كارول عبود... «خطوات» العزلة والخوف


كارول عبود في العرض (مروان بوحيدر)
في تجربته الإخراجية الأولى، ذهب يوسف الكبرا إلى أحد أواخر نصوص المعلّم الايرلندي. عمل مينمالي تؤدي الممثلة اللبنانية بطولته على خشبة «دوار الشمس» حيث شبح الأم يحوم في الجوار.
اختار المخرج الفلسطيني المولود في سوريا يوسف الكبرا (١٩٨٥) العمل على نصّ «خطوات» لصموئيل بيكيت، لتقديمه على خشبة «مسرح دوّار الشمس» بالعربية الفصحى مع الممثلة اللبنانية كارول عبّود. «خطوات» مسرحية قصيرة (٣٠ د) تقدم شخصية الأربعينية ماي التي تعيش مع والدتها العجوز والمريضة. لا تعرف ماي شيئاً عن الخارج. أنجبتها أمّها في سنّ متأخرة، وأمضت حياتها تساعد أمّها في عجزها وترعاها. ضمن عزلتها، تعيش ماي في التكرار والاجترار الذي يتجسّد على المسرح في الحركة التي تقطعها ذهاباً وإياباً في أروقة من الضوء، وفي حوار دائم مع والدتها.
كتب بيكيت نصّ «خطوات» عام ١٩٧٥، وقدّمه في مسرح «رويال كورت» في لندن عام ١٩٧٦. إنها من مسرحياته المينيماليّة الأخيرة التي اعتمدت على الشخصيات النسائية، وتجاربها في الحياة، بدلاً من الرجال الذين احتلّوا معظم أعماله الأولى. يشير بعض النقاد إلى أنّ شخصيّة ماي قد تعود إلى والدة بيكيت.
أثار اهتمام الكبرا التشابه الكبير بين حال الشخصية الرئيسية ماي وحالتنا اليوم، وما يلفّها من عزلة وخوف من الاتصال مع الخارج. يقول لـ «الأخبار» إنّه لم يشأ أن يقدّم إخراجاً معاصراً لنص بيكيت، بل أراد المحافظة على تركيبته للعرض، تاركاً للجمهور البيروتي التفاعل مع «خطوات». فعلاً، إذا قارنا العرض الذي أخرجه بيكيت عام ١٩٧٦ والمتوافر على يوتيوب، فإنّ عمل يوسف الكبرا اليوم عام ٢٠١٤، يبدو استعادة حرفيّة لعرض بيكيت، بل كأنه عرض من إخراج بيكيت وتنفيذ الكبرا. إلاّ أن الأخير أجرى تعديلات قد تبدو بسيطة لكن جوهريّة، تصبّ في المنحى الدراماتورجي للعرض في مقاربة النص أكثر من الإخراج العام وإدارة الممثل. تعديلات لا بدّ من التوقف مليّاً عندها، لأنّها تطرح أسئلة كثيرة.
عندما كتب بيكيت «خطوات» وأخرجها، طلب من بيلي وايتلو تأدية دور «ماي» على الخشبة، ومن روز هيل تأدية صوت الأم العجوز من دون أن تظهر على المسرح. أما الكبرا، فاختار أن تلعب كارول عبّود دور «ماي» على المسرح، وسجّل صوت الأم العجوز بصوت عبود أيضاً، فتحول النص من حوار إلى ما يشبه المونولوج الذي تؤديه ممثلة واحدة بصوتين.
لا جدل في أن بيكيت أراد أن يوحي أنّ ماي ووالدتها قد تكونان شخصاً واحداً، أو أن لا وجود فعلياً للأم، بل هي صوت في رأس ماي. لذلك، وضعها وسط مسرح كبير وفارغ، وتركها تخطو خطوات ثقيلة ضمن «كوريدور» ضوئي لا ينير سوى جسدها وفستانها الذي تجرّه وراءها. خيار التزم به الكبرا. لكن بيكيت اختار لصوت الأم ممثلة أخرى يسمعها الجمهور ويشعر بوجودها في إحدى زوايا ظلمة المسرح الشاسعة. عندما سألت الممثلة بيلي وايتلو بيكيت إن كانت الشخصيّة ماي متوفيّة، أجابها: «دعينا نقول فقط إنك لست بأسرك هناك». تلك الإجابة تختصر مسرحيّة «خطوات». العرض قائم على عجز الجمهور عن تحديد ما إذا كانت ماي ووالدتها موجودتين فعلاً أم لا. تلك هي حالة العزلة والتقوقع التي لم ينقطع فيها حبل السرّة بين الابنة ووالدتها. ما من حتميّة هنا، لا بل واقع بيكيتي بامتياز.
أما الكبرا، فلغى وجود الأم الجسدي على المسرح وحوّلها إلى مكبّر للصوت. لا نراها لكن نسمعها، فلا ندري إن كانت فعلاً موجودة أم لا. وعبر مزج صوت الأم وصوت الابنة، حتّم الكبرا علينا قراءة العرض من باب أنهما شخصيّة واحدة، فألغى المساحة الدرامية التي تمتزج فيها الشخصيتان وتنفصلان في ذهن المشاهد. المساحة التي تغذي الشكّ بأن أياً من الشخصيتين موجود أو غير موجود. ألا يضرب هذا التعديل الدراماتورجي جوهر المسرحيّة؟
كما أن بعض النصوص كتبها بيكيت على أنها حوارات، ثم تلقيها إحدى الشخصيات بصيغة المونولوج. والمقصود منها الإيحاء بأن ماي تألف كل ما تقوله الآن في لحظة نطقها له، فتصبح جميع الحوارات متخيّلة، إذ إنه لم يعد لها من رفيق في عزلتها سوى الكلمات. لكن عندما تتحول تلك النصوص في عرض الكبرا إلى حوارات فعليّة بين الوالدة والأم، ويضاف إليها صوت طفلة صغيرة مسجلّ، ألا تعيد هذه المقاربة تلك النصوص إلى مثيلاتها من الحوارات الأخرى في النص، فتفقد معناها وامتدادها إلى أبعاد أخرى في العزلة التي تعيشها ماي؟
أما خيار إلغاء المشهد الرابع من العرض، فغير مبرر، خصوصاً أن الكبرا أصرّ على تقديم العرض في «كوريدورات» الضوء ذاتها التي اقترحها بيكيت. في النص الأصلي، اختار المعلّم الايرلندي مشهداً رابعاً وأخيراً حيث يظهر كوريدور الضوء ذاته فارغاً من ماي للحظات ثم ينطفئ. نهاية كتبها بيكيت نصاً لا يحمل كلمات، لكنه في فراغه جزء من تركيبة العرض ونهايته، وهو مفقود في عرض الكبرا.
في تجربته الإخراجية الأولى، اختار يوسف الكبرا مغامرة صعبة مع نصّ مينيمالي لبيكيت. أراد الابتعاد عن زجّ النصّ في سياقات ورؤى إخراجية معاصرة، لكن بالتعديلات التي أجراها، أفقده عناصر أساسيّة.
امرأة خارج الزمن
تقول كارول عبوّد لـ «الأخبار» إنّ «خطوات» عرض صعب. رغم ما يوحي به من بساطة شديدة، حتى نخال أنه أشبه بتمرين تمثيليّ، إلّا أنه شديد التعقيد، لا بل إنه من النصوص التي يجب العمل عليها لمدّة طويلة جداً لإتقان تأديتها. مدّة غير متاحة ضمن سياق الإنتاج المسرحي العربيّ. غير أنّ عبّود استطاعت أن تجسد الصورة التي طلبها بيكيت من الممثلة بيلي وايتل: إنّها صورة امرأة خارج الزمن.
* «خطوات»: 20:30 مساءً حتى 9 أيلول (سبتمبر) ــ «مسرح دوار الشمس» (الطيونة ـ بيروت) ـ للاستعلام: 03/692592

نشر في جريدة الأخبار 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق