حرب الآخرين على أرضنا؟


للوهلة الأولى، وعند دخولك صالة معرض إيلي أبو رجيلي في «المعهد الفرنسي في بيروت»، تخال نفسك تدخل مقبرة أو قاعة تنتظر فيها التوابيت موعد الدفن. لكنها هنا معلّقة في حالة انتظار. ٢٤ صندوقاً خشبياً، وزعت في القاعة بشكل متوازٍ ومرفوعة عن الأرض على طاولات. داخل هذه تلك الصناديق (ما عدا واحداً)، تجد في الوسط قناعاً شفافاً وملوناً، وعلى يمينه ويساره مادتان: الأصل والمتحول (مياه/ ملح ــ خشب/ أقلام رصاص ــ حبر/ نصوص على ورق...).
فوق هذه الصناديق الـ ٢٣، ترتفع قصبة تحمل مستطيلاً بداخله مرآة أمامية وأخرى خلفية. أما في الصندوق الـ ٢٤، فلا مرآة ترتفع فوقه، بل هي موضوعة داخل الصندوق. في مواجهة تلك الصناديق، على حائط المعرض جدارية كبيرة تغطيها آثار عجلات ملونة مرّت عليها، وفي أسفلها رسم الفنان وجهه وأقنعة أخرى. وقدم في الغرفة الداخلية للمعرض فيديو عن اختلاط المواد، والذاكرة، والهروب.
في كتيب صادر مع المعرض، قدم إيلي أبو رجيلي نصاً يعلن فيه عدم مسؤوليته عن أي شيء. الحديث عن المسؤولية هنا يقع في إطار الحرب الأهلية اللبنانية. أبو رجيلي المولود عام ١٩٦٠ في شارع غندور سمعان في منطقة عين الرمانة، عاش وكبر في المنطقة التي شهدت اشتعال الحرب الأهلية مع حادثة بوسطة عين الرمانة. تلك البوسطة التي تركت أثر عجلاتها على حياته، وعلى الجدارية التي تملأ فضاء المعرض. أما عن تلك الأقنعة الموزعة في الصناديق، فيقول أبو رجيلي إنّه أرادها شفافة لأنها عديمة التأثير، بل تعكس أفعالاً ليست مسؤولة عنها. تبقى تلك الأقنعة بألوانها المتعددة مجهولة الهوية. لا تجسد أحداً، لكنها أيضاً تمثّل الجميع، من مات ومن نجا، ومن مات وهو ما زال حياً في الجسد. أما المواد التي وزعها على يمين الأقنعة ويسارها، فتجسد مسار الحياة التي تخترقها حرب، من الأصل إلى المتحول، ليتساءل: «ماذا فعلت في حياتك في ما بعد؟ هل مثالك هو البناء أم الرماد؟ التفكك أم التجميع؟». عبر تلك المرايا في كل مكان، تجد صورة وجهك منعكسة في تلك المرتفعة فوق الصندوق، وصورة مؤخرة رأسك منعكسة في مرآة أخرى فوق صندوق خلفك. مواجهة مفروضة عليك أينما تحركت بين تلك الصناديق داخل المعرض، إلى أن تصل إلى الصندوق الأخير، حيث تنعكس صورة وجهك داخل الصندوق كأنه سيطبق عليها ليحبسها بداخله إلى الأبد. داخل صناديق ذخائر كانت بالأمس تحمل الموت. أما اليوم فأصبحت تحمل ذكرياته.
المادة الأصل، وتلك المتحولة، أقنعة، وآثار العجلة، جميعها مواد حرب يدعونا عبرها إيلي أبو رجيلي إلى مواجهتها في المرآة وفي حياتنا وذاكرتنا. لكن عن أي مواجهة يتحدث حين يعلن أنه غير مسؤول، ورافض للأحكام؟ ألا يعيدنا رفض المسؤولية تلك إلى خطاب «حرب الآخرين على أرضنا» الذي يعفينا من المواجهة؟ لا إنها ليست عجلات بوسطة عين الرمانة التي رسمت انطلاق الحرب، وليست «البوسطة تابوت براءتنا»، بل إنه الرصاص الذي أطلقته أيدينا على تلك البوسطة ومن فيها. نعم كلنا مسؤولون. حتى من ولد بعد الحرب الأهلية مسؤول عن استمرارها، في ظلّ ذلك الانتهاء الوهمي للحرب. لا لسنا ضحايا، بل نحن الجلادون، ونحن من نرقص اليوم فوق المقابر الجماعية، وعلى أنغام أحزاننا، ونرفع مجرمينا فوق أكتافنا.
أما حروبنا الأهلية، وذاكرتنا ومسؤوليتنا، فلا تواجه على الأراضي الفرنسية. كيف لفنان أن يقدم معرضاً سياسياً يعلن فيه عدم مسؤوليته عن حرب شعبه، أن لا يتنبّه إلى خيار سياسي في مكان تقديم المعرض؟ أليس حريّاً بابن منطقة عين الرمانة ومدير قسم الفنون التشكيلية في «معهد الفنون الجميلة» في الجامعة اللبنانية في فرن الشباك التي شهد مبناها الحرب أن يختار مكاناً أكثر التصاقاً بسياق المعرض وبجمهوره؟ تلك ليست تفاصيل لوجستية صغيرة. كما أنّ الكتيب المرافق للعرض والمنشور باللغة الفرنسية فقط والمتضمن لنصوص مكمّلة للمعرض ليس خياراً عفوياً.
قد يختلف كثيرون مع الفنان وليد صادق في مقاربته الفنيّة والفلسفيّة للحرب الأهلية اللبنانية، ولكنه في خياراته الفنيّة والسياسية واللوجيسيتية يعلم من يخاطب وكيف. أما الفنان إيلي أبو رجيلي فقد اختار إعلان عدم مسؤوليته عن حربه الأهلية باللغة الفرنسية وعلى أرض فرنسية، ربما تلك ليست مصادفة، وإنما خيار سياسي.
«ذاكرة 75»: حتى 27 حزيران (يونيو) الحالي ــ «المعهد الفرنسي في بيروت»، للاستعلام: 03/498051

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق