«ذاكرة» تيسير البطنيجي من دم... وشقائق نعمان

الفنان المولود في غزة والمقيم اليوم في باريس، يحلّ على العاصمة اللبنانية حاملاً معه «الصابون» و«أبراج المراقبة» و«ذاكرة المياه» وغيرها. في معرضه «الذاكرة دوماً خضراء» الذي تحتضنه «غاليري صفير زملر»، يواصل مساءلة السياق السياسي والاجتماعي والثقافي لبلده. 
يقول الفنان الفلسطيني تيسير البطنيجي (١٩٦٦) إنّه يحاول عبر أعماله أن يسائل السياق السياسي والاجتماعي والثقافي وحقائق بلده، محافظاً على مسافة ضروريّة من الأحداث اليوميّة هناك. اهتمامه يصبّ أولاً في الالتزام الفني، والنظرة الشخصية، والذاتية والشاعرية. لذلك، يبحث عن تقديم أعمال فنية تصبو إلى مقاومة الزمن بدلاً من أن تضمحل مع الحدث أو السياق الذي تثيره. هذا ما نراه جلياً في معرضه «الذاكرة دوماً خضراء» الذي تحتضنه حالياً «غاليري صفير زملر» في بيروت.
في تجهيزه الفنيّ الأدائي «حنّون» (١٩٧٢- ٢٠٠٩)، يفرش البطنيجي على الأرض مئات التسنينات ذات الأطراف الحمراء الناتجة من تسنين أقلام رصاص. اللافت هو التاريخ الذي يعطيه البطنيجي لعمله «حنّون». عام ١٩٧٢، كان الفنان يبلغ ستّ سنوات. لا بدّ من أنه العمر الذي كان فيه يسّن أقلام الرصاص مراراً وتكراراً هرباً من تنفيذ واجباته المدرسيّة خلال عطلة الصيف كما يقول. وعام ٢٠٠٩ هو العام الذي قدّم فيه للمرة الأولى ذاك التجهيز الفنيّ في «بينالي البندقيّة الثالث والخمسين» ضمن جناح خاص مكرّس لفلسطين. كأنّ فعل تسنين أقلام الرصاص لم يتوقف من حينها، منذ أن كان طفلاً يحاول الهرب من إنجاز واجباته الصيفيّة العبثيّة، إلى محاولة هروبه اليوم من إنجاز قراءة مباشرة للأحداث اليوميّة في وطنه.ليس الهروب هنا، جبناً، بل بحث في الفعل المتكرر.
فعل لجأ إليه الفنان في أعمال عدة سابقة. وهنا يحاول عبره أن يبحث عن قراءة بديلة، من مساحة شاعريّة وهشّة معلّقة بين الفعل ونتيجته. تلك الأقلام تمّ تسنينها بهدف الرسم. رسمة لا نراها، بل يكتفي الفنان في إظهار نتائج فعل التسنين من دون الغاية منه. تلك التسنينات تحيلنا أيضاً في شكلها إلى زهرة الحنّون أو شقائق النعمان. زهرة في لبنان تقول أساطيرنا إنّ الأرض أنبتتها بعدما شربت دمّ أدونيس الذي قتله الثور. وفي فلسطين، هي تنبت من دمّ الشهداء. في العمل الأصلي، تظهر على الحائط في آخر الغرفة صورة لمحترف البطنيجي في غزّة الذي كان يستحيل العمل فيه بسبب الظروف، ومن ثمّ أصبح غير قادر على الوصول إليه بعدما فرضت إسرائيل الحصار على غزة منذ عام ٢٠٠٦. اليوم، يقيم الفنان في باريس، ويعمل هناك عن أرض لا يستطيع العمل فيها. 
هكذا يحوّل البطنيجي المساحة الشاعريّة التي يخلقها في تجهيزه «حنّون» إلى غزّة، تلك المساحة الهشّة التي لا نستطيع الوصول إليها، وينبت الأقحوان فوق سطحها مشبّعاً بدماء الشهداء.
في «صفير زملر»، يقدّم البطنيجي تجهيزاً فنيّا مؤلفاً من قطع صابون حُفرت عليها عبارة «دوام الحال من المحال» (٢٠١٤). يطلب الفنان من زوار المعرض أن يأخذوا صابونة من التجهيز كيّ يختفي التجهيز رويداً. الصابون هو أحد الأغراض المرتبطة بشكل أساسي بالذاكرة الجماعية لفلسطين، وظهر في أعمال سابقة للفنان أيضاً، لكنّه يتلاشى هنا كما تتلاشى القرى والمدن والذاكرة.
من الأعمال الأخرى في المعرض، صور فوتوغرافيّة تحمل عنوان «أبراج المراقبة» (٢٠٠٨). في منتصف القرن الماضي، قام الثنائي الألماني المصوّر بيرند وهيلا بيكير بالتقاط صور فوتوغرافيّة لمنشآت صناعيّة بين أوروبا والولايات المتحدة بأسلوب محددّ وموّحد يهدف إلى إنجاز توثيق موضوعي لتلك المنشآت في المرحلة ما بعد الصناعيّة. عبر اللجوء إلى الأسلوب ذاته، يقدمّ تيسير البطنيجي صوراً توثيقيّة للمنشآت الحربيّة الإسرائيليّة في الضفّة الغربيّة. صور لـ «أبراج المراقبة» (٢٠٠٨) تشبه بشكلها خزانات المياه التي التقطتها الثنائي بيكير. التوثيق مقابل التوثيق، لعل تلك المنشآت الإسرائيليّة تحاكي صور بيكير وتصبح من مرحلة ما بعد الحربيّة.
في عام ٢٠٠٨، قدّم البطنيجي عرضاً أدائياً حمل عنوان «كما الماء». هنا، كتب على الأرض بواسطة الماء الكلمات الـ 109 عن المياه في اللغة العربيّة واستعملها محمود درويش في ديوانه «ذاكرة للنسيان» نقلاً عن ابن سيده. المياه ذلك العنصر الأساسيّ في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، يفوق ذكره في اللغة العربيّة عنه في اللغة العبريّة. أمّا في معرضه في بيروت، فيقدّم البطنيجي عمله «ذاكرة المياه» (٢٠١٤): خمسة ألواح كتبت عليها النصوص ذاتها بـ «الراتنج» هذه المرّة، لتبقى بين الحاضرة والغائبة.
ذلك الحاضر والغائب نجده أيضاً في «شهداء». خطّ طويل من اللوحات نخالها سوداء عن بعد، لكن عندما تقترب منها وتنظر إليها من زاوية محددة، سوف تجد أنّها تخبّئ وجوه شهداء فلسطينيين. شهداء صفّت صورهم على الجدران، ومهما مرّ عليهم الزمن، وخلنا أنه لفّهم النسيان، سوف يبقون هنا طيفاً حاضراً وغائباً، ليكتبوا عبر صورهم تاريخاً حاضراً وغائباً.

تلك هي بعض أعمال الفنان الفلسطيني تيسير البطنيجي في معرضه «الذاكرة دوماً خضراء»، إلى جانب معرض «سمعت الأساطير ولكنّي فهمت أن عليّ تحرير نفسي، ولكن كيف ومتى وأين» للفنانة المصريّة آنّا بوغيغيان.


«الذاكرة دوماً خضراء»: حتى ٧ آذار (مارس) ٢٠١٥ ـــ «غاليري صفير زملر» (الكارنتينا) ـ للاستعلام:01/566550


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق