البندقية: خالد ملص منقّباً عن سوريا في السماء



للمرة الأولى، يمثّل الفنان الشاب سوريا بشكل غير رسمي في «معرض العمارة الدولي الرابع عشر» التابع لـ «بينالي البندقية». يقدّم مشروعاً ملفتاً ومفاجئاً بعنوان «تنقيب السماء»، باحثاً في مفاهيم الهيمنة والقمع والحداثة، ومسائلاً دور المعماري في أتون الحرب والدمار.

يوم الثلاثاء الماضي، افتتح المعماري السوري خالد ملص مشروعاً بحثياً عن سوريا يحمل عنوان «تنقيب السماء» في قسم المونديتاليا ضمن «معرض العمارة الدولي الرابع عشر» لـ «بينالي البندقية». لبّى ملص دعوة مدير البينالي المعماري ريم كولهاس لتصميم وتقديم «جناح سوريا» (غير الرسمي) الموقت في الترسانة القديمة (أرسينالي)، تفاعلاً مع تيمة البينالي «استيعاب الحداثة ١٩١٤ ـ ٢٠١٤». هنا وجد ملص نفسه أمام تحديات وأسئلة كبرى: كيف يمثّل سوريا في أشهر بينالي للعمارة؟ كيف يتفاعل مع عصر الحداثة وإنتاجاته المؤثرة بشكل مباشر في الوضع في سوريا اليوم؟ وما الفائدة من تصميم جناح موقت لسوريا؟ تلك الأسئلة قادت المعماري الشاب إلى تقديم مشروع يتحدى فيه البينالي، والحداثة والحرب.
التقينا ملص في بيروت حيث كان منهمكاً بالتحضيرات الأخيرة قبل مغادرته إلى البندقية. يوضح لـ «الأخبار» نقطة انطلاق المشروع: «في ظل ما تمرّ به سوريا اليوم، كان من غير الوارد أن أجمع وأصرف المال والطاقة لتصميم وتنفيذ مشروع موقت عن سوريا في البندقيّة، لذلك اخترت أن أقدم جناحاً نازحاً إلى سوريا كناية عن بئر». يطلق خالد على تلك الخطوة صفة «مبادرة معماريّة تآمريّة». هكذا سخّر التمويل والدعاية المرتبطين بالبينالي لبناء بئر في إحدى القرى السورية بدعم من «مؤسسة بارجيل للفنون» و«مؤسسة كياني»، واكتفى بعرض رسومات عن المشروع وتنظيم ورش عمل ومحاضرات وعروض أفلام في البندقية بالتعاون مع «الهيئة العامة للدفاع المدني» (حركة مؤلفة من ناشطين شباب تعنى بتنظيم مبادرات متعددة لتحسين ظروف العيش في سوريا). عبر التمويل المتوافر للبينالي، بنى ملص بئراً في قرية سورية تعرضت لقصف عنيف من قبل النظام السوري، ما أدى إلى تدمير المصدر الأساسي للمياه وبنيته التحتية. مع حفر البئر في حزيران (يونيو) ٢٠١٤، تمّ توفير مياه الشرب لـ 15 ألف نسمة، واليوم يجرى العمل على حفر بئر في منطقة أخرى.




ليس هناك داعٍ للخوض في الأهمية الجلية لمشروع البئر، أكان من الناحية العملية أم الإنسانية. لكن لنتوقف قليلاً عند أبعاد المشروع الأخرى. عبر تحويل الجناح من جناح موقت إلى جناح نازح، يوجّه ملص نقداً مباشراً لمعارض العمارة الدولية، فهي تصرف مبالغ طائلة كي تستعرض البلدان الكبرى عضلاتها المعمارية عبر تصاميم ستهدم بعد انتهاء البينالي. تصاميم وأجنحة تعيد تكريس ــ عبر ضخامتها وميزانياتها ــ قوة السلطة التي تقف وراءها. أما ملص، فلا سلطة يمثلها، بل على العكس قرر إعادة مبدأ العمارة إلى هدفه الأصلي، أي عملانيته في موقع محدد (سوريا) وفي خدمة البشر الذين يستخدمونه، وتركَ لجناح البينالي عنصريّ العرض والفرجة عبر الرسومات. من جهة أخرى، أعاد الفنان مساءلة دور المعماري خلال الحروب. يقول ملص لـ «الأخبار»: «كمعماري، لست قادراً اليوم وسط الحرب والهدم على المساهمة في تصميم وبناء عمارات جديدة في سوريا، لكن أستطيع أن أؤمن التمويل لحفر البئر وتقديم النصح البسيطة، وترك التصميم والتنفيذ للمواطن/ المعمار». أما بالنسبة إلى التفاعل مع تيمة البينالي «استيعاب الحداثة ١٩١٤ ـ ٢٠١٤»، فاختار ملص التنقيب في السماء... تلك المساحة التي أثبتت الحداثة عبر تطويرها للطائرات أنّ مَن يسيطر عليها، يسيطر على الأرض. واختار ملص التوقف عند أربع محطات في تاريخ سماء سوريا: الطائرات الأولى التي اخترقت السماء السورية عام 1914، والقصف الفرنسي الجوي لدمشق عام 1925، والرحلة الفضائية للمقدم محمد فارس عام 1987، وقصة برميل قُذف من طائرة مروحية وسقط في مرحاض عام 2014.

في الكتيب الذي أنتجه ملص بالاشتراك مع الفنانة اللبنانية جنى طرابلسي وقدّمه مع المشروع، يتوقف المعماري عند تلك المراحل الأربع والنكسات والمآسي التي رافقتها. وإذا لم يكن هناك من مجال للخوض فيها هنا، إلاّ أن العلاقة بين البرميل والبئر والحداثة تبقى الأهم. خلال الحرب الحالية في سوريا، لجأ النظام إلى سلاح أبعد ما يكون عن الحداثة. سلاح يعرف بـ «البرميل». إنها عبارة عن حاويات نفطيّة يملأها الجيش السوري بالمتفجرات، ويضيف إليها نسرات معدنيّة ومواد حارقة، ثم يحلّق بها في طائرات مروحية ويرميها عبر ركلة برجله من السماء، فتسقط على الأرض وتحدث انفجاراً مريعاً. عبر تلك التقنية البدائية، وبعكس الأسلحة المتطورة الحالية، ليس هناك إمكانيّة لتحديد الهدف. إنها براميل عشوائية تحصد ضحايا عشوائية. وإذا كان ممكناً اختصار الحداثة في فعل تطوير الإنسان لمقدرته في السيطرة المتقنة على العمودية الممتدة من سطح الأرض إلى السماء، والعكس صحيح، فإنّ ملص اختار في وجه عموديّة الموت البدائية والعشوائية التي اختارها النظام السوري، عموديّة البئر البدائيّة أيضاً، لكنها على العكس تنطلق من سطح الأرض إلى قعرها. وبدلاً من أن تكون مصدراً للموت، فإنّها أصبحت مصدراً للحياة عبر تأمين المياه.

لا شك في أنّ خالد ملص قدّم خير تمثيل لسوريا في معرض العمارة الإيطالي. من العبثي أن يكون هناك اليوم جناح لسوريا غير «جناح نازح»، وموقعه ليس في البندقية، بل في قلب الأراضي السورية «كي نضيء على أمل كليّ الوجود وسط حطام التجربة الحداثوية». كان عبثياً التفاخر بأثر الحداثة على العمارة السورية، فيما الحاجة اليوم هي لبئر تروي سكان الأرض المحروقة. خالد ملص في أعرق معرض للعمارة، ساءل دور العمارة اليوم في سوريا والعالم، وأعاد إحياء عبارة سعد الله ونوس الشهيرة: «محكومون بالأمل».

«تنقيب السماء»: حتى يوم غد ـــ «معرض العمارة الدولي الرابع عشر» لـ «بينالي البندقية» ـ


عروض سينمائية ومناقشات
في موازاة المشروع البحثي المقدم في «بينالي البندقيّة»، والبئر الثانية قيد الحفر، نظّم خالد ملص في البينالي عرض أفلام وطاولات نقاش. بعد ليلة الافتتاح، قدم عرضاً لفيلم «طوفان في بلاد البعث» للسينمائي الراحل عمر أميرلاي. وفي اليوم الثاني دارت مناقشة حول سوريا، شارك فيها جوش ليونز المتخصص في تحليل الصور الملتقطة من الأقمار الاصطناعيّة، وزيدون الزعبي عضو «الهيئة العامة للدفاع المدني» التي عملت على تنفيذ مشروع البئر، والكاتب والمؤرخ اللبناني فواز طرابلسي. كما قدم عرضاً لفيلم «الليل» لمحمد ملص، و«خطوة خطوة» لأسامة محمد، وأخيراً الفيلم الجديد «الرقيب الخالد» للمخرج السوري الشاب زياد كلثوم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق