غسان سلهب ينظر إلى بيروت من «الوادي»

يتلقّى كارلوس شاهين مساعدة من أشخاص يحاولون إصلاح سيارتهم، بعدما نجا من حادث سير على طريق البقاع. ما اسمه؟ من أين هو آت؟ وإلى أين يذهب؟ لا أحد يعلم ولا حتى هو. فقد ذاكرته بعد الحادث. يساعدهم في إصلاح سيارتهم، فيأخذونه معهم إلى مزرعة مخفيّة في البقاع. كارول عبود، فادي أبي سمرا، منذر بعلبكي، يمنى مروان، عوني قواص، رودريغ سليمان وأحمد غصين يعملون في تلك المزرعة المحمية بالسلاح، وبسريّة لإنتاج المخدرات.
مع نهاية «الوادي»، تستعيد تلك الشخصية ذاكرتها لحظة اقتحام الطائرات سماء البقاع، فتندلع حرب ضخمة في الشرق الأوسط، ويطاول الدمار بيروت. هل أفسدنا عليكم حدوتة الفيلم؟ ربما. لكن الحدوتة لم تكن يوماً العنصر الأهم في أفلام غسان سلهب (1958)، إنما البحث عن تجليات زمن الكارثة وما بعدها في السينما. منذ أن بدأ سلهب صنع أفلامه في التسعينيات، حاول فهم وتصوير ذلك الزمن في بيروت المدمّرة جراء حرب أهليّة، وعلاقته وعلاقة سكانها بها. في السنوات الأولى، كان ثقل الماضي مسيطراً على المدينة. ماضٍ يعود ليقلق راحة من قرر متابعة الحياة كأن شيئاً لم يكن، فكانت «أشباح بيروت» (١٩٩٨). لكن بعد سنوات على محاولة التأقلم مع الحاضر، وجد سلهب المدينة وسكّانها خائفين من النظر إلى الماضي أو التطلع إلى المستقبل، عالقين في «أرض مجهولة» (٢٠٠٢). مَن استطاع متابعة العيش في مدينة اغتُصبت ذاكرتها، تحول إلى مصاص دماء يعيش على «أطلال» (٢٠٠٦) تلك المدينة إلى أن غادر سلهب بيروت. حمل حقيبته وصعد إلى عزلة «الجبل» (٢٠١٠) ومن الجبل توجّه إلى «الوادي» (٢٠١٤). هل فعلاً صنع سلهب أفلاماً خارج بيروت؟ أمّ أنه صنع أفلاماً عن غضبه على شخصياته التي حاولت الهروب من بيروت؟ غضب أشبه بغضب الآلهة الإغريقية على من قرّر تغيير مصيره من البشر. في فيلمه الأول خارج بيروت، هرب فادي أبي سمرا من المدينة إلى «الجبل» بحثاً عن العزلة والصمت. هناك، أراد سلهب أن يستكشف الإنسان خارج سياقه المديني. وضعه في غرفة في فندق بعيد. أقفل باب الغرفة عليه، وأغرقه في الصمت والسواد. وحين قرر فادي أبي سمرا الخروج في رحلته الوحيدة إلى الطبيعة في نهاية الفيلم، اصطدم بالموت، بانتحار المخرج فوق الثلج. عاقبه سلهب وعاقب ذاته بالموت خارج المدينة. في «الوادي»، عاد كارلوس شاهين إلى لبنان كي يلتقط صوراً لبيته الذي احتله السوريون في البقاع، وأصبح اليوم محرراً. عاد ليستعيد جزءاً من ذاكرته. لكن لحظة تطأ قدمه أرض البقاع، سيصاب بحادث يفقده ذاكرته. في وسط سهل البقاع، يقف رجلٌ، ليس شبحاً من «أشباح بيروت»، ولا مصاص دماء من «الأطلال»، وليس في «أرض مجهولة»، وإنما هو الأرض المجهولة، بلا ذاكرة، ولا تاريخ. أبى سلهب أن يمنح بطله التراجيديّ سلام التصالح مع الماضي، فأفقده ذاكرته.


وضعه في وسط سهل البقاع، وبين مجموعة سرية تتخفى في مزرعة معزولة لصنع المخدرات. رغم أنّ لجميع الشخصيات الأخرى حضورها الخاص والمميز في «الوادي»، إلّا أنها بالمعنى التراجيدي، ليست سوى كومبارس، ومصنع مخدراتها ليس سوى ديكور لتراجيديا ذلك الرجل. خلال الفيلم، تتطور علاقة هؤلاء مع الرجل بين التعاطف والخوف والرغبة الجنسية والحقد. وتبقى تلك الشخصية التراجيدية في منأى عن علاقة الآخرين بها، فجلّ ما تبحث عنه هو استعادة ذاكرتها. ذاكرة لن يعيدها سلهب إلى بطله إلّا حين تندلع حرب ضخمة تدمّر الشرق الأوسط ومن ضمنها بيروت. حتى تلك الحرب المدمّرة يوظفها سلهب في معاقبة بطله. ما نفع استعادة الذاكرة في تلك اللحظة إلا لإعادة تكريس دوامة الكارثة التي علقت فيها تلك الشخصيّة التراجيديّة؟ حتى اليوم، لم تغب بيروت عن أفلام سلهب، بل خرج منها ليراها عن بعد ويطرح أسئلة مختلفة ويرسم لها مصيراً يتكرّس فيه زمن الكارثة وما بعده. ويبقى «الوادي» ثاني الثلاثيّة، بعد «الجبل»، فيما يعمل سلهب حالياً على الفيلم الأخير. وبعد تقديم «الوادي» (إنتاج «أبوط») في مهرجانات عدة ونيله جائزة أفضل إخراج في «أبو ظبي»، ها هو يصل إلى بيروت ليُعرض ضمن «أيام بيروت» (14/3) قبل أن يُطرح في الصالات اللبنانية.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق