لقطتان لتفصيل في الشارع، ثم تثبت الكاميرا أمام نافذة، وستارة تتطاير مع الهواء. خيال امرأة يظهر على الستارة، ثم يحاول الاختفاء، لكنه يبقى عالقاً برهة قبل أن ينسحب كلياً. صفارة إنذار تدوّي في أرجاء المدينة. «ما زالت صفارات الإنذار تدوّي في أرجاء مدينة باريس مرة كل شهر عند الظهر لمدة دقيقة ونصف، مطلقةً الصوت نفسه الذي كان يدوّي خلال الحرب العالمية الثانية للتحذير من الخطر». أما المخرجة فتسرد نصاً بصوتها عن رجل ينتظر من يقفل القبر عليه. في فيديو قيس، عناصر قليلة بسيطة تجتمع لتخلق مساحة كارثية. مساحة بليغة في وصف الكارثة من دون ذكرها، ترسم زمن نهاية معلقة لا يحين فيها موعد النهاية.
من جهتها، تحتفي شيرين أبو شقرا بجسدها حيث ظهر السرطان الخبيث، وحيث اكتشفت الحياة والموت وقضت على المرض. عبر تجهيز من شاشتين كبيرتين متقابلتين، وأخرى صغيرة على الجدار الثالث المغطى برقعة قماش شفافة يعرض عليها فيديو رابع، تقدم الفنانة اللبنانية عملها الطقسي «ما لي فتنت بخبثك الفتاك». إنها أشبه بدعوة إلى رحلة في جسدها الذي حولته إلى معبد. تجدها واقفة عارية كتمثال إلهي، تقصّ شعرها بيديها، وتضعه أمامها قرباناً للحياة والموت. فوق فعل التضحية ذاك، يتمايل الفيديو على القماش الشفاف مضيفاً هشاشة على جبروت ازدواجية الموت والحياة.
أما وائل قديح في Lost and Found فيعرض جهاز كومبيوتر عليه مخزون من الحلمات التي أزيلت عن صدور نساء عرضن صورهن عاريات على مواقع التواصل الاجتماعي. بإمكان المشاهد أن يقلب الصفحات على الكومبيوتر ليلج إلى مخزون ضخم من أرشيف الحلمات مع بعض المعلومات مثل العمر والجنس والعنوان. تجهيز يحيلنا إلى مواضيع شائكة شغلت الرأي العام أخيراً مثل تظاهرات النساء العاريات من أجل قضايا سياسية واجتماعية معينة، والسياسات المتبعة من قبل مواقع التواصل الاجتماعي كفايسبوك وخصوصية الصور المنتشرة عليها وملكيتها، بالإضافة إلى مخزون المعلومات عن مستخدمي الإنترنت الذي يُجمع لأغراض استخبارية أو لإعادة طرحه في السوق كسلعة تجارية. مواضيع أثارت وما زالت الكثير من النقاش، يطرحها قديح عبر تجهيزه خارج إطارها النمطي ضمن قالب سريالي قد لا يكون أبداً بعيداً عن الحقيقة.

لجنة التحكيم
اختارت اللجنة التحكيمية في «عتبات» هذا العام 14 فناناً من بين مئة طلب، ما جعل «عتبات 2013» الأكبر دفعة حتى يومنا هذا، وفق «مركز بيروت للفن» الذي يحتضن المعرض. تألفت اللجنة هذه السنة من: غريغوري بوشاكيان، فارس شلبي، طارق أبو الفتوح، رانيا ستيفان وصوت واحد من «مركز بيروت للفن». وككل عام، تنوّعت الأعمال المقدمة في «عتبات» في استخدامها لوسائط وأشكال مختلفة. وكأيّ معرض قائم على دعوة مفتوحة، تأتي النتيجة متفاوتة في النوعية.

«عتبات»: حتى 11 كانون الثاني (يناير) المقبل ـــ «مركز بيروت للفن» ــ للاستعلام: 01/397018

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق