قادر عطية لا يتنكّر لندوب بيروت



في «صراع الطبيعة» الذي يحتضنه «مركز بيروت للفن» يميّز الفنان الجزائري بين كيفية فهم وممارسة الترميم لدى الغرب الحديث والحضارات القديمة غير الغربية. نقاش يصبّ مباشرة في إشكالية إعادة الإعمار في العاصمة اللبنانية بعد الحرب.
يستقبلك طائر القيثارة في الغرفة الأولى، مقلّداً الأصوات الدخيلة على عالمه، ليعيد تقليد تلك الأصوات العدوّة في «محاكاة كفعل مقاومة». على سطوح صفائح مدينة القصبة، تسير إلى الغرفة الثانية. وكما استلَفَ عمال جزائريون بعض مواد البناء التالفة من مشاريع سكنية استعمارية وبنوا مدناً عربيّة بربرية، مرمّمين مساكنهم، لتتحول إلى عشوائيات مثالية، استلف الفنان أيضاً الصفائح وألواح الخشب، والدواليب ومواد أخرى من بيروت وضواحيها ليبني تجهيزه الفنيّ «القصبة». في الغرفة الثالثة، متحولون جنسياً يرممون أجسادهم بحثاً عن هويتهم الخاصة، وحضارات أفريقية قديمة ترمم أدواتها وأقنعتها، وأطراف اصطناعية ترمم جسد الإنسان، وأطباء يرممون وجوهاً تضرّرت بعد الحرب العالمية الأولى، وغرب يرمم صورة مستعمراته، ومستعمرات سابقة ترمّم صورتها عند الغرب، وأخيراً تصدُّع في أرضية «مركز بيروت للفن» يرمّمه قادر عطية (1970).
شغل مفهوم الترميم، الفنان الجزائري الفرنسي المقيم حالياً في برلين، حيث كرّس له اهتماماً وأبحاثاً طويلة في علم الفلسفة والتاريخ والهندسة المعمارية. قدّم نتاجاته في معارض عدة حمل آخرها عنوان «ترميم: خمسة فصول» (أيار/ مايو 2013) في برلين. انطلاقاً من عمله «المحاكاة كفعل مقاومة» الذي اختتم به معرضه الأخير، يفتتح اليوم معرضه الفردي الجديد في «مركز بيروت للفن» تحت عنوان «صراع الطبيعة» (الصراع بين الطبيعة الأم والطبيعة الإنسانية).
يطرح قادر عطيّة في معرضه البيروتي زاوية مختلفة لمقاربة الترميم، أكان عبر مظاهر طبيعية أم عبر الهندسة المعمارية وصولاً إلى جسد الإنسان. يستند الفنان في أبحاثه إلى مراجع عدة مثل راسل والاس وداروين ودي أندرادي وفرانز فانون وسيمونيه ولو كوربوزييه وغيرهم. لن نقدم هنا وصفاً للمعرض أو تفسيراً اختزاليّاً لجهود طويلة ولطروحات معقدة، خصوصاً أنّ الفنان وفّر لزوار المعرض نصاً يقدّم عبره شرحاً مفصلاً لجميع الأعمال المعروضة، ويوضح السياقات والمراجع المرتبطة بكل عمل. لكن انطلاقاً من المعرض الذي اختار الفنان إقامته في بيروت تحديداً، لا بد من أن نحاول تقديم قراءة موازية للمعرض انطلاقاً من هذه المدينة، مدينة الترميم بامتياز.
في معرضه، يميّز عطية بين كيفية فهم وممارسة الترميم لدى الغرب الحديث ولدى بعض الحضارات القديمة غير الغربية. «يفسّر الغرب الحديث الترميم وفق الأصل اللاتيني للكلمة (reparere)، أي العودة إلى الحالة الأصليّة. بعض الثقافات غير الغربيّة تعتمد مفهوماً معاكساً. عندما تكسر قطعة أثرية، على الترميم أن يبقى بارزاً». مقاربة الترميم في الغرب الحديث ليست سوى نتيجة مفهوم «الحداثة الغربية» التي ترى طلاقاً بين الطبيعة والثقافة. وبذلك تتحدى الطبيعة في الانتصار على التلف، وإعادة الشيء إلى شكله الأول، مخالفة المجرى الطبيعي للأمور. ذلك الطلاق «الحداثي» الغربي بين الثقافة والطبيعة ينتقده بشدّة الفيلسوف الفرنسي برونو لاتور في كتابه «لم نكن حداثيين أبداً»، ويتفق معه قادر عطية، وعليه يبني معرضه. «التلف مصير كل مادة، وإرادة الإنسان بإعادة شكلها الأول أمر يخالف المجرى الطبيعي للأمور: إنّها منافية للطبيعة». أما عند الحضارات القديمة غير الغربية، وفي صور فوتوغرافية يقدمها عطية في معرضه، نلاحظ اعتماد الترميم الظاهر لأقنعة وأشياء أخرى، ما يحفظ أثر الضرر ولا يتنكّر له. يصبّ الترميم هنا في التطبيق العملي، والتأقلم مع البيئة.
من الواضح أننا في لبنان، وفي بيروت تحديداً اخترنا المنهج الغربي، والصدام مع الطبيعة. أعدنا ترميم الوسط التجاري ليعود كما كان، وبذلنا جهداً كبيراً لإخفاء جروح حرب شهدتها المدينة، وتركت أثرها على هندستها المعمارية. والملاحظ أننا فشلنا فشلاً ذريعاً في التأقلم مع بيئتنا، خصوصاً عندما أعدنا ترميم العمارة في وسط بيروت لتعود إلى سابق عهدها، كأنّ حرباً لم تحدث. ثم أضفنا عمارات أخرى تشبهها في الشكل، تبدو كأنّها مرممة، لكنها في الواقع عمارات حديثة. أما المباني التي تم الحفاظ عليها ضمن حالتها المتضررة، فلم نجد سبيلاً حتى اليوم إلى ترميمها بطريقة لا تلغي الماضي، بل تعيد استيعابه ضمن الحاضر. لذلك بعد مرور ٢٤ عاماً على انتهاء الحرب، لم نجد الوسيلة لترميم عمارات مثل «سيتي سنتر» وبرج المر و«هوليداي إن». حتى أنّ الشارع الذي يجمع «هوليداي إن» و«فندق فينيسيا» كان يمكنه ببساطة أن يكون جزءاً من معرض «صراع الطبيعة» لقادر عطية. رُمّم «فندق فينيسيا» ضمن سياسة إعادة وصله بما يسمّى الفترة الذهبية لبيروت، مع تجاهل حقبة الحرب التي مرّت عليه. وبدلاً من أن نجد حلاً لترميم «الهوليداي إن» بطريقة ملائمة لتاريخ المبنى، فقد أعلن أخيراً عرضه للبيع في المزاد العلني، وترك مصيره معلّقاً بيد المالك الجديد الذي يمكنه هدمه في أي لحظة. إعلان صارخ لفشلنا في التأقلم مع بيئتنا، ولصراعنا مع الطبيعة. ذلك المنطق في الترميم اعتمدته الدولة اللبنانية بأسرها، امتد من العمارة إلى المنهج السياسي والاجتماعي عبر إصدار «قانون العفو العام» عن الجرائم المرتكبة خلال الحرب الأهلية، وعبر سياسة «دعونا ننسى الماضي». سياسة ولدت في صراع مع الطبيعة، وولدت أجيالاً جديدة أكثر طائفية وتطرفاً، وأكثر جهوزية قابلية لإشعال حرب أخرى.

ما الحلّ إذاً؟ يستند عطية في أعماله إلى دعوة الشاعر البرازيلي اوزوالد دي أندرادي إلى تفكيك إرث المستعمر للتخلص منه. في بيروت، علينا تفكيك إرث الحرب للتخلص منه. وكما يقول عطية «ليس الترميم غاية بحدّ ذاته، بل يربطنا بما لا يمكن ترميمه، بما يبنينا ويتفلت منا». إن إخفاء أثر الترميم لا يبني سوى قطيعة مع الطبيعة ستكون آثارها أكثر سلبية في المستقبل. أما الترميم الظاهر والتأقلم مع الضرر فحاجة مرحلية للعبور إلى بيئة سليمة في المستقبل.

«صراع الطبيعة» لقادر عطية: حتى ٢٢ آب (أغسطس) _ «مركز بيروت للفن» (جسر الواطي). للاستعلام: 01/397018

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق