نجح المنتج ”عمر راجح“ وأخفق الكوريغراف


تجدون هنا النسخة الكاملة من مقالتي (عذراً، غير المنقحة) التي نشرت في جريدة الأخبار تحت عنوان : "أجساد عمر راجح على سطح مائل". (تم إختصار المقالة في جريدة الأخبار لأسباب تقنية تتعلق بالمساحة القصوى التي تستوعبها الصفحة الورقية للجريدة)     

قدم عمر راجح عرضه الجديد ”وتدور“ على خشبة مسرح المدينة. ميا حبيس وبسام أبو دياب يرقصان على موسيقى شريف صحناوي الحية فوق منصة مستديرة (ناصر السومي)، لا تدور ولكنها تتحول من الوضعية الأفقية إلى العامودية، فيما تعرض على المنصة رسومات مازن كرباج الحيّة أيضاً.
كان من الممكن التغاضي بعض الشيئ، والتركيز ضمن هذه المقالة على الجوانب الإيجابية للعرض، متخذين بعين الإعتبار الظروف الصعبة للإنتاج الفني في لبنان، وتجارب الرقص المعاصر العربي الفتيّ. ومن شاهد العرض يعلم أن لا مشاكل إنتاجية كبيرة وقفت في وجه تصميم السينوغرافيا الضخمة أو التنفيذ التقني. ثم أننا أمام العرض الثالث عشر للكوريغراف والراقص عمر راجح، والمقدم ضمن النسخة العاشرة من ”مهرجان بيروت للرقص المعاصر“. وإحتراماً للدور الرئيسي والمهم الذي لعبه عمر راجح في تأسيس وتطوير الرقص المعاصر في لبنان، وإحتراماً للجمهور اللبناني، وجب تقديم قرائة نقدية، حتى ولو كانت قاسية بعض الشيئ، ولكن قد تكون ضرورية، خاصة بعد ما قرأناه في الصحف اللبنانية حتى اليوم. صوت مختلف مع الأصوات الباقية يحاول طرح الأسئلة، أليست تلك مهمة النقّاد في تلك العلاقة التي تربطهم بالفنانين؟
قبل الولوج إلى العرض مباشرة، لا بد من التوقف عند نقطة أثارت إستغرابنا. في النص المقدم للعرض يلجأ عمر راجح إلى توصيف عرضه الخاص بعبارات مثل ”فريد في مفهومه“ و“مبتكر“ و“جريء“. فمن المؤكد أن هكذا توصيفات لا يستعين بها الفنان (الراقص والكوريغراف)، بل المنتج المروج لعرض فنّي بعبارات طنانة تهدف إلى بيع المنتج على أنه فريد من نوعه ومبتكر وجريء. وإن كان المقصود بذلك السينوغرافيا أو المنصة المتحركة، والعمل مع تخصصات فنية مختلفة، وموسيقى ورسم حيّ على المسرح، وإذا ما تناسينا التجارب العالمية وبعضها المحلّي، فإن الفنان وراء العمل بحد ذاته يعلم أنها ليست المرة الأولى التي يفعلها. فمنذ العرض الأول ”بيروت صفرا“ (٢٠٠٢) جمع عمر راجح موسيقيين مع راقصين وممثلين على المسرح. حتى أن الموسيقيين كانوا يومها على الخشبة فوق منصة متحركة، ويؤدون الموسيقى الحيّة خلال العرض. الموسيقى الحيّة والتجريبية شهدناها أيضاً في عرض ”كونشيرتو ١٣“ (٢٠٠٦) مع رامي وبشار خليفة. أما السينوغرافيا المبتكرة فشهدناها في تعاون راجح مع فادي يانيتورك في الحوض المليئ بالماء في ”إستمناء فكري“ (٢٠٠٤)، والمنصات المتحركة في عدد كبير من عروضه منذ ”بيروت صفرا“ مروراً ب ”حرب على البلكون“ (٢٠٠٣) حتى ”كونشيرتو ١٣“ و“إغتيال عمر راجح“ (٢٠١٠) وغيرها، حيث كان أيضاً دائماً نصيباً كبيراً للفيديو وتفاعل الراقصين مع الصورة، مرسومة كانت أم مولّفة. فهل غلبت شخصية المنتج على الفنان في صياغة النص المقدِم لعرض ”وتدور“؟ 
صراحة، لما كنا قد توقفنا عند ذلك التفصيل اللغوي التوصيفي، لو لم نشعر أن تلك العلاقة الشائكة ما بين المنتج والكوريغراف قد إمتد أثرها على العرض. وهنا لا نقصد المنتج المالي للعرض، بل المنتج الفنيّ. فلنحاول قرائة عرض ”وتدور“ من بابين : الإنتاج الفني، والكوريغرافيا، بهدف الوصل إلى مكامن الضعف في العرض. 
من زاوية الإنتاج الفني، نجد قرار خلق عرض حول فكرة المستحيل. يقول عمر راجح في نصه ”أداء يلعب حول فكرة "المستحيل"، الأوضاع الغير المعقوله، اللتي لا تصدق، واللتي نصادف في حياتنا اليومية. كل شيء يتحرك، يتغير، ويتحول من حولنا“. فكرة العرض آنية، تحاكي الحاضر في تحولاته الكبيرة التي نشهدها في لبنان ومن حولنا منذ إندلاع الثورات في العالم العربي، كما تطال مقاومة العيش في ظل ظروف مستحيلة من الحروب والإنفجارات. عرض يحاكينا، ويحاكي واقعنا بإمتياز. من هنا أيضاً نجد التعاون الذكيّ مع الفنان الفلسطيني ناصر السومي الذي إقترح منصة مستديرة تتحرك من الوضعية الأفقية إلى العامودية، من السطح إلى الهاوية، من الطبيعي إلى المستحيل. سينوغرافيا ليست فقط مبهرة في حجمها وحركتها، وإنما والأهم موظفة في خدمة فكرة العرض، وعبر تأمين الإسقاطات الفكرية والمفاهيمية على قصة العرض الدرامية. أما التعاون مع ناصر السومي بحد ذاته فقيمة مضافة إلى العرض. فالسومي يعتبر من أوائل وأهم الفنانين العرب الذين عملوا في النحت والتجهيز الفني، ولطالما كانت علاقة الفرد بالفضاء المحيط به أحد هواجسه الأساسية. ثم أتى التعاون مع شريف صحناوي ومازن كرباج. إن المتابع لمهرجان ”إرتجال“ أو ”بيروت، صوت وصورة“ وأعمال وعروض الفنانين، لا بد أن ألِف مقاربة الفنانين المميزة للصوت والصورة. وهنا نتكلم عن جمهور خاص ومحدود جداً نسبة للجمهور الذي تستقطبه عروض عمر راجح الراقصة. ومن هنا تأتي أهمية ذلك التعاون الثاني ما بين راجح وصحناوي وكرباج. فمن جهة يؤمّن التعاون تقديم مادتي الصوت والصورة بشكل حيّ بدلاً من أن تكون موسيقى مسجلة أو مشاهد مولفّة. ثانياً يستفيد العرض من عنصر الإبهار الذي يؤمنه مقدرة شريف صحناوي، بشكل حيّ على المسرح تحت الضوء، على إصدار أصوات وتأليف جمل موسيقية لا متناهية من جراء اللعب على الغيتار عبر الطريقة التقليدية أو جميع الطرق الأخرى التي يجدها مناسبة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن شريف صحناوي قدم عرضاً موسيقيّاً قيماً جداً، إمتد على مدة ساعة من الوقت، تميّز في تطور تقنياته وتأليفه الموسيقي الذي إعتمد بشكل أساسي على جمل موسيقية ثابتة تخللها بعض من الإرتجال، وأتت متناغمة مع عناصر العرض الأخرى. أما مازن كرباج فلجأ إلى رسم أشكال مجردّة بواسطة الحبر الصيني، التي كانت تنقل حيّة لتعرض على المنصة المستديرة. بالرغم من أننا عرفنا أعمالاً أخرى لكرباج أهم وأبلغ وأجمل، ولكن بعضاً من الغموض والتجريد لا يضرّ بتركيبة عرض تحاكي ”المستحيل“! تلك العناصر بالإضافة إلى التعاون مع مصمم الإضاءة البريطاني ”جوناثين سامويلز“، كانت جميعها موفقة وناجحة. من هنا نؤكد أهميّة الخيارات الإنتاجية الفنية وراء العرض، الذي إستطاع أن يجد موضوعاً مناسباً، توليف تركيبة مميزة من الفنانين وتوظيف طاقاتهم في خدمة الفكرة الأساسية. المادة الإنتاجية كانت جاهزة لتقديم عرضاً مميزاً لولا إخفاق عنصر الكوريغرافيا.     

تثير كوريغرافيا ”وتدور“ الكثير من الأسئلة. إختار عمر راجح أن يقدم العرض مع راقصين محترفيين: ميا حبيس، وبسام أبو دياب. الراقصان فوق المنصة المستديرة، يرقصان أحياناً معلقين في الهواء بواسطة ونش كهربائي، أو مباشرة فوق المنصة المتحولة من الوضعية الأفقية إلى العامودية. تتمحور الكوريغرافيا حول تفاعل الراقصين فيما بينهما ومع المنصة المتحولة بشكل أساسي، بالإضافة إلى الموسيقى والرسومات. 
لكن للأسف وبدلاً من أن نشهد تصميم كوريغرافي يحاكي سياق العرض، وعناصره الخاصة به وموعوقاته، وجدنا أنفسنا أمام إعادة تدوير لكوريغرافيات سابقة، وجمل حركية وراقصة سبق وشاهدناها مراراً في عروض عمر راجح السابقة. تغير كل شيئ من حول الراقصين بشكل جذريّ، ما عدا الكوريغرافيا. ها هو بسام أبو دياب ضمن صولوهاته خلال طوال العرض يعيد تشكيل والتنويع على الصولو الذي قدمه في ”ذلك الجزء من الجنة“ (٢٠١٣): لا يقوى على الوقوف، جسده يرتجف ويتخبط على الأرض ويلوّن جمله الراقصة ببعض حركات الدبّكة. قد تبدو حالة صولوهات ميا حبيس أكثر إبتكاراً، لكنها لم تتوصل إلى خلق لغة جديدة، ويبقى الفارق أن حبيس تتمتع بتقنية ونوعية حركة أدق وأجمل من زميلها.
لطالما لجأ عمر راجح في كوريغرافيا الصولوهات إلى خلق معيقات داخل جسد الراقص، فنراه يرتجف ويتخبط وتتعطل أجزاء من جسده كترجمة لجميع المعوقات التي تحيطنا في حياتنا اليومية والتي تحولت إلى معوقات داخلية، تسيطر على أجسادنا وحركاتها. لكن في ”وتدور“ ألا يجسد العرض تلك الإستحالات والمعوقات عبر السينوغرافيا المتحدية للجاذبية والموسيقى التجريبية والرسم التجريدي، فلما إعادة توكيد إستحالة الرقص (الفعل) عبر التخبط وعدم القدرة على الوقوف؟ 
ألا يطرح العرض تحدي إستحالة العيش ضمن تلك التحولات؟ إذاً لماذا يظهر الراقصان كمن يعاني ويجاهد للوقوف والرقص فوق سطح مائل؟ 
أما المشاهد المبنية على الثنائي الراقص، فإعتمدت تقنية ال ”Danse Contact“، حيث تتوزع الجاذبية ما بين ثلاث نقاط: جسد الراقصين والأرض. وبما أن الأرض في ”وتدور“ متحركة، فكان لا بد من تطويع الكوريغرافيا في تواصل مختلف ما بين أجساد الراقصين والأرض. لكن الأجساد في ”وتدور“ ظهرت في محاولات دراميّة لإلتقاط توازنها والوقوف على الأرض المائلة، في حالات الإلتصاق كما المتباعدة، وعلى المستوى الأفقي في معظم الأحيان  بدلاً من أن يكون على المستوى العامودي حيث يتشكل تحدي جاذبية الأرض محفزاً لإكتشاف لغة جديدة تتفاعل فيها الأجساد فيما بينها ومع السطوح المائلة / المستحيلة. ولماذا ترفع الأجساد في الفضاء عبر الونوش؟ خاصة أن في ذلك تعارضٌ مع دراماتورجيا العرض المبنية على تحدي المستحيل، فتأتي الونوش كيدّ إلهيّة تنتشل الأجساد لقسط من الراحة، فتعلقها في الهواء بعيداً عن الخطر وعن الإستحالة. ومن ناحية الكوريغرافيا، لم يساهم ذلك الرفع في إضافة ما يذكر على العرض. 
شهد الرقص المعاصر مع أمثال الفرنسي ميشال دوكوفليه، والبلجيكي سيدي العربي الشرقاوي وغيرهم من الكوريغراف العالميين، تقديم كوريغرافيا فوق منصات متحركة تتحدى الجاذبية، أو مع راقصين معلقين في الهواء، وليس بذلك بفريد من نوعه أو مبتكر، ولكنهم بذلك قدموا لغة تتحدى تفاعل الأجساد مع الجاذبية.
وإن كان العرض يطرح تحدي المستحيل، فالكوريغرافيا وقعت في إستحالة الرقص. أما إن كان الهدف إظهار إستحالة الرقص، ألم يكن من الأبلغ تصميم كوريغرافيا كلاسيكية فوق السطح الأفقي وإختبار إستحالتها شيئاً فشيئاً، بدلاً من تمثيل إستحالتها عبر إرتجاف وتخبط مصطنع. ذلك التخبط والإستحالة في الرقص، سبب إستحالة تثبيت العرض في نقطة إرتكاز ما، وتوصلّه إلى لغة فنية محددة وواضحة. أصبح كل شيئ معلّق ومتغيّر ومتخبطّ. لدرجة أنه يمكنك الشعور أن أي حركة كان من الممكن إستبدالها بحركة أخرى، أو أن تتموقع في مكان آخر على المنصة. 

في عرض ”وتدور“ لحظات قليلة شهدنها فيها إختبار مختلف للحركة. مثل عندما إستلقت ميا حبيس على أرضية المنصة على ظهرها، ورفعت رجليها في الفضاء. جسد حبيس فوق المنصة نصف مائل ومعلق في فضاء المسرح، أما رجلاها الخارجان عن المنصة فيتحركان ببطئ محركان الفضاء المسرحي من حولهما، ومتحديان ”عبر خدعة بصرية“ جاذبية الأرض، وإستحالة الرقص والوقوف والسير، إستحالة الفعل ضمن هكذا قيود ومعوقات. تلك هي اللحظات القليلة التي إنتصر فيها جسد الراقص على المستحيل.    

هكذا نجح المنتج الفني وراء عرض ”وتدور“ في جمع جميع العناصر التي كان بإمكانها تقديم عرض مميّز، لكن الكوريغراف أخفق هذه المرة.


          

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق