مرزاق علواش يسائل العفو العام في "التائب"



التائب
الجزائر، 2012، ملون، لغة عربية، ساعة و27 د.
المخرج: مرزاق علواش / كاتب السيناريو: مرزاق علواش / المصور: محمد طيب لاغون
الممثلون: نبيل العسلي (رشيد)، خالد بن عيسى (الأخضر)، عادلة بن دمراد (الزوجة)
الجوائز:
-    جائزة شبكة قاعات العرض الأوروبية/ أسبوع المخرجين – مهرجان "كان" السينمائي – 2012
-    جائزة أفضل فيلم روائي طويل/ مهرجان الدوحة ترابيكا – 2012
-    جائزة هوغو الفضية/ مهرجان شيكاغو السينمائي الدولي – 2012
-    جائزة فيبريسكي لأفضل فيلم طويل / مهرجان كيرالا السينمائي الدولي – 2012



يركض في الثلج، هارباً من ماضيه، من الجبال حيث يختبئ الجهاديون الإسلاميون في الجزائر، عائداً إلى بيته طالباً أن يعود إلى الانخراط في الحياة الاجتماعية الطبيعية. إنه رشيد (نبيل العسلي) أو "التائب"، الصفة التي  يطلقها عليه وعلى أمثاله أهل الجزائر. بعد عشر سنوات من الحرب الأهلية في الجزائر التي عرفت بالعشرية السوداء، أصدرت السلطات الجزائرية بقيادة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عام 1999 ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، الذي يعفو عن المسلحين الذين لم يقترفوا أعمال قتل أو اغتصاب. هكذا وصل الشاب العشريني رشيد إلى بيته بعض طول غياب، واستقبله أهله بحرارة، بعكس بعض أهل القرية الذين أرادوا قتله انتقاماً لجرائم وقعت في عيالهم، رغم أن شهادة رشيد بأنه براء من تلك الجرائم، وبأنه لم يقتل أحداً في حياته. لن يبقى التائب طويلاً في القرية، بل سوف يغادر إلى المدينة، ويسجل عودته عند الشرطة كما يشترط القانون، ليبدأ بعدها بالعمل في مقهى بعدما حلق ذقنه. قرب مقر عمله الجديد سوف يتعرف رشيد على الصيدلي "الأخضر" (خالد بن عيسى)، ليعود الماضي من جديد إلى الواجهة. هنا يقرر رشيد أن يبيع  معلومة مهمة جداً تعني الأخضر مقابل مبلغ كبير من المال ليتمكن من السفر ومغادرة البلاد بعيداً. بعد لقاءات عدة مع رشيد، يستدعي الأخضر زوجته (عادلة بن دمراد) التي انفصلت عنه منذ مدة، لينطلق الثلاثة في رحلة صوب الجبال حيث الغرض المنشود.
لن تنكشف تلك المعلومة التي تجمع رشيد بالأخضر وزوجته سوى في الجزء الأخير من الفيلم، والتي لن نفسدها عليكم بل ندعوكم لمشاهدة الفيلم. خاصة أن المخرج مرزاق علواش عمد في تركيبة السيناريو إلى بناء توتر متصاعد مع تقدم الأحداث عبر إخفاء تلك المعلومة. في المقابلة الأولى ما بين رشيد والأخضر، سوف نلاحظ الريبة التي تعتري وجه رشيد، ثم مكالمات هاتفية، ولقاءات ما بين الإثنين لن يسمح لنا المخرج بالإطلاع على تفاصيلها، لكننا على يقين بأن لدى رشيد ما يهمّ  الأخضر وزوجته رغم انفصالهما. مقابل ذلك التوتر واللغز المسيطر على إيقاع الفيلم، اختار علواش الصمت أيضاً عنصراً أساسياً من مكونات "التائب". صمت يلقي بثقله على المشاهد، ويضعه في مواجهة مباشرة مع محاولة فهم حيثيات الأحداث ومشاعر الشخصيات عبر حركة أجسادهم وتعابير وجوههم.
ما بين التوتر والصمت نجح مرزاق علواش في نقل معضلة العفو الطارئ التي يعاني منها المجتمع الجزائري إلى الشاشة. طارحاً أسئلة حول مدى تقبل المجتمع الجزائري لهؤلاء التائبين، وإمكانية انخراطهم الفعلي في المجتمع دون ثقل الماضي، ودون إجراء محاكمات عادلة. ولكي لا تسقط شخصية التائب في نمطية شخصيات الجهاديين الممثلة في السينما عادة، اختار علواش العمل مع نبيل العسلي، ممثل صغير السن وملامحه لطيفة غامضة في الوقت ذاته، تاركاً شكوكاً تلف حقيقة إذا ما كان فعلاً نظيف اليدين. مما يصعب على المشاهد سهولة الحكم عليه وتصنيفه ضمن المجرمين أم لا، الأمر الذي يفسح مجالاً للتعاطف معه. تلك المقاربة للشخصيات يتبعها أيضاً مع الصيدلي وزوجته، وفيما يخص علاقتهما وانفصالهما فيما بعد، حتى لقائهما من جديد اليوم، وانعكاس ذلك على تفاعلاتهم المتفاوتة. تلك المقاربة تبيّن التعقيدات التي يعجز المشاهد أمامها عن فرز الشخصيات ما بين نمطية الصالح والشريرالمعتمدة غالباً في الأفلام التجارية الهوليودية، لتأتي أقرب إلى الواقع، وطارحة معضلات حقيقية. إنها ليست المرة الأولى التي يعمل فيها علواش مع الممثل نبيل العسلي، فالأخير شارك أيضاً في فيلم "حراقة" (2009) كما في فيلم "نورمال!" (2011)، الذي شاركت فيه أيضاً الممثلة "عادلة بن دمراد"، أما بالنسبة لخالد بن عيسى فهي مشاركته الأولى في أفلام علواش. في "التائب" قدم الممثلون الثلاثة أداء مميزاً، خاصة في ذلك اللعب ضمن الصمت  طوال المشاهد الأولى للفيلم، وفي الشحن التصاعدي خلال المشهد الأخير، حيث نرافق رشيد والأخضر وزوجته في السيارة ما بين جبال الجزائر. لقاء يجمع الجلاد بالضحية. مشهد بليغ جداً يظهر المشاعر الإنسانية في لحظات المواجهة. كأن بذلك المشهد تجسيداً مكثّفاً للمرحلة الانتقالية التي يعيشها المجتمع الجزائري: هل يستطيع فعلاً أهل الضحية الصفح عن ما مضى ومسامحة القاتل؟ وهل يستطيع الجهاديون السابقون التخلص من ثقل ماضيهم، والانطلاق نحو بداية جديدة؟
مرة جديدة يضع المخرج الجزائري مرزاق علواش كاميرته على الجرح، ويوجع السلطة الجزائرية التي حرمته الدعم الإنتاجي في فيلمه الأخير "التائب". ذلك الهجوم من السلطة رافق المخرج في فيلمه "حراقة" الذي يتناول موضوع الهجرة غير الشرعية من الجزائر إلى أوروبا وخطر الموت في كل لحظة، ثم في "نورمال!" الذي ينتقد فيه الجزائر ما بعد الثورات العربية في مصر وتونس، كما ينتقد الرقابة على الفن. لكن علواش يستمر ويتطرق في "التائب" إلى موضوع ما زال حساساً في المجتمع الجزائري حتى اليوم، مقدماً معالجة فنية سياسية، وطارحاً أسئلة موجعة لا بد للجزائريين وجميع الشعوب التي عانت من الحروب الأهلية أن تحاول التوقف عندها ومناقشتها.

نشر في رصيف ٢٢






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق